من هي “مالي” في الفكر الخليجي؟
تعددت أسماء إمبراطورية مالي القديمة التي وجدِت لتدون التاريخ الأفريقي فالبعض كان يطلق عليها إسم “ملي” ويعني بلغة البامبارا فرس النهر، وهناك من البربر من أطلق عليها إسم “مليت” و “ملل” وهو الإسم الأول المعروف لها حتى منتصف القرن الخامس الهجري، أما العرب فكانوا يطلقون عليها إسم “مليل”، أما قبيلة الهوسا فما زالوا إلى اليوم يطلقون على مالي إسم “ونقاراوا” وهي أتية من إسم جزيرة “ونقاره أو ونغارا” التي ساهم أهلها ” الونقاريون” في نشر الإسلام في زمن الملك محمد رومفا، إلا أن الإسم الشائع الذي كان يطلق على منطقة غرب أفريقيا حتى المحيط الأطلسي هو “بلاد التكرور” لتبرز منها إمبراطورية مالي وأهم مدنها تمبكتو التي كان يطلق عليها “مكة الأخرى” لانها كانت ممراً ونقطة إنطلاق القوافل الراحلة للحج والعمرة كما كانت حاضنة للدارسين العرب والأفارقة الذين كانوا يقصدون جامعة سانكوري مركز العلم في أفريقيا في ذاك الزمان وضاعف من مكانتها بإنها كانت حاضنة للعلم والعلماء ويكثر فيها قبورالأولياء.
إرتبطت شبة الجزيرة العربية بإمبراطورية مالي منذ أن بدأت القوافل الإفريقية تشد رحالها شرقاً إلى شبه جزيرة العرب، فمنذ إنتشار الاسلام بدأت العلاقات بين إمبراطورية مالي وشبة الجزيرة العربية تأخذ منحى أكثر عمقاً وحملت تلك المرحلة من العلاقات دلالات أصبحت ماثلة وخالدة في عين التاريخ بدءاً بزيارة ملك إمبراطورية مالي الأشهر كانجا مانسا موسى لشبه الجزيرة العربية عام 1324م مروراً بتدفق العلماء الأفارقة وإقامتهم في في شبه الجزيرة العربية لعشرون عاماً أمثال الشيخ عمر الفوتي وإنتهاءاً بالهجرات البشرية من أقصى الغرب الإفريقي إلى شبة الجزيرة العربية هرباً من بطش الإستعمار الإوروبي الذي جاء بعد مؤتمر برلين أو ما يسمى بمؤتمر الكونغو 1884-1885م، ويجب هنا التفريق بين مؤتمر برلين الذي نظم الإستعمار في إفريقيا وبين مؤتمر برلين 1878 الذي أعاد صياغة معاهدة سان ستيفانو الشهيرة.
لعبت باماكو بعد الإستقلال دوراً محورياً في تعزيز التضامن الأفريقي الذي كان قائده في ذلك الوقت الرئيس موديبو كيتا أحد أهم الرموز السياسية في تاريخ مالي والذي لعب دوراً في صياغة ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية وساهم في تشكيل إتحاد دول غرب أفريقيا ونجح في إنهاء الصراع المسلح بين الجزائر والمغرب فيما عرف بـ “حرب الرمال” في ستينات القرن الماضي، وبسبب الإستراتيجية التي تم فرضها على أفريقيا في ذلك الوقت والتي تتلخص في إفراغ إفريقيا من الأصوات الوطنية وذلك بدعم الأنظمة الأفريقية التي تقف حجر عثرة أمام التوسع الشيوعي تم الإنقلاب على الرئيس موديبو كيتا في عام 1968 بقيادة الملازم موسى تراوري الذي ألغى الإشتراكية الإقتصادية للرئيس موديبو وأسس نظام أمني بقيادة ضابط المخابرات الأبرز في ذلك الوقت تيكورو باجايوكو الذي رفع شعار ” البيئة العلمية مُعادية للنظام العسكري” فتم حظر جميع الأنشطة السياسية لتعيش بعدها مالي فصلاً يصفه من عاصره بأنه عهداً مزق ما تبقى من أرث حضاري تتباهي به مالي في أزمنة ماضية ، وبعد عقدين من الزمان وبالتحديد في عام 1991 تم الإنقلاب على النظام العسكري بقيادة أمادو توماني توري أو ما يطلق عليه “جندي الديموقراطية” وذلك لدوره في تشكيل لجنة لإنقاذ الشعب وتنظيمه للإنتخابات الرئاسية وتسليمه السلطة للرئيس المنتخب في ذلك الوقت ألفا عمر كوناري الذي أنهى فترته الرئاسية عام 2002 ليصبح الرئيس المالي الوحيد الذي غادر السلطة طواعية وهنا طرح “جندي الديموقراطية” أمادوا توماني توري نفسه للترشح للرئاسة التي فاز بها ليشكل حكومة كانت من أميز الحكومات بسبب إحتوائها على جميع الأحزاب وأستمرت في الحكم حتى عام 2012 ليعود سيناريو الإنقلاب العسكري بقيادة النقيب أمادوا هيا سانوغو الذي أطاح بحكومة أمادوا توري وعلل ذلك بعجز النظام الحاكم عن محاربة المتمردين في الشمال وعدم توفير المعدات اللازمة للدفاع عن الوطن، وبعد نجاح الإنقلاب تم إختيار ديونكوندا تراوري رئيساً مؤقتاً لمدة عام حتى تم تنظيم إنتخابات رئاسية فاز بها الرئيس الحالي إبراهيم كيتا في سبتمبر 2013
شهدت مالي في الأشهر القليلة الماضية حراكاً شعبياً ضد النظام الحاكم في باماكو حراكاً أربك اللاعب الدولي في الساحة المالية الذي ما لبث أن يفرغ من وضع خطة العمل الجديدة لقوة العمل العسكرية الأوروبية المعروفة بإسم ” تاكوبا ” والتي جاءت معززة وداعمة لعمل البعثات العسكرية التي سبقتها مثل ( بعثة لبناء القدرات المدنية في النيجر2012 ، بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الإستقرار في مالي 2013، وبعثة الإتحاد الأوروبي لبناء القدرات في مالي 2014) إلا وحاصرته تلك الموجة التي ضاقت بها ذرعاً شواطىء الأطلسي فإنطلقت تبحث عن مرساها ليسمع هديرها في شوارع مالي
تدرك باريس ثلاثة حقائق رئيسية في مالي، أولاً: أن مالي مُختلفة عن بقية دول الغرب الإفريقي في عدم تقبلها للثقافة الفرنسية فهي تنتمي إلى ذاتها بدليل أن الحديث باللغة الفرنسية في السنغال والنيجر وكوت ديفوار يراه البعض دليل تقدم لكن في مالي الأمر مُختلف تماماً، والحقيقة الثانية أن فرنسا أمام جيل أفريقي صاعد واعي ينشد التغيير ولن يتوقف، والحقيقة الثالثة أن المظاهرات مهما طال أمدها فهي لن تبعد يد فرنسا عن مالي حتى وإن كانت مالي مختلفة بإنتماءها لذاتها، وبالتالي تضاعف وتيرة الإحتجاجات في مالي سينتهي بصفقة مع قادة الحراك ينالون بها جزء من السلطة في حال بقاء الرئيس إبراهيم كيتا أو حتى بعد رحيله، ولكن أن يتضاعف القمع وتستمرسياسة فرض الأمر الواقع فهذا لن ينجح الأن فقد إنفرط العقد، ويبقى السؤال هنا زعماء الحراك الشعبي الذين يتصدرون المشهد المالي اليوم والذين باركو في الماضي التدخل الفرنسي في بلادهم لصد الإرهاب هل سينقلبون على فرنسا في حال إزاحة الرئيس إبراهيم كيتا أم أن الوصول لنقطة وسط مع باريس أفضل من سقوط البلاد في أتون صراع على السلطة ستضيع فيه بلا شك حقوق المُحتجين؟
خليجياً ، تدرك الرؤية السياسية الخليجية أن ما يحدث في مالي وما ستؤول إليه الأمور هناك سيطال بشكل أو بأخر سياستها الخارجية تجاه منطقة الساحل والصحراء، فمعنى أن نقوم برسم سياسة خارجية جديدة تجاة منطقة الساحل والصحراء في حال تغيير قواعد اللعبة الدولية ومن يديرها هو أن نكون مستعدين للتحديات التي قد تقف حجر عثرة أمام المصالح الخليجية التي بدأت تشق طريقها في تلك المنطقة خاصة أن جزء من إستمرار تلك المصالح مرتبط بإحترام القومية الأفريقية ناهيك عن من ينظر إلى تلك المنطقة كملكية خاصة لا مجال فيها للتغيير إلا بحدود ما يُسمح به وعليه لابد من الإستثمار في الموقف السياسي لمالي والذي رأينا أثره مؤخراً بدعم باماكو لدولة الكويت لعضوية مجلس الأمن في مارس 2019 وعضوية المجلس الاقتصادي والإجتماعي في مايو 2019 وعضوية إدارة المنظمة البحرية الدولية، وحرصاً منا على الحفاظ على المصالح الخليجية وتفادياً لما لا يحمد عُقباه مُستقبلاً، أرى أن تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على توحيد جهودها في منطقة الساحل والصحراء ولعل أن يكون ذلك بداية لتوحيد الجهود الخليجية في باقي العواصم الأفريقية الأخرى تمهيداً لإرساء إستراتيجية خليجية أفريقية يستفيد منها الطرفان، ولعل أن يكون ذلك سبيلاً للمُضي قدماً نحو التكامل الخليجي الذي نتوق إليه كمواطنين خليجيين، فالواقع السياسي في أفريقيا عموماً يؤكد أن وجود المصالح الخليجية في تكتل خليجي جماعي سيعززها بشكل يفوق وجودها منفردة ناهيك عن تعزيز الخبرة السياسية الخليجية لحقيقة الميدان الأفريقي وكيفية إدارته والتي ما زال يفتقر إليها الذهن السياسي الخليجي حتى الآن.
*باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي