قضاة الاستعمار وشرعنته!
لما جاء الإسلام ـ وكانت العبودية واستعباد الناس غطت على أرجاء العالم ـ أغلق جميع منافذ العبودية، ولم يُبق للاستعباد بابا إلا وأغلق، فلم يترك إلا بابا واحدا ـ ضغطا على الأعداء، وكبحا لجماع عدوانهم ـ وهو باب أسرى الحرب من الكفار المعتدين، والظالمين المهاجمين، ومع هذا حفظ لهم حقوقهم؛ لأنه لم يَبن لهم سجونا ومعتقلات مثل السجون السيئة السمعة “كغواتنامة ” وغيرها من السجون القاسية، المعتدية على شرف الإنسان وكرمه.. المتفننة بتعذيب المخالفين.. هل تَصوَّرتَ يوما من الأيام لوكان للنبي ﷺ سجن يعتقل به أسرى الحرب، ومعتقل يسجن فيه المجرمين، فألم يكن ذلك مكانا أثريا يُقاس عليه كيف تعامل الرسول مع المناويين للدين، والمحاربين له؛ ولكنه ﷺ لم يَبنِ سجنا واحدا مع وجود الدواعي لذلك، وكثرة انتشارها في عصره، كالزنزانات الرومانية المرعبة، والسجون تحت الأرض المهولة لدى البيزنطيين المشهورة، وغير ذلك مما هو مشهور ومعروف في عالمنا المعاصر، مما تشهد عليه الآثار الباقية، والحفريات المكتشفة لما كان لهذه الزنزانات من الوحشية والقسوة، مما يَندى له الجبين، وتَرتعش له الأبدانُ، وتَخفق له الأفئدةُ، وتبكي لها القلوبُ الرحيمة.
ولكن النبيّ ﷺ الذي بعثه الله رحمة للعالمين لم يَنسج على منوال هؤلاء، ولم يستمدَّ من نظامهم، ولكنه أخذ من الوحي، ووزع المأسورين في المعارك على المسلمين، وأعطاهم حقوقهم من الأكل، والشراب، والشهوة، والعمل، وحرية التنقل مع عدم تَكِليفهم بما لا يطيقون؛ فإذا تحسنت أحوالهم وأُمن مِن جانبهم رغّب بتحريرهم وإعطاءهم حريتهم كاملة، ففرض الشارع على مَن وجت عليه كفارة، ـ كالظهار، وقتل الخطأ وشبهه واليمين ـ ([1]) أن يعتق رقبة مؤمنة؛ وعلة اشتراطه بالإيمان هو التأكد بتحسن أحوالهم، وتحولهم إلى أعضاء صالحين في المجتمع، لا يهددون أمنه في المستقبل..
ولم يجعل الإسلام تحريرهم منوطا بالكفارات فقط، بل جعلها عبادة مستأنفة من أعظم القربات إلى الله تعالى، ومن أشرف مقامات العبودية لله رب العالمين..([2])
وفي الضفة الأخرى تَلقت الأمة الإسلامية بصفة عامة والصومالية بصفة خاصة غارات المتلاحقة في عقر دارها من الاحتلال الأوروبي، وقد أثمر ثمارا مرًا من استعباد الشعوبِ المغلوبة على أمرها، ونهب أراضيها، واحتلال ديارها، وتعدى على كرامتها، والنيل مِن شرفها، مما يُستحيا بمجرد تناوله كتابيّا، أو قراءته نَظَريًّا.. فإنهم كانوا أمما هَمجيَّة يأكلون الأخضر واليابس، ولا يعرفون الأخلاق والمبادئ، استخدموا جميع وسائل الاستعباد، وجميع طرق الاستغلال، فالاستعمار الإيطالي كان من أخبث الاستعمارات، قسم الشعب الصومالي إلى طوائف وجماعات، وأغرى بعضهم على بعض لتطويل الاحتلال، ولتشغيل الإخوة بعضهم على بعض، وتضخيم الأحداث، وتوظيفها لصالحه.
ولتنفيذ خطته الاستعمارية كوَّن جشا مِن الصوماليين، وخاصة من القبائل المشهورين بالقتال والشراسة، وسماهم ” دوبان” يعني “دُوبْ عَدْ” لأن بدلتهم العسكرية كانت مكونة مِن عمامة بيضاء ورداء وإزارٍ أبيضين؛ لأن الاحتلال لم يكن يريد أن يزيل الملاس القومية التي كانت مشهورة في المجتمع، التي ورثوها عن أجدادهم، وانبثقت من رؤيتهم الشرعية، لأن الثوب الأبيض من أفضل الثياب، لدلاته على النقاء والصفاء، وأنه من السنن المحبوبة لدى الشارع؛ ولذلك تجد بأن الدرويش وعدهم “دُوْبْعَد” كانا يتشابهان مِن حيت الزيُّ، واللباس.
وجيوش “دُوبعَد” كانت تقاتل جنبا إلى جنب مع الاحتلال الإيطالي، ([3]) وضحوا لترسيخ جذور الاحتلال في البلد، وكانوا مخلصين له بأبعد الحدود. وكان المحتل ” دي فيكي” يتعجب “دُوبْعَد” لبطولاتهم النادرة، وشجاعتهم المفرطة، وطاعتهم عميا له، بحيث يسلطهم على إخوانهم؛ لاستخدام القوة المفرطة؛ لسحب السلاح من معارضة الاحتلال، وكانوا يقومون كذلك بعمليات التجسس والاستخبارات، وتعبيد العمال الذين كان يسخرهم الاستعمار بقوة الإكراه للعمل في حقول الموز، والسمسم، والبابايا، والذرة وغيرها من المحاصيل التي تُنتج بعرق العمال المحرومين المكرهين، وتلتهمها أفواه سكان “روما”.
ومن أسوء ما كانوا يقومون به أنهم كانوا يختطفون الشباب، ويسلمونهم إلى شركات الاحتلال لتستعبدهم، وخاصة “شركة العبود “فلونردي Filonardi ، والشركات التي ورثتها؛ ولذلك كان الطلياني المحتل يعتبر عددا من الشبيبة والشابان الذين اختطفهم بأنهم عبيده، وأنه يملكهم كما يملك المتاع، وأسوء من هذا أن الجهة المسؤولة عن القضاء الشرعي العاملة تحت مظلة الاستعمار كانت تعطيه الغطاء الشرعي، وتقرُّ للاحتلال استعباد الشعب المسلم، الذي لم تمست به رقة، ولم يعرف عبودية قبل الاستعمار؛ مما يدل على أن حكم المحاكم كان في يد الاستعمار، وتحت رهن إشارته، ويؤثر الحكم والقضاء لصالحه، وأن القاضي كان يصدر الحكم كما يريده المستعمر؛ ولذلك تجد أن قاضي بنادر في عهد الاحتلال يصدر مثل هذا القرار:
وعند فحص هذا القرار الحامل: رقم واحد، الذي أصدره القاضي: “محي الدين بن الشيخ مكرم” في شهر رجب سنة 1312ه الموافق 1895م. والتتبع الظروفَ المحيطة به وجدناه صحيحا؛ لأن القاضي: محي الدين بن الشيخ مكرم، ويقال ابن معلم مكرم، ولد في مقديشو في سنة 1247ه الموافق 1831م. وكان في هذه الفترة المذكورة قاضيا لدى الاحتلال وموظفا له. وتوفي في 1337هــ الموافق 1919م.
وكيف استساغ لهذا القاضي أن يَقتنع بأن هذا العلج المحتل “فيلوناردي” له الحق أن يستعبد هذا المسلم الصومالي ” عبد الله القَالِي”، ثم يحرره؟ وهل يُحرر الحر، والطامة الكبرى القاضي يعترف بأنه مسلم، وأنه حر ” من أحرار المسلمين”! فالمحتل أولى للتحرير من الساكن الأصلي لبلده.
إذن كيف أصدر هذا القاضي صحة عتق كافر محتل مسلما حرا؟ لأن الكافر لا سلطان له على المسلم، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا؛ ولأن الحكم الذي يني على الباطل فهو باطل؛ ولأن دواوين أهل الإسلام، وكتب مذاهب الفقهاء قاطبة اتفقت على أنَّ العتق لا يصح مِن كافرٍ غاصبٍ، ومَن لا يملك أصلا!
ولكن الإشكالية الكبرى: بأنَّ القانون – دائما – في يد القوي، وأن القضاة موظفون عنده، إلا من رحم ربك؛ ولذلك يضفون الشرعية على شهواته، وإراداته.
وعلى هذا كثير من الصوماليين الأباة رفضوا أن يقبلوا هذه الإهانة، وفضلوا الموت بالشرف على الحياة بالذل والاحتلال؛ فامتشقوا الحسام، وحملوا السلاح؛ لرفع غطاء الاستعباد عن أنفسهم، وأبوا أن يقبلوا الإهانة والاستعمار، واستغلال بأراضيهم. ونشدوا مع عنترة الأبي:
وَاِختَر لِنَفسِكَ مَنزِلاً تَعلو بِهِ أَو مُت كَريماً تَحتَ ظُلِّ القَسطَلِ
فَالمَوتُ لا يُنجيكَ مِن آفاتِهِ حِصنٌ وَلَو شَيَّدتَهُ بِالجَندَلِ
مَوتُ الفَتى في عِزَّةٍ خَيرٌ لَهُ مِن أَن يَبيتَ أَسيرَ طَرفٍ أَكحَلِ
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ
ومن هؤلاء الأباة الدراويش ومن تأثر بهم من الطريقة الصالحية، والرحمانية، في شمال البلد وجنوبه ووسطه؛ فأذاقوا المحتل وجنوده علقما، وحرموا عنهم الراحة والرقاد، واتخذوا منهج المقاومةِ والجهادِ سبيلاً لطرد المحتلين.
بينما اقتنع الآخرون بأرض الواقع تحت قاعدة ﴿لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾ ([4])، فاهتموا بجانب التعليم والتثقيف كوسيلة للمقاومة، وتركوا الاحتلال وشأنه؛ بل في بعض الأحيان تصالحوا معه، وعينهم كقضاة وجنود، وأعطاهم رواتب وإتاوات، وعلى رأس هؤلاء أغلب قادرة الطريقة القادرية؛ ولذلك هاجمت مجموعة من الدراويش على قرية (بِيُولى)؛ لتواجد فيها جيوبٌ من الاستعمار الإيطالي، وكان بعض قادة الطريقة وأتباعهم متواجدين في القرية، فلما وصل نبؤ وصول الدراويش إلى القرية وخرج الناس منها، اختبأ بعض القادة في أحد البيوت؛ ولكنّ الدراويش أشعلوا النار على القرية؛ وهم لا يعرفون شيئا عن شأن تواجدهم؛ ولذلك احترقوا في مخابئهم؛ فما فاجئهم إلا انفجارات الرصاص التي كانت في حوزتهم. ([5])