كتابات راي

أميركا خذلتنا وعلى الصومال أن تواجه مصيرها منفردة

نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية مقالا أعدّه الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود، الذي تولّى إدارة البلاد في الفترة بين 2012-2017، يتحدّث فيه عن التحديات التي يواجهها الصومال حاليا وتُقوِّض تحقيق الديمقراطية والازدهار وبالتالي تحدّ من قدرته على الاندماج في اتحاد إقليمي يضم الدول المجاورة، ويستعرض الرئيس السابق دور الدعم الأميركي في الوصول إلى استقرار الصومال، مُنتقِدا تراجعها عن هذا الدعم في عهد إدارة ترامب.

“الصومال اليوم” يعيد نشر نص المقال مترجم عن مجلة “فورين أفيرز” الأميركية:

في مارس/آذار عام 1977 اقتربت كلٌّ من إثيوبيا والصومال من حافة الحرب في نزاعهما على منطقة أوغادين التي ادّعت كلتاهما السيادة عليها.

وفي حركة يائسة لرئيس كوبا الثوري فيدل كاسترو نحو القرن الأفريقي وضع خطة جريئة لحفظ السلام، وهي إقامة دولة عظمى ماركسية-لينينية، بدعم الاتحاد السوفيتي، تتكوّن من اتحاد إثيوبيا والصومال وجنوب اليمن وإقليم العفر والعيسى الفرنسي (جيبوتي حاليا)، لتتحكّم هذه الدولة بالبحر الأحمر ومدخل قناة السويس المهم للغاية.

كان ذلك الاندماج ليحل العداء الطويل بين إثيوبيا والصومال، وعلاوة على ذلك كان ليُطلق العنان للإمكانات الاقتصادية للمنطقة. وما هو أهم بالنسبة للكرملين، فإن ذلك الاندماج كان ليُعزِّز المكاسب الشيوعية المُتحقِّقة حديثا حينها، وتجعل السوفييت هم القوة الخارجية المسيطرة في القرن الأفريقي.

فشلت دبلوماسية كاسترو المكوكية في كسب الدعم من القادة الإقليميين، وخصوصا دعم قائد الجيش الصومالي سياد بري، وبعدها بفترة ليست بالطويلة دخل الصومال وإثيوبيا حربا ضارية. لكن فكرة اتحاد القرن الأفريقي لم تمت، فبعد أربعة عقود من حرب أوغادين، بقي الهدف من اندماج سياسي واقتصادي أكبر على قيد الحياة، خصوصا في إثيوبيا المُهيمنة الإقليمية الحبيسة التي تعتمد على جيرانها في الوصول إلى البحر. سعت أيضا منظمات إقليمية مثل الهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد) لتبنّي ذلك الاندماج، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي ترى العلاقات التجارية والتعاون السياسي الأعمق بمنزلة حصن منيع ضد عدم الاستقرار والتطرُّف.

سرَّع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد منذ مجيئه إلى السلطة في 2018 مشروع الاندماج الإقليمي، إذ افتعل توثيق العلاقات مع الصومال وإريتريا، عدو إثيوبيا اللدود السابق، وذهب بالأمر إلى حد توقيع اتفاق ثلاثي مع قادة البلدين دُشِّن بموجبه إطار عمل للتعاون السياسي والاقتصادي والأمني، ومما ينذر بالسوء أكثر أن آبي أعلن أن الاندماج الاقتصادي قد يكون مقدمة لآخر سياسي يؤدي في النهاية إلى حكومة وجيش واحد مُوحَّد في القرن الأفريقي.

إن جهود الاندماج السياسي التي تأتي على حساب السيادة ستؤدي حتما إلى تأجيج الصراع وتنتهي بالفشل، لكن حتى جهود الاندماج الاقتصادي التي من المفترض أنها في أوقات السلم تفيد جميع الأطراف قد تأتي بنتائج عكسية في مثل الظروف القائمة حاليا. نظريا، يجب أن تؤدي الحركة الحرة للأشخاص والبضائع بين إثيوبيا والصومال إلى تهدئة التوترات التاريخية، وتقوية الروابط الاقتصادية، وتبنّي النمو والازدهار المشتركين. لكن عمليا، فإن السماح بمثل هذه الحركة قد يُعمِّق الاتهامات المتبادلة، والانفلات الأمني المُزمن الذي عرقل التقدُّم الديمقراطي الصومالي.

ببساطة، فلا إثيوبيا ولا الصومال جاهزان لاندماج أعمق، إذ تنزلق إثيوبيا نحو عدم الاستقرار وتنشغل بكلٍّ من الصراعات الإثنية الداخلية والنزاعات الحدودية مع الصومال وإريتريا. ومن ناحيته، فإن الصومال على الصعيد السياسي مُشتَّت وهشّ، وفي خطر من المتطرفين بالدرجة التي لا تجعله يستفيد كثيرا من اندماج إقليمي حاليا. ولأن القادة الحاليين للصومال قد تبنّوا أجندة الاندماج الإثيوبية دون إسهامات كبيرة من المجتمع المدني والشعب، فإن المُضي قُدما في تنفيذ هذه الأجندة قد يُعمِّق الانقسامات ولن يرأب صدعها. فقبل سعي الصومال لترابط أقوى مع جيرانه، يجب على حكومته أن تُركِّز على دحر حركة “الشباب” المتطرفة المتمردة، وتقوّي هيكل الحوكمة الضعيف المنقسم في الداخل، والبناء على المكاسب الديمقراطية المُحرَزة على مدار العقدين الماضيين.

عانى الصومال من عدم استقرار مزمن لمدة 30 عاما تقريبا، بدأت الحرب الأهلية فيه عام 1991، عندما انهار نظام بري الاستبدادي وأفسح الطريق أمام الصراعات القبلية التي أنتجت في النهاية مساحات شاسعة من المناطق غير الخاضعة للحكم، التي ثبت أنها تربة خصبة للإرهابيين، الذين تدرَّب الكثير منهم في الخارج في أفغانستان وبلدان أخرى، وأسّسوا في النهاية حركة الشباب، وهي أخطر فرع لتنظيم القاعدة في أفريقيا.

في الوقت الذي أقسمْتُ فيه اليمين رئيسا للبلاد في سبتمبر/أيلول 2012، كانت “الشباب” تُسيطر على مناطق واسعة من المدن الكبرى في الصومال. ولكن بدعم الولايات المتحدة، أصبحت حكومتي قادرة على تسليح قوات الأمن الصومالية وتدريبها للمشاركة بفاعلية أكبر في الحرب ضد “الشباب” في صفوف قوات الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام، فاستطعنا معا تكوين كتائب قوات خاصة على غرار قوات الصاعقة البرية الأميركية أُطلق عليها اسم قوات “دنب” أو “لواء البرق”، وسعت هذه القوات وراء “الشباب” خلف خطوط العدو، وأفشلت مخططات إرهابية، وقضت على إرهابيين كبار في ميدان المعركة.

لكن الضغط عسكريا على “الشباب” تراخى في السنوات الأخيرة، إذ زادت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من غاراتها الجوية على الصومال، ورفعت عدد الأفراد العسكريين المُتمركزين حاليا في الصومال أكثر من أي بلد أفريقي آخر، بالإضافة إلى جيبوتي والنيجر. رغم أن ترامب في آخر أسابيع إدارته، فقد تردَّدت أنباء عن أنه ينظر في سحب القوات الأميركية كلها تقريبا. علاوة على ذلك، فإن الحكومة الصومالية وشركاءها العسكريين في الاتحاد الأفريقي قد خفّضوا من وتيرة عملياتهم ضد “الشباب”، حتى إنهم فقدوا السيطرة على مناطق إستراتيجية مثل وادي شبيلي والبلدات المتاخمة للحدود مع إثيوبيا. في الوقت ذاته، شنَّت حركة “الشباب” مئات الهجمات في الصومال والبلدان المجاورة، فمثلا في يناير/كانون الثاني 2020، هاجمت الحركة مطار ماندا باي في مدينة لامو الساحلية الكينية، ما أسفر عن مقتل عدد من الجنود الكينيين والأميركيين.

تُواصِل “الشباب” في إدارة نظام موازٍ في مناطق من العاصمة مقديشو، وفي جنوب الصومال، بما في ذلك مناطق على امتداد الحدود مع كينيا وإثيوبيا. قبل أن يُفكِّر الصومال في تعميق علاقاته بجيرانه ويسمح بحركة أكثر حرية عبر حدوده، يحتاج إلى أن يُحكِم سيطرته أولا على هذه الحدود وعلى المناطق التي تُسيطر عليها حركة “الشباب” حاليا. ولتحقيق هذه الغاية تحتاج الحكومة الصومالية وشركاؤها من الاتحاد الأفريقي إلى العودة إلى ساحة القتال ضد هذه الجماعة الإرهابية، ليس فقط لتحرير المناطق التي تسيطر عليها حركة “الشباب”، لكن للقضاء عليهم للأبد، حتى تستطيع الحكومة كسب القلوب والعقول مُجددا.

إن الحوكمة على المستويين الحكومي والاتحادي ستحتاج إلى التحسين قبل المُضي قُدما في الاندماج الإقليمي، فخلال فترة رئاستي بدأ الصومال عملية اتحادية مُعقَّدة تشكَّلت من خلالها أربع دول إقليمية. كان التقدُّم الكبير المُحرَز في البداية نحو بناء الدولة والمصالحة في النزاعات القَبَلية والإقليمية، لكن الإدارة الحالية برئاسة محمد عبد الله محمد، وبعد فترة وجيزة من توليها في 2017، حلَّت قيادات الدول الاتحادية الوليدة، واستبدلتهم بآخرين حلفاء لها، مما أضعف عملية الاتحاد وأجَّج الصراعات مع الحكومات الإقليمية.

في غياب علاقة عمل قوية مع الحكومات الإقليمية، فإن الحكومة الاتحادية غالبا ما اعتمدت على القوات الإثيوبية التي تعمل خارج سلسلة قيادة الاتحاد الأفريقي لتغليب مصالحها السياسية في الدول الإقليمية. فمثلا في ديسمبر/كانون الأول 2018، أمرت الحكومة الاتحادية القوات الإثيوبية بالقبض على المتحدث الرسمي السابق باسم حركة “الشباب” الذي كان يتنافس على مقعد في البرلمان في دولة جنوب غرب الصومال الإقليمية المُشكَّلة حديثا، وأشعل القبض عليه أياما من الاحتجاج في دولة جنوب غرب الصومال، التي ردّت عليها قوات الأمن الاتحادية بعد ذلك بقمع عنيف. تُعمِّق مثل هذه الانتهاكات عدم الثقة لدى عامة الصوماليين والكراهية نحو إثيوبيا، ما يجعل التعاون العلني مستقبلا أصعب.

بالإضافة إلى تحسين الحوكمة، فإن على الصومال تقوية مؤسساته الديمقراطية قبل أن يسعى إلى علاقات أوثق مع جيرانه. إن جهود الحكومة الحالية لتعزيز الاتحاد الإقليمي ثبت أنها مُثيرة للصراعات، وأحد أسباب ذلك هو أن الشعب الصومالي لم يكن له رأي في هذا الشأن. بينما كانت الحكومات السابقة غالبا ما تتشاور تشاورا وثيقا مع البرلمان والدول الإقليمية في مثل هذه المسائل القومية المهمة، فإن الحكومة الحالية أنهت مثل هذا التقليد السياسي باتخاذها القرارات من جانب واحد. تحتاج الحكومة الاتحادية إلى استعادة مثل هذا التقليد الاستشاري حتى تبدأ في إصلاح مؤسساتها الديمقراطية ومن ثم تحصينها في نهاية المطاف.

آخذين في الاعتبار مشكلات الصومال مع الأمن والحوكمة، فإنها لا تُبشِّر بالخير بالنسبة لاتحاد إقليمي، لكن مع التقدُّم في صدِّ حركة “الشباب”، والحوكمة والديمقراطية، فإن الصومال قد يكون قادرا على جني مكاسب من علاقات تجارية واقتصادية أعمق مع جيرانه في المستقبل. يمكن لشركاء الصومال الدوليين، خصوصا مَن هم خارج المنطقة المجاورة، مساعدته في التقدُّم في هذا الاتجاه.

خلال مدة رئاستي، دعمت الولايات المتحدة الحكومة الصومالية، ليس عسكريا فحسب، لكن أيضا على صعيد بناء الدولة والمصالحة وحكم الديمقراطية. ومن المؤسف أن تركيز العلاقة الثنائية بين البلدين خلال السنوات الثلاثة والنصف الماضية تبدّل من الشراكة المتمحورة حول إرساء الديمقراطية وبناء الدولة إلى أخرى متمحورة، حصريا تقريبا، حول التعاون الأمني. ونتيجة لذلك فإن الولايات المتحدة تغاضت عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ولقواعد الديمقراطية في مقديشو، بما في ذلك التضييق على شخصيات معارضة، والحرب الضارية ضد الصحافة الصومالية الحرة. تسبّبت هذه الانتهاكات في انهيار العلاقات بين الحكومة الاتحادية وبعض الدول أعضاء الاتحاد، بالإضافة إلى تقويض التعاون الأمني والسماح لحركة “الشباب” بإعادة جمع شتاتها وحتى توسيع أذرعها. يجب على الولايات المتحدة التفكير مرتين قبل سحب قواتها من الصومال الذي لن يؤدي إلا إلى تمادي الجماعة الإرهابية. لكن على الولايات المتحدة أيضا إحياء الجوانب الحيوية غير الأمنية من علاقتها مع الصومال، التي من دونها ستستمر ديمقراطية البلد في الضمور.

إن مصائر الصوماليين والأميركيين متصلة ببعضها، وهو ما يُثبته ازدهار الجالية الصومالية في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك فإن لدى واشنطن مصلحة راسخة في دعم الاستقرار طويل الأمد في الصومال وفي منطقة القرن الأفريقي الكبرى. لا يمكن تحقيق مثل هذا الاستقرار من دون الأمن والديمقراطية وحكم القانون، وتحديدا الشروط الأساسية الضرورية لتحويل مشروع الاتحاد الإقليمي من مجرد حلم إلى واقع ملموس.

*المقال مترجم عن Foreign Affairs

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق