عندما تختبر إيران الولايات المتحدة
تتابع إيران جس نبض الإدارة الأميركية الجديدة من أجل اختبار مدى قدرة تحمّلها للاستفزازات التي تمارسها في المنطقة. تريد، في ما يبدو، الذهاب إلى أبعد ما يمكن أن تذهب إليه بغية إجبار إدارة جو بايدن على العودة من دون شروط إلى الاتفاق في شأن ملفّها النووي الذي تمّ التوصل إليه صيف العام 2015 في عهد باراك أوباما.
واضح أن هناك خيبة إيرانية كبيرة من الدول الأوروبية الشريكة في توقيع الاتفاق وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. تصرّ طهران، عبر مسؤولين فيها، على أنّ هذه الدول لم تفعل شيئا عندما كانت هناك حاجة إليها في العام 2018 لإقناع الولايات المتحدة، في عهد دونالد ترامب، بعدم تمزيق الاتفاق. تكتشف إيران يوميا أنّ الاتفاق كان فعليا مع الولايات المتحدة وليس مع الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة زائدا ألمانيا. تكتشف أيضا أن العقوبات الأميركية فعّالة وأن أوروبا لا تقدر عمل شيء تجاهها.
يظلّ العراق المكان المفضّل لممارسة إيران اللعبة الجديدة الهادفة إلى الذهاب إلى أبعد ما يمكن الذهاب إليه في اختبار الصبر الأميركي ونيّات الإدارة الجديدة
هل تستطيع “الجمهورية الإسلامية” إقناع إدارة بايدن بوجهة نظرها، أو على الأصحّ فرض وجهة النظر هذه عليها؟ ليس ما يشير إلى ذلك، أقلّه إلى الآن. إيران مستعجلة والولايات المتحدة تمتلك القدرة على الانتظار. أكثر من ذلك، إذا كانت لدى الإدارة الأميركية الجديدة أيّ أوهام في ما يتعلّق بإيران، فهذه الأوهام زالت أخيرا، خصوصا بعد قصفها بالصواريخ عبر أدوات عراقية تابعة لها لمطار مدينة أربيل عاصمة كردستان العراق حيث قاعدة عسكرية أميركية، إلى جانب المطار المدني. لا ردّ أميركيا إلى الآن، باستثناء الإعلان عن غضب شديد من الذي حصل من دون توجيه إصبع الاتهام إلى طهران.
ليس معروفا هل ستردع إدارة بايدن إيران في مرحلة ما أم ستتركها تتصرّف على هواها كما يحصل حاليا. كلّ ما يمكن قوله إنّ إيران تضغط في لبنان واليمن والعراق وتحاول في الوقت ذاته تأكيد أن وجودها في سوريا أبدي وهي مستعدة لتقديم المزيد من التضحيات كي تتغير الأرض السورية وتكوين المجتمع بما يناسب مشروعها التوسّعي.
في لبنان، تبدو خلاصة الخطاب الذي ألقاه حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” قبل أيّام، وهو الخطاب الأوّل منذ اغتيال المفكّر والسياسي والناشط الشيعي لقمان سليم في جنوب لبنان، بمثابة تأكيد أن البلد صار مستعمرة إيرانية. لم يتردّد نصرالله في التشديد، وإن بطريقة غير مباشرة، على أنّ “حزب الله” هو اللاعب الأساسي في البلد وهو من يقرّر حجم الحكومة مطالبا بأن يزيد العدد على 18، أي بما يتلاءم مع رغبات رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل الباحثين عن ثلث معطّل داخل الحكومة. بالنسبة إليه، إن رئاسة الجمهورية وكل ما هو متفرّع عنها في جيبه. ذهب إلى تحذير الإعلام من توجيه أيّ اتهامات إلى “حزب الله”، خصوصا بعد اغتيال سليم. نسي الأمين العام للحزب أن سليم اغتيل في منطقة معروف من يسيطر عليها ومن يراقب كلّ من يدخل إليها أو يخرج منها!
لم يكن اغتيال سليم المعروف بعلاقته القويّة بالإدارة الأميركية ودول أوروبية حدثا عابرا، كان رسالة واضحة تستهدف معرفة ردّ الفعل الأميركي وحجم الفارق بين الإدارة الحالية والإدارة السابقة.
ما ينطبق على لبنان، ينطبق على اليمن. فجأة زاد الحوثيون هجماتهم على المملكة العربيّة السعودية مستخدمين صواريخ وطائرات مسيّرة. أثبتوا أنّهم أداة إيرانية وجزء لا يتجزّأ من الاستراتيجية التي تتبعها “الجمهورية الإسلامية” في تعاطيها مع إدارة أميركية جديدة اتخذت موقفا مرنا منهم. ما يفعله الحوثيون الذين استهدفوا مطار أبها لا يستند إلى أي منطق باستثناء منطق الاستفزاز الإيراني للولايات المتحدة.
يظلّ العراق المكان المفضّل لممارسة إيران اللعبة الجديدة الهادفة إلى الذهاب إلى أبعد ما يمكن الذهاب إليه في اختبار الصبر الأميركي ونيّات الإدارة الجديدة. على الرغم من أن إدارة بايدن أقدمت على مبادرات عدّة تظهر عبرها حسن نيتها تجاه “الجمهورية الإسلاميّة”، لم تعط إيران أي إشارة توحي بتفهّم موقف الإدارة. ليس إطلاق الصواريخ في اتجاه القاعدة العسكرية الأميركية في أربيل سوى دليل على عجز إيراني عن القدرة على ممارسة لعبة الانتظار. يكشف ما حدث أنّ “الجمهورية الإسلاميّة” حشرت نفسها في الزاوية من جهة ومدى تأثير العقوبات التي فرضتها عليها إدارة ترامب من جهة أخرى.
في ضوء التغيّرات الإقليمية والدولية التي حدثت منذ العام 2015، أي في ضوء استغلال إيران الاتفاق في شأن ملفّها النووي لتطوير صواريخها والاستثمار في ميليشيات مذهبية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لا يستطيع العالم الوقوف مكتوفا. حتّى لو شاءت الولايات المتحدة ذلك، هناك خطوات لا مفرّ من التفاهم في شأنها مع أوروبا ممثلة بألمانيا وفرنسا وبريطانيا. لا يمكن لأيّ تفاهم أميركي – أوروبي تجاهل الصواريخ الإيرانية التي زادت دقّتها، كما لا يمكن تجاهل ما فعلته وتفعله الميليشيات الإيرانية في كلّ المنطقة العربيّة.
من يصرخ أوّلا، الإدارة الأميركية الجديدة أو إيران؟ الثابت أن إيران أدخلت نفسها في لعبة التصعيد التي يمكن أن تقود إلى انفجار ما في مكان ما قد يكون سوريا وذلك بسبب قرب صواريخها من إسرائيل. رهانها على أن الإدارة الأميركية منشغلة بمشاكل داخلية مرتبطة بالاقتصاد وانتشار كورونا. من الصعب أن يكون مثل هذا الرهان الإيراني في مكانه لسبب واحد على الأقل. هذا السبب أوروبي. حصل تغيير جذري في الموقف الأوروبي من إيران. يدلّ على ذلك ما سبق وأعلنته ألمانيا عبر وزير خارجيتها هايكو ماس عن ضرورة توسيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني ليشمل الصواريخ والسلوك الإيراني. هناك خطوتان أقدمت عليهما ألمانيا وبريطانيا تناولتا “حزب الله” الذي صار “إرهابيا” في هذين البلدين. معنى ذلك أن هناك رسائل موجهة إلى إيران أيضا وأنّها ليست وحدها التي توجّه رسائل إلى الآخرين.
عاجلا أم آجلا، سيتوجب على “الجمهورية الإسلامية” أن تختار بين التصعيد وبين أن تكون دولة طبيعية من دول المنطقة تهتمّ بشعبها ورفاهه وليس بالصواريخ والميليشيات المذهبية.
أمّا إدارة بايدن فلن يكون لديها في مرحلة معيّنة من خيار غير الاعتراف بأن إدارة ترامب عرفت كيف يكون التعاطي مع إيران…
*إعلامي لبناني