«يوميات صومالي في قونية»
التردد بين جدران الفندق وممرات المستشفى كانت كفيلة بأن أشعر بالملل وفقدان الكثير من الحيوية ذلك أنني لم أجد ما أفعله أو أقضي به يومي سوى بعض الألعاب الالكترونية التي أدمنت عليها والقراءة المتقطعة. وكان كتاب «دوستويفسكي مقالات ومحاضرات» للكاتب الفرنسي أندريه جيد (١٨٦٩ – ١٩٥١م) صاحب الروايات الشهيرة «اقبية الفاتيكان» و «المزيفون» و «الباب الضيّق» إلى جانب «انتقام الجغرافيا» للكاتب والاقتصادي الأمريكي روبرت كابلان الذي أبدع في طرح فكرته؛ الخرائط والصراعات المقبلة والاضطرابات العالمية وارتباط الشعوب والثقافات بالجغرافيا. لقد راق لي الكتاب جداً لدرجة شكل هو وكتاب أندريه جيد أفضل صديقين في مدينة لم يزرها أبي ولم يسمع بها جدي على الأغلب.
في النهار الطويل الذي يسبب الملل وربما الكآبة كنت أقضي على جنبات المستشفى وردهات الفندق وقراءة الكتب. ولكن ليل قونية الطويل كان مملاً جداً. ولولا بطولة أمم أوروبا ٢٠٢٠م والتنافسية الشديدة وخاصة من طرف المنتخبات المغمورة (الأحصنة السوداء) مثل الدنمارك لكان الملل قاتلا والعيش في الفندق صعبا لا يطاق. ومما زاد السآمة أنني انقطعت عن القراءة وجميع النشاطات الثقافية والرياضية وانغرست في مواقع التواصل الاجتماعي حتى أعادني كتاب الدكتور مهنا الحبيل «زمن اليقظة» بعض قوتي، وبدأت أقرأ وأتأمل وأنخرط في فصول الكتاب وتفاصيل الحياة. وأتمنى أن أبصر الطريق ولا أحيد عن جادة الحق، وأن أردد بعد نهاية الكتاب “الحمد الله.. لقد أبصرتُ الطريق”
على أن مدينة قونية وجدت متسعا من قلبي، ونشأ بيني وبينها وداً مفاجئا لم أكن أتوقع، ذلك أن زيارتي التي استغرقت ٢٤ ساعة فقط الى أنقرة خاصرة تركيا لم تعجبني العاصمة ونظرة سكانها للأجانب ورجعت سريعا الي حضرة مولانا حيث لا يوجد عيون تلاحقك في الميادين العامة ولا شرطة تراقب حركاتك وسكناتك. فكرة الذهاب إلى أنقرة كانت ناتجة عن تأخر موعدنا مع الدكتور فؤاد. وبما أن الأخير حدد يوم ٢ يوليو كأقرب موعد لزيارة المستشفى أي بعد ١٢ يوما قررت أن أسافر إلى العاصمة لكسر الملل وتغيير الجو واللقاء مع الأصدقاء. زيارتي إلى مرقد الملك الضليل امرؤ القيس، ومركز السلطة في تركيا كانت عامرة بالبهجة والأحاديث الطيبة وأنس الأحبة الذين جعلوا زيارتي المقتضبة خالدة ومليئة بالمسرات والثقافة والأدب.
في طريقي إلى أنقرة مررت بقرى محاذية للهضاب سقت شغفي للتعمق في أسرار الثقافة والمدن الريفية بشعور من النضارة والبهاء. شوارع جميلة وبلاد شاسعة بلا منارات ومزارع ممتدة في الأفق. من بعيد تبدو المزارع وكأنها رداء متناسق الألوان أو لوحة رسمها فنّان ماهر. وصلت المدينة التي أسست في حقبة الحضارة الحثية (Hittites) وأخذت موقعها الاستراتيجي ومكانتها السياسية بعد أن جعل مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك عاصمة للدولة الوليدة. كانت المدينة تبدوا أصغر من إسطنبول وأكبر من قونية وكان وجود رجال الأمن لافتاً للانتباه.
مع أصدقائي الذين انتظروني في محطة الحافلات ذهبت إلى منطقة كزلاي. في الوهلة الأولى تبدو وكأنها حيّ صومالي في قلب أنقرة. المحلات التجارية والدكاكين والمقاهي والمطاعم والصالونات التجميلية والحوالات منتشرة في كل مكان. شعرت بالأنس وتجادبنا أطراف الحديث مع أحمد شاكر عول، وأبو أيمن أحمد الشيخ وهو من أطيب الرجال وتوثقت صداقتنا بعد هذا اللقاء، وأحمد غهاد، وعبد الرزاق دلآن. وكلهم أصدقاء لا أشعر معهم سوى الامتنان. كنا نتحدث عن الكتب والكتابة والعمل الشاق في الغربة. وتحدثنا عن الحروب وعن السلام المفقود، ولم يخل من حكاياتنا الحنين وعودة مرتقبة إلى الديار.
استقبلتني أنقرة بمقاهي مكتظة بالزبون والصياح، ومطاعم تقدم أكلات صومالية متنوعة، وبما أنني من عشاق الشاي كان اهتمامي يركز على السائل الأسود وفي الكأس الثالث تمنيت الا يفرغ الكأس من الشاي أبداً! لقد أعطاني الشاي حيوية فقدتها في الأسابيع الماضية. طالت الحكاية وتشعبت القصص وتنوعت حتى تأخرت عودتي إلى قونية. ما رأيته في أنقرة يستحق الكتابة وأدركت حجم الضرر والتغيير الذي أحدث الحرب في نفوس الصوماليين. فالصوماليون في المنفى يضحكون ويبتهجون، الجميع يبتسم ويرحب للغريب والقريب، بينما في الداخل مكفهرون وتصعب الابتسامة على محياهم! كنت محتارا بهذه الظاهرة إلا أن قرأت مؤخرا مذكرة زاخرة بالمعلومات والبوح للفيلسوفة الوجودية والناشطة السياسية الفرنسية سيمون دي بوفوار. «قوة الأشياء» الذي تحدثت فيه عن الحروب ومظاهر العوز وفرنسا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منهكة ومنهارة اقتصاديا، حيث لا عمل ولا أمل. مجتمع يسوده الحزن والتجهم والإحباط. ومن هنا تساءلت الكاتبة لماذا الأسواق الفرنسية خالية من يبتسم ويضحك؟ فأجابت “لأنهم حزانى وجائعون”.
في العودة كان الليل يخيم ظلامه على الكون، وكنت أتابع ضوء المدينة وعماراتها الشاهقة وتماثيلها من نافذة الباص المسرع نحو إيقونيوم (Iconium). كنت الأجنبي الوحيد بين أتراك لا يتصورون أن من بينهم من لا يعرف لغتهم! بخلافنا كانوا يتهامسون بحذر ويتابعون الأفلام بصمت، وبعضهم كان يتمايل مع أغاني صادحة من الحافلة المريحة. السفر في ربوع دولة تمتلك شبكة مواصلات ذات جودة عالية يعتبر ضربا من السياحة. وحسب خبرتي؛ هناك احترام للوقت ودقة في الموعد حيث تتحرك القطارات والحافلات في الوقت المحدّد. لقد أولت الدولة النقل البري والبحري والجوي اهتماما كبيرا وجعلت السفر في ربوع تركيا متعة حقيقية وبأسعار زهيدة في متناول اليد. مثلا تذكرة الحافلة من قونية الى انقرة لا تتعدى ثماني دولارات. وتذكرة الطائرة – الخطوط الجويّة التركية مثلا – بين اسطنبول وقونية (466كم) ٣٥ دولاراً. بينما بلدي المترنح بالصراعات والفقر والبطالة قيمة التذكرة من مقديشو الى كسمايو (٥٠٠ كم تقريبا) أربعة أضعاف هذه القيمة!
على متن الباص كنت أفكر عن وطني ومتى ستنتهي الحروب وتبدأ النهضة لنلحق الدول المتقدمة ونستطيع أن نسافر ونحن لا نخاف إلا الله سبحانه وتعالى؟ في بلدي لا أستطيع أن أسافر برّا خوفا من حركات إرهابية ومليشيات مهوّسة بالقتل والسادية إضافة إلى رداءة الطرق، بينما هنا أتجول وأتحرك وأسافر بدون خوف من الاغتيال أو الترقب من انفجار قد يحصل في كل لحظة! في داخل الحافلة شعرت بصداع ودوخة شديدة لدرجة كدت أن أتقيأ وأفقد توازني. لقد كان الألم شديداً فحاولتُ أن أسترخي دون أن أتمكن. وأعتقد أنه ناجم من التوتر والضغط النفسي إضافة إلى إرهاق العينين ذلك أني طيلة الأسبوع كنت أعاني من احمرار العين اليسرى بسبب الحبوب والانتفاخ. لقد كان وضعي مزريا جدا وأصبحت المسافة بين أنقرة وقونية بعيدة وتناءت المدينتان!
حسن محمود قرني
١٥ – أكتوبر – ٢٠٢١م
قونية – تركيا