قراءة في مذكرات قارئ
مذكرات قاري كتاب الفه الدكتور محمد حامد الاحمري، وقد بدأت بقراءته في اخر شهر من العام المنصرم، ولم تكن قراءتي له قراءة متصلة، وانما كانت متقطعة، اعود اليها بين آن واخر، رغبة في اطالة امد اللذة، وخوفا من انقطاع المتعة، وكلما توغلت في قراءتي ودنوت من الخاتمة، كنت اعد الصفحات عدّا، واقلّب ما بقي منها، مشفقا على فراق حبيب لا يملّ حديثة، وانقطاع متعة قلّما يظفر بها الانسان في هذه الايام العجاف. وقد عرض الدكتور الاحمري في هذا الكتاب تجربته مع الكتب والقراءة، وهي تجربة غنية ثرية من قاري نهم، احب الكتاب والقراءة منذ نعومة أظفاره، حبا ملك عليه لبّه، فانقطع لها. ولا يعرض الكاتب هنا تجربته هو وحده في القراءة، كما يمكن ان يفهم من عنوان الكتاب، وانما يعرض لتحربة علماء ومفكرين وأدباء وفلاسفة كبار من الشرق والغرب، ومن مختلف المشارب والمدارس عبر العصور، فانك ستجد اقتباسات ممتعة من ابي حيان التوحيدي والجاحظ وابن تيمية وابن الجوزي والغزالي وابن خلدون ومالك بن نبي وجمال الدين الأفغاني وغيرهم من علماء الاسلام ومفكريه، كما ستقف على تجارب فلاسفة الغرب ومفكريه أمثال نيتشه، رسل، جان جاك روسو، مونتسكيو، فولتير، ستيوارت مل، ماركس، هيغل وغيرهم، وكأنك في مجمع حافل لعباقرة العالم، تصغي الى نقاشاتهم وافكارهم وآرائهم في مائدة حافلة بأنواع المطاعم والمشارب.
والكتاب روضة خضراء معشبة غناء، وفيها من كل زوج بهيج، وثمرات مختلف ألوانها، وفواكه متباينة الأذواق، لذيذة المطعم، حلوة المذاق، وفيه فوايد فريدة، ونصائح مفيدة، ونكت طريفة، واقتباسات بديعة، واحاديث العلماء، ومحاورات الفلاسفة، ونقاشات المفكرين. ويغوص الكاتب بمهارة في بحار مذكراته، فينتقي لنا من جواهرها أحسن ما جادت به قرائح هولاء العباقرة وتجاربهم ومعاناتهم مع القراءة والكتاب، معلقا معقبا طورا، وناقدا مناقشا تارة اخرى. وربما يكون هذا الكتاب جوهرة فريدة في نوعه في المكتبة العربية، فانني قد قرات من قبل علماء واداباء ومفكرين، يتحدثون عن تجربتهم في القراءة وعيشهم مع الكتب، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك في ثنايا الحديث عن سيرتهم الذاتية او ذكرياتهم ومذكراتهم، وما شابه ذلك من الكتب التي يصنفونها للحديث عن حياتهم، ولم أقف على كاتب أفرد لتجربته في القراءة والكتب بمصنف خاص، كما فعل صاحبنا الاحمري. وهاك شذرات يسيرة من فيض ما اقتطفناه من ثماره اليانعة.
يحتوي الكتاب على فصول خمسة. الفصل الاول بعنوان: (متعة القراءة)، والفصل الثاني: ( عين لا ترى الا الكتب)، والفصل الثالث؛ (معايشة النمرة)، والفصل الرابع: (عبقري يستعد)، والفصل الخامس والأخير (بيت في مدينة الادب). وفي الفصل الاول يتحدث الكاتب عن متعة القراءة، وتنوع الكتب، وكونها غذاء روحيا للعقل فيقول”الكتب موائد للعقل والروح متنوعة، فهناك النص الطريف السريع الذي يصعب على القارئ أن يجمع معه سواه، وهناك النص الدسم والممتع جدا، وهو الذي يتذوقه كل يوم، ويجد غنى ومتعة وعلما وجمالا، ويُشفق عندما ينتهي منه فيبدأه مرة أخرى” (مذكرات قاري ص ١٩). ويتساءل الكاتب لماذا نقرا؟ وهل هناك قاري جاد لم يخطر يوما على باله هذا السؤال؟ فهذا صاحبنا الاحمري يطرح على نفسه هذا السؤال ويكتب: “ان القرّاء يأتون للكتب بحثا عن القوة، أو المعرفة، أو المتعة، أو العلاج؛ غير أن الكتب التي تأتيها مختارا قد تبقى معها دون اختيار، فتسجنك بلا وعي بقيودها، وقد تسلبك القوة وأنت تتوهم أنها تُعطيك” (مذكرات قاري، ص٢٢).
ويرى الكاتب ان القراءة للمتعة أفضل مدخل للاستمرار والمواظبة والاستفادة “إننا نقرأ للمتعة، وهذا يكون خير مدخل للقراءة، فالذي يقرأ لأنه مجبر قد لا يستفيد ولا يستجيب لهدف النص، ولا يُدرك هدف القراءة ودوافعها” (مذكرات قاري، ص٢٩). ولكن صاحبنا يعود فيحذر من مغبة الاستسلام لمتعة القراءة من اجل القراءة فقط من دون أهداف واضحة “فالقراءة من أجل المتعة والتلذذ بالمغامرات والأفكار والمشكلات والصور الفكرية والتاريخية والأدبية، تجعل من القراءة رغبة دائمة؛ وعيب هذه الرغبة أنها تجرف القارئ ليقرأ فقط، وربما ليحقّق شهوة دون عبادة، وليستمتع ويخرج من متعة نص لمتعة نص آخر، وهكذا يسلمه كتاب لكتاب وكاتب لكاتب ويفقد هدف القراءة، هذا إن لم تجرفه الكتب ليفقد هدف الحياة” (مذكرات قاري، ص٢٩). ولقد وقفت عند هذا النص طويلا، فقد نكأ مني جرحا غائرا كنت اتحاشاه وأتناساه، ووضع إصبعه على علة كنت اشعر بالمها، ولكنني لم اكن اتبينها او اهتد الى وصفها وتشخيصها، ( وعيب هذه الرغبة أنها تجرف القارئ ليقرأ فقط). اخشى ان يكون الدواء قد جاء بعد استفحال المرض واستعصاء الدواء، ومهما يكن، فان في معرفة الداء بعض الراحة وأملا في العلاج.
ويرى الكاتب ان القاري لا يشعر بمتعة ما يقروه حتى تصبح القراءة لديه عادة من غير تكلف ” القراءة حين تتحول إلى عادة، يُصبح الإنسان أكثر قدرة على التعاطي مع الكتاب ومرافقته، إلا أن هذا الانسجام لا يجب أن يصل إلى حد الذوبان، فإن من الخطر الاستسلام للكتب دون تفكير فيها وفي النصوص المقروءة، وكذا الثقافة الباردة المجردة من المهارات العملية، فعليك أن تُبعد نفسك بعض الوقت عن القراءة المستمرة، وتُفكّر فيما قرأته بعين ناقدة” (مذكرات قاري، ص٥١). ويطرح الكاتب سؤالا مهما ماذا نقرا؟ ويجب اجابة خبير سبر أغوار القراطيس، وغاص بطون الكتب، واستخرج منها الدرر؛ اذ انه يرى ضرورة قراءة المصادر والمنابع الاولى في العلوم، لمن اراد ان يرد الينابيع الاولى للمعرفة التي لم تكدرها الدلاء، فلا ينبغي ان تشعله الجداول التي لا تنقع غلّة صاد، ولا تروّي عطشه ظمآن، ويقول في ذلك “إن الجواب عن ‘ماذا أقرأ؟‘ عمره عمر السوال، غير أني أقول لك : إنّ جُلّ من قرأت لهم من قومنا ومن غيرنا يقولون : عليك بالمنابع العظمى، عليك بالكتب الجيدة، عليك بكتب المؤسّسين الكبار للعلوم والأفكار” (مذكرات قاري، ص ٣٤). وهذه نصيحة غالية لأجيالنا المعاصرة التى ركنت الى الدعة والراحة، فتحلم ببلوغ المرام ونيل الأماني من غير كدّ ولا تعب، ومن قصد البحر استقل السواقيا.
ويوضح الكاتب ان الهدف من القراءة هو تنشيط العقل، وتجديد الفكر، وتوسيع آفاق الحياة، بالاضافة الى المتعة، فاذا تحولت القراءة الى آلة للجمود والركود فيجب علينا مراجعة اهدافنا وغاياتنا من عملية القراءة “الهدف من القراءة والكتابة حراثة العقل وتقليبه وتجديده، وإنقاذه من الترهّل والموت البطيء وليس العكس، فإذا أصبحت القراءة سجنا جديدا لذواتنا علينا أن نعاود النظر في آلية القراءة وما نقرؤه، فالقراءة حقا هي النافذة نحو الحياة، لكنها ليست السجن الذي نُحبس فيه” (مذكرات قاري، ص٤٣). ويقف صاحبنا عند العلاقة ببن القاري والكتاب، ويرى انه ينبغي ان تكون علاقة فهم وتفاعل ونقد، ويحذر من التبعية العمياء لأفكار الكتب، خاصة لمن هو فوق الأربعين من العمر، اما من هو دون الأربعين، فقد يعذر له ” فان كنت شابا في بحر الثلاثين فلا حرج في هذا كثيرا، ولا لوم عليك ان تتبع الكتب، وتسلم بكثير مما فيها؛ أما ان كنت بعد الأربعين، وما رالت تسوقك الكتب، فأنت أسير للمؤلفين وقليل الانتفاع بالكتب” (مذكرات قاري، ص١٥٢). نص ثقيل، وراي صايب، وما اقل من ينتفع الكتب في أيامنا هذا، ولا يزداد من قراءته الا النصب والتعب وضعف البصر وصداع الرأس ! وماذا سيقول كاتبنا من هم فوق الخمسين والستين الذين ينقادون لافكار الكتب دون نقد او تساؤل؟
ومع عشق كاتبنا للكتب، وحبه العذري للقراءة، فانه يعترف بأضرارها الاخرى الجسيمة “وللحقيقة اقول ان أضرارها عظيمة ايضا …. فهي تخرجه من فرديته وشئونه الخاصة الى زعازع المجتمع وقد تربطه بقضايا دولية ابعد وتحرم الانسان هدوءه وراحته وفرديته وتكشف له عما يزعج من نفسه ومن الناس” (مذكرات قاري، ص١١٧). وقد يهيم بعض القرّاء بعشق الكتاب والقراءة، حتى تستولى عليه قلبه ووقته، فلا يجد أنسا الا بقربها، ولا بحس براحة الا محتضنا لكتاب، وهذا مما يثير بغض الزوجة للكتب ولزوجها. ومن طرائف أضرار عشق القراءة ما أورده كاتبنا “قصّ علينا الدكتور فاروق القاضي أن أحد أساتذة جامعة عين شمس عاد من التدريس ليجد زوجته الألمانية قد أخرجت كتبه للشارع، وبدأت تُشعل فيها النار، وقد كان محظوظا إذ لم تتم عملية الإحراق، أو تم جزء يسير منها” (مذكرات قاري، ص٢٣).
ومن عجائب الغرام بالكتب والقراءة ان المغرم فد ينسى حتى كنيته، وهذا الجاحظ زعيم عشاق القراء وشهيد الكتب نسي كنيته ثلاثة ايّام فقال؛ “نسيت كنيتي ثلاثة أيام، فأتيت أهلي فقلت: بم أكنى؟ قالوا: بأبي عثمان” ( مذكرات قاري، ص٥٨، نقلا عن كتاب مقالات الطناحي، ص٢/٥٢٤). واعجب من هذا من نسي اسمه، “وكذلك احمد بن الصديق الغماري المحدث الكبير، نقل ان الشيخ الكتاني كان يكتب اهداء على احد كتبه لتلميذ له، ثم وقف وقفة طويلة، فسألوه مالذي يحدث؟ فقال: نسيت اسمي، فلقنوه اسمه!” (مذكرات قاري، نفس الصفحة، نقلا عن جؤنة العطار في طرف الفوائد ونوادر الاخبار للغماري،ص٨٢-٨٣).