محاذير عربية حول المصالحات الإقليمية
بدأت منطقة الشرق الأوسط تدخل في عملية تفكيك مقصودة لبعض الأزمات والخلافات العربية – العربية، وتحريك الموقف مع عدد من دول الجوار في اتجاه مصالحات سياسية، وهو ما يتزامن مع تراجع الولايات المتحدة عن التفاعلات الساخنة، وخوفها من استغلال التوترات من قبل قوى كبرى منافسة يمكن أن تتسلل عبرها إذا ارتخت قدرة واشنطن عن ضبط جوانب من توازناتها في إدارة الصراعات.
يربط البعض من المراقبين بين التفكيك والتحريك وبين التقديرات الأميركية الجديدة، ما يوحي بوجود شعور احتمال بأن واشنطن تريد فرملة بعض الأزمات قبل عزوفها وتشجع على تذويبها، أو أن أحد محركات الخلافات الإقليمية الرئيسية رفع يديه عن تغذيتها، أو أن هناك إنهاكا عاما حدث يستدعي تخفيض درجة السخونة في ظل ما أحدثه التشابك في المشكلات من تداعيات على الكثير من دول المنطقة.
بدأت الحلحلة مع قمة العلا الخليجية في يناير الماضي، وعلى إثر تداعياتها تم تجاوز مقاطع مهمة في الأزمة العربية المحتدمة مع قطر، وعاد الدفء إلى علاقات الدوحة مع رباعي دول المقاطعة، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وبعدها شرعت تركيا في قطع خطوات كبيرة مع دول الرباعي.
وأخذت واحدة من الصفحات تُطوى سريعا وتمهد الطريق أمام تليين المواقف في أزمات نجمت عنها وأدت إلى تدخلات سافرة في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، فقطر كانت عنصرا مشتركا في الكثير منها، ما يؤكد أن هناك رغبة سياسية لدى أطراف إقليمية لإعادة الحسابات السابقة بشكل يميل نحو التهدئة.
ينسحب استنتاج قطر على ما تشهده العلاقات بين إيران والسعودية من حوارات في أماكن مختلفة، ولم تكن قمة الشراكة والتعاون التي عقدت في بغداد مؤخرا بعيدة عن هذا السياق من التصرفات، حيث حضرتها قوى عربية وإقليمية عدة، ويكفي عنوانها (الشراكة والتعاون) لفهم الهدف من القمة.
ولم تكن الحكومة العراقية تجرؤ على عقدها بكل ما توافر لها من زخم سياسي دون الحصول على مباركة واشنطن، بما يصب في مسألة الربط بين انسحابها التدريجي وبين التحولات الجارية في المنطقة لحلحلة الخلافات التي تجري قسماتها حاليا.
من يراقب التطورات التي طرأت على أزمة سد النهضة الإثيوبي وتميل أيضا نحو التهدئة يتيقن أن ثمة تزامنا مقصودا، وأن جهة ما أو أكثر تلعب دورا مهما في تحريك الأمور نحو ترطيب الأجواء والبحث عن صيغة لتغليب الحوار على الصدام بشكل يجد تجاوبا مباشرا وغير مباشر معه بما يشبه الاتفاق الضمني في النأي عن التصعيد.
كما أن الحرب على قطاع غزة في مايو الماضي جرى وقفها بعد أحد عشر يوما فقط، وهي مدة قصيرة بالمقارنة مع الحروب السابقة، ووجدت الوساطة المصرية دعما لافتا من جانب الإدارة الأميركية التي تخلى خطابها الحاد نسبيا مع كل من القاهرة والرياض وأنقرة وطهران عن الكثير من ملامحه التصعيدية التي ظهرت قبيل تسلم الرئيس جو بايدن مقاليد السلطة في واشنطن.
لعل رفع درجة حرارة التواصل بين القاهرة وتل أبيب لا ينفصل عن معادلة التغيير الحاصلة في المنطقة، بما يضمن توسيع مساحة القواسم المشتركة بين دول عربية عديدة وإسرائيل التي يمكن أن تهيئ الأجواء أمام استيعابها بطريقة ديناميكية وبعيدة عن الهبوط المفاجئ من خلال قطار التطبيع الذي شهد تطورات العام الماضي ثم توقف في محطة لم يستطع أن يتقدم بعدها أو يعود إلى سابقتها.
ناهيك عن سوريا التي تتحول إلى شريك في تخفيف معاناة لبنان مع أزمة الوقود من بوابة اتفاق يشملهما ومصر والأردن، وهي مسألة لم تكن تخرج إلى النور إذا لم تجد قوة دفع أميركية من الخلف، ما ينطوي على إشارة بعد استبعاد استيعاب سوريا في النظام العربي، وقد تفضي مع تحركات أخرى بعودتها قريبا لشغل مقعدها في الجامعة العربية، وخلط أوراق دولة مثل روسيا استثمرت في عزلة دمشق العربية.
قد لا تسير التطورات على هذا القدر من الدقة، لكن في مجملها تشير إلى وجود هندسة سياسية جديدة لأوضاع المنطقة، سواء وقفت وراءها كلها الولايات المتحدة أو بعضها أو نبعت من تصورات تتعلق بدولها، ففي كل الحالات هناك تغيرات تجري في الشرق الأوسط توحي بأن خارطة التوتر تتجه نحو الانحسار، ولا تميل بالضرورة إلى انتظار حدوث تسويات نهائية للأزمات المتفاقمة.
يلعب الإنهاك الذي حل بالكثير من الدول العربية وغير العربية دورا في تقبل التهدئة والتجاوب مع بعض تفاصيلها، ولا يعني ذلك أن مشروع إيران في المنطقة سيتوقف وتتخلى عن هيمنتها على كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن وأطماعها في الخليج.
ولا يعني أيضا الدخول في حوارات عربية مع تركيا أنها باتت دولة طبيعية تحترم القوانين الدولية وسوف تنسحب من العراق وسوريا وليبيا بسهولة، وتتنصل من مشروع الهيمنة على المنطقة، أو إسرائيل أصبحت محبة للسلام وعلى استعداد للقبول بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية وضمان عدم قيامها بتجاوزات وانتهاكات مختلفة.
يشير المغزى من المعطيات لوجود حرص على التقاط الأنفاس ومحاولة كل طرف ترتيب أوراقه بالصورة التي تمكنه من تعظيم مكاسبه وتقليل خسائره، فالمشاهد المتناقضة التي خيمت على دول المنطقة وتحديدا في علاقات بعض الدول العربية مع دول الجوار لن تنتهي بعقد قمة أو محادثات والوصول إلى مرحلة متقدمة من التطبيع، لأن التوجهات المختزلة تحمل ملامح تباعد لا يسمح بتجسير الهوة تماما.
وتوجد مجموعة محاذير تمنع بلورة المصالحة في مشروع إقليمي تلتف حوله دول المنطقة، منها أن البوادر الراهنة تعتمد على تحويل التهدئة إلى هدف في حدّ ذاته والقفز على عوامل أدت للتوتر، وعند البحث في الأسباب والدوافع التي أفضت إلى كثير من المشاهد القاتمة قد تتكسر أو تتعطل الرافعة التي تعتمد عليها التهدئة وأن السبيل الوحيد للاستمرار القفز عليها، وهو ما تريده تركيا حاليا في تطبيع علاقاتها مع مصر.
إذا كانت عملية القفز تحدث في بعض الأزمات، كما حصل بين القاهرة والدوحة، فهذا يضمن تكرارها بنجاح بين الأولى وأنقرة، لذلك توجد محاذير تتحكم في حدود التقدم، وما لم تتم إزالتها عبر حلها رضائيا فقطار المصالحات الذي انطلق من محطات متباينة سيتعطل وتعود المنطقة لحالتها الصراعية التي جبلت عليها منذ قرون طويلة.
*كاتب مصري