الخروج من عنق الزجاجة !
قدّم “تيم موريتي” ، وهو باحث في مركز التعاون والأمن الدوليين بقسم دراسات السلام التابع لجامعة برادفورد الإنجليزية ، ورقهً حاول فيها الإجابة عن التساؤلات المُلحّة عن سبب أو أسباب عدم نجاح الجهود الخارجية المُمَوَّلة دوليّاً و أمميّاً ، في إدارة النزاعات وبناء سلام فعّال في إفريقيا .
يقول “تيم” في ورقته – محاولاً الاجابة عن تلك التساؤلات وعن أسباب فشل تلك الجهود الخارجية – بأنّ تلك الجهود تُهمل وتتجاهل عن المصادر والإمكانيات المحلية المتمثلة في ثقافة تلك الشعوب القاطنة في القارة، وفي تقاليدها وأعرافها المتوارثة في حل نزاعاتها المحلية على مرّ القرون والأجيال ، وتُحاول استبداليها بأعراف ونظمٍ تطوّرَتْ أو طُوِّرَتْ عن تقاليد أوروبية خالصة تحمل في طيّاتها التراث المسيحي-اليهودي الغربي.
وعندما تُنقل تلك التقاليد الأوربيّة وذلك الإرث الغربي مع حمولاته التاريخية-الثقافية إلى إفريقيا ، تأتي وهي تنظر إلى مشكلات القارّة بذلك المنظار التراثي الغربي المتحيّز عرقيّاً أوّلاً ودينيّاً ثانياً، و ترى كل شيء في القارَّة بأنه محلّيٌّ رجعيٌّ و عديم النفع والفائدة في حلّ المشكلات المعاصرة بكل أبعادها وتنوّعاتها. وانطلاقاً من تلك الأرضيّة – بوعيٍ أو بدونه . تحاول الجهود المُنشَأَة والمدعومة خارجيّاً، جر القارّة السمراء إلى المركزية الغربية التي لا تشبهها في شيءٍ فتفشل تلك الجهود في أغلب الميادين إن لّم تكن في كلِّه.
وأكبر فشل يمكن أن يلحق بإفريقيا ، هو أن لّا توجد فيها (القارّة) دولةٌ ، بجميع مؤسساتها ، قادرةٌ على حلّ النزاعات و بناء النظام على الطّراز الدولي ” الأوربي” ، أو أن لّا تُطبِّق تقاليدها المحلية المتأصلة فيها على وجه الخصوص وفي القادرة على وجه العموم، على معالجة وحلِّ الانقسامات الداخية المنتشرة فيها والبقاء كجماعة واحدةٍ مُراعيةٍ لمصالحها المشتركة تجاه القوى الدولية الأخرى .
إنّ مشكلة تلك الجهود الدولية هي أنّها تُحابِي وتُقرِّب طائفة من المجتمع على حسابِ أخرى، وتستخدم بعضها حسب الدين والثقافة أو العرق ، وتضرب على أخرى وهكذا دواليك . وتُقصي وتُبعد المجموعات الفعّالة في المجتمع الإفريقي وتخلقُ مجموعات جديدة على شاكلة ما تريده هي تحقيقاً لمصالحها وأهدافها السياسية والثقافية والاقتصادية في تلك المجتمعات أو في القارّة على وجه العموم .
إنّ الأصوات التي تطالب اليوم شيوخ القبائل ورجالات الدين بإصلاح ما تم افساده من أمور السياسة، وان يخرجوا الصومال من عنق الزجاجة ، هي أصوات تعلم علم اليقين بأنهم هم الزعماءَ الفعليّينَ للبلد، وإنّ الصومال لا يمتلك مؤسساتٍ حقيقيةٍ لفض النزاع إلا مؤسساته المحلية التي هم على رأسها . وإنّ عدم اكتمال أو تكميل الدستور وعدم امتلاك البلد لمحكمةٍ دستوريةٍ قادرةٍ على حل النزاعات الدستورية مثل النزاع القائم في الوقت الحالي، لهو دليل واضح وحقيقة فادحة بأننا مازلنا خلف مؤسسات ذاتية المنشأ والتي على الرغم القصور والعيوب التي تتحلّلها قادرةٌ وفق المعايير المحلية على لمِّ الشّمل ، و جمع الأطراف على طاولة المفاوضات وعلى مائدة المصالحة ، وتحقيق التراضي ، والخروج بحلول يتقبّلها ويحترمها الجميع.
إنّ غياب شيوخ القبائل ورجالات الدين عن المشهد الحالي ، وصمتهم أمام ربّانين يتقاتلان فوق سفينة الوطن هو اعتراف ضمني منهم بأنهم رضوا بالإقصاء، والاكتفاء بالمشاهدة والتواري عن الأنظار في وسط المجتمع، وهذا الموقف ثقيل وقاسي جدا على الشعب الصومالي الذي مازالت تنزف ذاكرته من ذكرى نزاع أهلي قريب مدمِّر ، ويعاني من أزمة قياديّة حقيقية.
ولا شك أنّ أمتنا الصومالية أمام منعطف تاريخي خطير ، يستلزم منه موقف تاريخي شجاع ، ولحظة وعيٍ وطنية تُعيد موازين القوى إلى مناصيبها الصحيحة، وتُصلِح الشّرخ المجتمعي وتُضَمِّدُ جراحه ، وتمسك الأمور من المنتصف وتُوقفها من التّردِّي. دعوتنا لشيوخ القبائل ولرجالات الدين لا تعني تفردّهم بالمشهد أو احتكارهم له دون الأخرين ، بل هي دعوة مشاركةٍ ودعمٍ كبيرين ، لأن لديهم تفويضٌ مجتمعيٌّ ، وتاريخيٌّ ، وثقافيٌّ ، للتحرُّك في مثل هذا الوقت وفق ما تملية الظروف مراعاة وتحقيقاً لمصلحة الشعب والبلد ، وأن يكون حضورهم فوق كلِّ الحسابات الأخرى الشخصية والمناطقية، وأن يحاولوا جمع الصفوف ورصّها، وأن يرفعوا قدر المستطاع راية الحياد ، وشعارات الاتحاد ، وآيات الإتلاف .
إنّ أيّ تردّدٍ منهم اليوم عن الاقتحام لحلّ الأزمة الحالية، يضعهم على محكِّ الاختبار الحقيقي أمام المجتمع الصومالي وأمام التاريخ ، كما قد يضع البلد على حافّة الهاوية.