الفيضانات فرصة قطر وتركيا للعودة سياسيا إلى السودان
أفسحت الأوضاع الإنسانية الصعبة، التي خلفتها السيول والفيضانات في السودان، المجال أمام المزيد من التدخلات السياسية من خلال تفعيل دبلوماسية الكوارث، ونتج عن ذلك استعادة منظمات إغاثية تركية وقطرية أدوارها في بلد تداخلت فيه خيوط الأزمات بشكل معقد.
ويأتي استغلال أنقرة والدوحة للكارثة الطبيعية في السودان بعد أن جُمدت الكثير من مشروعات منظماتها الإغاثية تأثرا باتخاذ السلطة الانتقالية إجراءات رقابية على حركة الأموال الخاضعة لها لوقف استغلالها في تمويل الحركة الإسلامية، ورموز نظام الإنقاذ.
ويمكن تطبيق نظريات التوظيف السياسي للكوارث على ما يجري حالياً في السودان، لأن كلا من قطر وتركيا تبحثان عن نفوذ سياسي داخل دولة تتعرض لأزمات إنسانية واقتصادية طاحنة، وقد تعوض أزماتها فشل الدبلوماسية التقليدية في إحداث اختراق على مستوى استعادة العلاقات والنفوذ بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير.
وقامت الكثير من الدول بمساعدة السودان في محنته، لكن غالبية ما قُدم جرى في العلن ويتم تسليمه إلى الحكومة مباشرة لتتولى توزيعه على المواطنين، وتكاد تكون أنقرة والدوحة من الجهات القليلة التي تحرص على تقديم الدعم مباشرة للناس، والتركيز على تسليمه في مناطق الهامش والأطراف لكسب تعاطف سياسي، ربما يجبر السلطة لاحقا على تغيير أي مواقف سلبية.
وتبني كل من تركيا وقطر أسس علاقاتهما مع دول عدة في أفريقيا على دبلوماسية المساعدات، التي تقوم على نشر عدد هائل من المنظمات العاملة في مجال الإغاثة لتكون بمثابة أذرع توظفانها في المناطق التي يمكن اختراقها بسهولة، وفتحت هذه المنظمات نوافذ للهيمنة في دول تعاني أوضاعاً اقتصادية وأمنية هشة.
يقول مراقبون، إن تقديم المساعدات من قبل جهة لديها دوافع سياسية للدولة التي تمنحها أمر لا علاقة له بالإنسانية، وفي تلك الحالة يتحول الدعم إلى أداة سياسية تستهدف ممارسة ضغوط لإخضاع الدولة الأخرى أو للحصول منها على مكاسب سياسية، وهو ما يتحقق في حالتي تركيا وقطر مع السودان.
وتحقق تلك المعادلة نتائج إيجابية، ففي أوقات الأزمات الطارئة يصعُب الفرز السياسي للأعمال الإنسانية المقدمة، وقد تكون هناك فرص عديدة لمد جسور التعاون بين المنظمات والمواطنين المتضررين، وتصل في مرحلة ما إلى السلطات المحلية التي تعقد معها اتفاقيات ثنائية لإقامة المشروعات وتقديم المساعدات وتأخذ العلاقة في التطور لتصل إلى مستويات السلطات العليا.
وقالت الخبيرة في الشؤون الأفريقية، هبة البشبيشي، إن “المساعدات الحالية تستهدف تدشين تحالفات مستقبلية أبعد من مواجهة كوارث الفيضانات عبر بناء عدد من السدود”.
وأشارت في تصريحات لـ”العرب” إلى أن كلا من قطر وتركيا ستتقدمان بعروض للحكومة الحالية في الخرطوم لبناء سد أو أكثر على الأراضي السودانية، بما لا يسمح بتكرار ما جرى هذا العام.
وأوضحت البشبيشي أن هناك دراسات عديدة تجريها شركات قطرية وتركية للاستفادة من وفرة مياه نهر النيل، وتحقيق أهداف سياسية غير مباشرة تستهدف إلحاق الضرر بمصر، التي تجد نفسها أمام أزمة سد نهضة جديد في السودان، ما يفسر غزارة المساعدات التي وصلت إلى الخرطوم من الدولتين على مدار الأيام الماضية.
ووجدت المنظمات التي نشطت مؤخرا في السودان عقب كوارث السيول التي أودت بحياة 118 شخصا حتى الآن مع إصابة نحو 54 شخصا آخرين، وتضرر أكثر من مئة ألف منزل، فرصة مواتية للمزيد من التواصل المباشر مع المنكوبين لتحسين صورتها الذهنية التي تلطخت بفعل تصاعد وتيرة الاتهامات الموجهة إليها بتقديم الدعم المالي لفلول نظام البشير، ولملمة أوراق مؤيديه لعرقلة مسار الفترة الانتقالية.
واستعادت كل من منظمة قطر الخيرية أخيرا، ووقف الديانة التركي، والوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، أنشطتها بشكل كبير في مدن سودانية مختلفة، فضلا عن وجود نحو مئة منظمة محلية تتلقى تمويلات من أنقرة والدوحة، وهي منظمات نشطت بشكل كبير في عهد نظام المخلوع عمر البشير قبل أن تضيق الحكومة الانتقالية الخناق عليها.
ومنذ بداية أزمة السيول والفيضانات في السودان قبل أسابيع قليلة، أفردت وسائل الإعلام القطرية ساعات طويلة للترويج إلى حملة “سالمة يا سودان” التي أطلقتها الدوحة، واستهدفت تلقي التبرعات المباشرة من المواطنين عبر شاشات التلفزيون القطري الحكومي.
وفي دليل على اهتمام الدوحة بهذه القضية سعيا لتحقيق أهدافها، دخل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد على الخط معلنا تبرعه بحوالي 13 مليون دولار لضحايا السيول في السودان، وبدت الرغبة في استعطاف المواطنين السودانيين واضحة بالتأكيد على أن الحملة شعبية وبعيدة عن التوجهات السياسية.
وتشارك في الحملة القطرية مجموعة من الهيئات الإغاثية، بينها منظمة قطر الخيرية، التي سارعت تحركاتها منذ الأيام الأولى للفيضان بفعل انتشارها في أكثر من عشر ولايات سودانية، وتجد المنظمة الفرصة مواتية من أجل ضخ الدماء في عروقها، وأعلنت أنها تستهدف إغاثة نصف مليون مواطن تضرروا من السيول.
وتولي قطر اهتماما كبيرا بتنشيط منظماتها الإغاثية، حيث مكنتها من تحقيق نفوذ سياسي قديم في إقليم دارفور، استطاعت من خلاله أن تتحكم في كثير من مراكز القوى بالإقليم المضطرب، وما زالت ترتكن على ذلك حتى اليوم بهدف تعويض اندثار تأثيرها على مفاوضات السلام التي جرت مؤخرا في جوبا.
ولدى النظام الحاكم في الدوحة يقين بأنه خسر الملايين من الدولارات كان قد ضخها في السابق من أجل تقوية وتعزيز حضور قطر السياسي في الإقليم المتاخم لتشاد وليبيا، حيث تريد العمل على استعادة زخم أعمالها تحت غطاء المساعدات الإنسانية لاستخدامها في مآرب أخرى تنسجم مع خططها.
التمركز في الهامش
تتواجد المنظمات القطرية والتركية بشكل كبير في معسكرات النزوح، التي تأوي مئات الآلاف من الأشخاص الذين فروا هاربين من مناطق الصراعات في فترات النزاع المسلح، ولكن هذه المعسكرات تستعد أيضا لإعادة المواطنين مرة أخرى إلى مناطقهم وقد لا يكون هناك وجود لها في المستقبل.
ويدفع الاعتقاد باتجاه تفريغ تلك المعسكرات مع تزايد احتمالات توقيع اتفاق سلام شامل مع جميع الحركات، ما يجعل التواصل مع الآلاف من المواطنين الذين تركوا منازلهم جراء الفيضانات بديلاً للدور الذي لعبته سابقاً في معسكرات النزوح.
وتبحث الدوحة وأنقرة عن التواجد في أقاليم الهامش بعيدا عن المركز لأن تلك المناطق تشكل بيئة خصبة لنشر توجهات سياسية معينة، ومحاولة السيطرة على عقول المواطنين بفعل تقديم المساعدات إليهم في ظل غياب نسبي للدولة المركزية.
وتتزايد في تلك المناطق النزعة الدينية التي يتم توظيفها في كثير من الأحيان من أجل إضفاء المزيد من الدعم على بعض المشروعات السياسية ذات العلاقة بالتوجهات الإسلامية.
ويؤكد المحلل السياسي، عبدالواحد إبراهيم، أن خطورة هذا النوع من المساعدات تكمن في استغلالها كأداة للابتزاز أو الضغط على الحكومة لمد الجسور مرة أخرى مع الحركة الإسلامية التي ثار الشعب على سياساتها.
وقال إبراهيم في تصريحات لـ”العرب” إن تلك المساعدات “سيتم توظيفها في تحسين صورة الدوحة المحفورة في أذهان المواطنين بأنها كانت الداعم الأول للنظام البائد، أو محاولة محو أثر العلاقة مع تنظيم الإخوان”.
وأوضح أن الحملات الأخيرة تأخذ الطابع الشعبي للتغطية على الخلافات، التي ما زالت حاضرة بين جماهير الثورة السودانية والنظام القطري باعتباره جزءا من التنظيم الدولي للإخوان، وهو أمر لا يمكن نسيانه بسهولة لأن تلك الجماهير ثارت ضد فكر وتوجه وسلوك وسياسة الإخوان، التي كانت سبباً أساسياً في تخريب السودان.
ولدى الدوحة، أكثر من أنقرة، فرصة أكبر للتأثير في الرأي العام السوداني بفعل العوامل الثقافية المشتركة، إلى جانب أن السياسات التركية المعلنة في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان تعادي الثورة السودانية بشكل مباشر.
وليس سرا عندما يتم الإشارة إلى أن تركيا أضحت ملاذا للسودانيين المتورطين في أعمال جنائية وإرهابية عديدة وتأوي بشكل علني عناصر عديدة من نظام البشير وتوفر لهم الحماية القانونية، وأصبحت تشكل قاعدة إعلامية معادية للثورة بفعل احتضانها لمنصات تابعة لنظام البشير.
وبرز الاهتمام التركي بالمساعدات الإنسانية الموجهة إلى السودان في اللقاء الذي عقده سفير تركيا لدى الخرطوم عرفان نذير أوغلو مع المنظمات التركية مطلع الشهر الجاري، حيث استهدف تنشيط دورها وتوزيعها على المناطق المختلفة بما يؤدي للوصول إلى أكبر عدد من المتضررين.
وتسببت حالة التراخي التي تتعامل بها الخرطوم مع الأطراف الداعمة لرموز النظام البائد في منح أنقرة أوراق ضغط جديدة على الحكومة، لأنها تأوي عددا من المتهمين في جرائم ارتكبت في أثناء حقبة البشير.
وبالإضافة إلى ذلك فإن لتركيا تأثيرا في الرأي العام السوداني مع تزايد دور المنصات الإعلامية، التي تبث من أراضيها، في حين أن الخرطوم تصمت حتى الآن، مع أنه بإمكانها التصعيد لتسليم هؤلاء المطلوبين.
وساعدت الدبلوماسية الناعمة التي تنتهجها الحكومة الانتقالية في المزيد من السيولة الحالية لأنها لا تمانع في إبرام صفقات اقتصادية مع كل من قطر وتركيا وتركت الباب موارباً أمام تطوير العلاقات دون أن تتخذ مواقف صارمة ضد الأنظمة الداعمة لنظام البشير، والتي تريد استعادة نفوذها السياسي.
كما أن تحالف قوى الحرية والتغيير الداعم السياسي للحكومة، لم يحسم موقفه بعد في كثير من العلاقات الخارجية وترك غالبيتها فضفاضة، ومع أنه يتمنع عن الميل نحو المحور القطري التركي، لكنه يؤيد اتباع سياسة ناعمة معهما.
وترتبط تلك المواقف برؤى النخب السودانية التي تأثرت بالغزو الثقافي والإعلامي المؤيد لتيار الإسلام السياسي، ما ينعكس أحيانا على مواقفها المؤيدة لنسج علاقات جديدة مع قوى داعمة له، ولا توجد لديها ممانعة حقيقية في أن يكون السودان في تحالف سياسي واقتصادي مع قطر وتركيا، ما يجعل التأثير سهلا على المواطنين.
وتواصلت “العرب”، مع عدد من الرموز السياسية في السودانية، لاستطلاع رأيهم في مسألة التوظيف السياسي من قبل كل من قطر وتركيا للكوارث، فجاءت ردود غالبيتهم معبرة عن القبول بها، لكنهم اعتذروا عن نشر أسمائهم، ما يعزز أن أفكارهم متذبذبة خوفا من حشرهم في معسكر الدوحة وأنقرة.
تبدو الحكومة تنتهج موقفا قريبا من ذلك، ومفهوما في ظل طبيعة المرحلة الانتقالية، لكن إذا استمرت في فتح المجال الإنساني على مصراعيه أمامهما وواربت الباب السياسي قد تعاني كثيرا، لأنها ستكون سلمت مفاتيح السودان الرخوة لغيرها.
*صحافي مصري