كتابات راي

لم يعد يأتي الجديد من ليبيا

يمكن أن يمنحنا أطول ساحل على البحر المتوسط درسا سياسيا يفوق بكثير القيمة الجغرافية التي يمثلها هذا الطريق الممتد على مسافة 1955 كلم من الحدود التونسية إلى الحدود المصرية. 

ليبيا التي تنبأ بجديدها الدائم المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، محظوظة بهذا الساحل الشاسع، لكنه لا يمثل في حقيقة الأمر غير خيبة سياسية مستمرة مقابل قيمته الجغرافية المغيّبة عمدا، لمجرد أن نعرف أن هذا الساحل الذي يربط غرب ليبيا بشرقها وتمتد على جانبه المدن لم يحظ بسكة حديد وقطارات يوقظ صفيرها البحر النائم! 

القطارات مثل الطرق شرايين المدن ووسيلة لتوحيد البلاد بغض النظر عن خلفية سكانها، وتتقطع أوصال البلدان لمجرد قطع شريان تواصلها. وفي ليبيا ليست الطرقات مقطعة الأوصال فحسب، بل إن القطيعة الاجتماعية والقبائلية “غير الظاهرة” تحول أو لا تشجع على مد سكة حديد تربط رأس جدير على الحدود التونسية مع طبرق على الحدود المصرية. 

ربط الأقاليم 

لم تجرؤ الحكومات التي مرت على ليبيا منذ الاحتلال الإيطالي على التفكير بهكذا مشروع حيوي يربط إقليم طرابلس بفزان وبرقة، فقد كانت هناك حاجة وطنية ماسة وفاعلة تسبق المشاريع الاقتصادية. لم يكن بمقدور الحكومات رفع منسوبها، أو لأنها لا تريد ذلك أصلا. 

لنقل إن النظام الملكي، وفق التقويم المفرط بالتفاؤل، لم يمتلك المقدرة الاقتصادية لربط أوصال البلاد، لكن وفق نفس هذا التقويم فإن العقيد معمر القذافي لم يكن يريد ذلك أصلا، وكان يدفع باتجاه تقسيم البلاد قبائليا من أجل مصلحة سياسية أنانية. وإلا كيف نفسر بأنه لم توجد على مدار أربعين عاما من حكمه، فكرة مشروع يربط الأقاليم الثلاثة بسكك حديدية حديثة على الرغم من الثروة الهائلة التي امتلكتها ليبيا في عهده. 

لقد أغدق القذافي على مشروع النهر الصناعي المشكوك في جدواه ولم يفكر بأن يجعل الرحلة من طرابلس إلى بنغازي تستغرق بضع ساعات بالقطار، بدلا من أن تأخذ يوما كاملا في السيارة، لأنه يدرك أن الجغرافيا الموحدة قادرة على تغيير التاريخ وإخضاع السياسة لسطوتها. وهو لا يريد ذلك. 

لقد قدم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة درسا سياسيا للقذافي عندما عرض العقيد عليه الوحدة بين البلدين عام 1972. وضع بورقيبة يد العقيد الشاب آنذاك على الدرس الوطني الأهم في تاريخه السياسي، مطالبا إياه بتوحيد المجتمع قبل التحدث عن توحيد البلدان العربية، قال له عليك أن ترفع من مستوى الوطنية، فليبيا نفسها غير موحدة، وهي بحاجة إلى توحيد قبائلها الممتدة عبر صحراء شاسعة من طرابلس إلى برقة. 

ولأن القذافي لا يعتد بالدروس الوطنية كعادته، قلب وجهه وغادر تونس، وفشل في بناء دولة وطنية تمتلك ثروة هائلة، بل الأكثر من ذلك قضى على مفاهيم الدولة التي تركها النظام الملكي. فيما نجح بورقيبة في صناعة أسس دولة وطنية في تونس بإمكانيات متواضعة. 

ضغينة القذافي تجاه الليبيين بقيت مستترة، يعلنها وفق حاجته السياسية، ويلعب عليها كلما أراد ذلك، لكنه عندما شعر باقتراب نهاية مشروعه أعلنها دون مواربة على الشاشات، بإعادة الخلاف التاريخي الذي لم يٌنس أصلا، بين مصراتة وبني وليد. وقال “أنا أدرك أن مصراتة لا يمكن أن تحب أو تتفق مع بني وليد”! كانت مصراتة آنذاك تخرج عن سطوته عام 2011. 

مصراتة نفسها لا تعترف بتاريخ الجهاد الليبي عندما يتجاوز المؤرخون دورها، وترى أن رمضان السويحلي، الذي قتل بطريقة غامضة يتهم فيها بعض المؤرخين قبائل بني وليد، هو رائد الجهاد. ذلك الخلاف الممتد منذ قرن كامل انعكس على طبيعة الثورة الليبية التي أسقطت نظام القذافي عام 2011، عندما يتعلق الأمر بعلاقة بين مدينتين مثل مصراتة وبني وليد. 

بينما جعل السياسيون الجدد ورجال الدين والقبائل المتسيدون على المشهد اليوم، أنفسهم معادلا مستمرا لفشل القذافي، عندما اتخذوا القبائلية والمناطقية مثالا لمشاريعهم في بناء دولة، من دون أن يتخلوا عن خلافاتهم الموروثة. وبقيت الوطنية الليبية في هامش كل تعريفاتهم في صناعة مستقبل البلاد! 

فإذا كان الفشل في جمع مصراتة وبني وليد كمدينتين ليبيتين لا تبعدان عن بعضهما أكثر من 130 كلم، استمر كل تلك العقود، هل بمقدور الطبقة السياسية المتناحرة على كل شيء إلا الوطنية الليبية، أن تجمع قبائل البلاد المتباعدة وتفتح الطريق الشاسع بين طرابلس وبنغازي! 

إقليم رابع 

اليوم بتنا نسمع، بالتزامن مع نبرة التفاؤل السياسية الدولية للحل في ليبيا التي تعاني التقسيم والفوضى، أن قبائل الجنوب الشرقي الممتد من مدينة أجدابيا شرقا إلى سرت غربا ومدينة الكفرة جنوبا، تطالب بإقليم رابع تحت اسم “برقة البيضاء” إلى جانب الأقاليم الثلاثة الأخرى؛ طرابلس وفزان وبرقة الحمراء! 

ولأن التاريخ يمثل درسا أكثر من أي شي آخر عندما يتعلق الأمر بالمفاهيم السياسية، يبدو أننا بحاجة إلى التاريخ الليبي اليوم أكثر من أي وقت مضى من أجل توحيد الجغرافيا، مع التفاؤل الدولي بشأن الاتفاق السياسي بين الأطراف المتنازعة والاتفاق على إجراء استفتاء على الدستور قبل الانتخابات العامة في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل برعاية الأمم المتحدة. 

وعندما عرضت الممثّلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة ستيفاني وليامز على الليبيين فرصة حقيقية لتجاوز خلافاتهم وانقساماتهم، واختيار حكومة مؤقتة لإعادة توحيد مؤسساتهم من خلال الانتخابات الوطنية الديمقراطية التي طال انتظارها، فإنها تدرك أن الأطراف السياسية برمتها لا تمثل حلا حقيقيا للمعضلة القبائلية قبل السياسية في ليبيا، لأن كل الذين اتفقوا على استفتاء الدستور، بغض النظر عن عناوينهم السياسية والمناطقية، لم يجعلوا وطنيتهم فوق أي اعتبار قبلي أو عرقي آخر. كانوا يمثلون قبائلهم ومناطقهم أكثر من كونهم ممثلا شرعيا لليبيتهم. 

وليامز تدرك بأن كل الذين جمعتهم من الطبقة السياسية وفق خلفيتهم المناطقية والقبائلية، استفادوا كثيرا مما يجري من تقسيم جغرافي وسياسي، وليس سهلا عليهم التفريط بهذا الهيكل التقسيمي الذي يحقق مصالحهم غير الوطنية. 

عرفت ستيفاني عن قرب أن ليبيا غارقة بالفوضى، واعترفت الأسبوع الماضي في حديث لها مع المحرر الدبلوماسي في صحيفة “الغارديان” البريطانية باتريك وينتور، أن هناك 20 ألفا من المرتزقة الأجانب موزعون على سلطتي حكومة الوفاق التي تتخذ طرابلس مقرا، وسلطة يمثلها المشير خليفة حفتر في شرق البلاد ويدعمها البرلمان المنتخب. فلا تركيا الداعمة لحكومة الوفاق تريد سحب مرتزقتها، ولا روسيا الداعمة لحفتر راغبة أيضا. فعن أي سيادة ليبية يمكن أن نتحدث بعدها. وعن أي حلول متفائلة لبلاد لا يمكن أن يؤمن سياسيوها أسوة بالقذافي، بالعمل الجماعي والتبادل السلمي للسلطة؟ 

قبل يومين بدا اتفاق المتحاورين الليبيين بمدينة بوزنيقة المغربية، وكأنه إنجازا! لكنه في حقيقة الأمر يشرع للخلاف المستقبلي أكثر عندما يتم تقسيم المناصب السيادية وكأنها حصص مناطقية بدلا من أن تكون وفق وطنية الكفاءات الليبية بغض النظر عن خلفيتهم القبلية أو الجغرافية. 

وبمقتضى هذا التوزيع ستحصل طرابلس (منطقة الغرب) على منصبي النائب العام، وديوان المحاسبة، وتحصل فزان (الجنوب) على المحكمة العليا، وهيئة مكافحة الفساد، فيما تحصل برقة (الشرق) على المصرف المركزي، وهيئة الرقابة الإدارية. 

ما ينتظر كوبيش 

السياسيون كائنات متفائلة عند أشد مواقف التشاؤم، هكذا تفترض علوم السياسة، لذلك، بدت رسالة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وهو يعلن تعيين السلوفاكي يان كوبيش مبعوثا إلى ليبيا. لكن الليبيين لا ينظرون بعين الأمل إلى كوبيش كمثال مكرر عن فشل من كان قبله في المهمة، بينما لا يخفي غالبية المراقبين مخاوفهم مما ينتظره في ليبيا، ليضاف إلى فشل مهامه السابقة في العراق ولبنان. نفس الفشل رافق غسان سلامة المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا. 

الوثوق بممثلي التقسيم في ليبيا، لجمع الأطراف المتناحرة ليس حلا للبلاد التي عجزت على مدار عقود عن مد سكة حديد تربط طرابلس ببنغازي. 

إن لم يُغلّب السياسيون الليبيون وطنيتهم على المسميات الأخرى، مثالا للعمل، فإنهم مهما اتفقوا أمام العدسات وفي البرلمانات المنقسمة وقاعات المنظمات الدولية، سيبقون الممثل الشرعي للتقسيم. ولسوء حظ الليبيين الذين ثاروا على القذافي أن رجال الدين والقبائل تسيدوا المشهد برمته، ولم يحدث على مر التاريخ أن استطاعت القبيلة أو رجال الدين بناء دولة. 

في منتصف تسعينات القرن الماضي ترجل صديقي الصحافي الراحل عمر السنوسي من سيارته، ويمم وجهه نحو المتوسط، ثم استدار باتجاه السرايا الحمراء، وقال انظر يا كرم “كم تبدو طرابلس جميلة”، فعل ذلك قبله الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر عندما جعل بيوت ليبيا في “بلد الطيوب” الأقراط في أذن السماء! 

هذا الحلم الوطني كان يراود الراحلين عبدالكريم الدناع وأبوالقاسم القويري كي تتحرر مصراتة من قبليتها، فيما دفع منصور بوشناف من بني وليد سنوات من عمره خلف القضبان لأنه لمح للحرية في واحدة من مسرحياته. وكان الشاعر الراحل علي الفزاني يتوق إلى أسفار المدينة المضيئة من بنغازي، وعيونه على البلاد برمتها. حتى جيلاني طريبشان رمى قصائده في المحيط وفضل بلدة الرجبان الهادئة ليموت فيها، على كل صخب أيرلندا. 

لكن كل تلك الأحلام الوطنية الليبية وئدت بالأمس من قبل معمر القذافي، ويستمر وأدها اليوم على أيدي السياسيين ورجال الدين في البلاد التي لم تعد تحقق نبوءة أبوالتاريخ هيرودوت، عندما يستمر غياب الجديد عن ليبيا. 

*كاتب عراقي مقيم في لندن 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق