عن قمة “إيغاد” وحرائق القرن الأفريقي
كالنار في الهشيم، تزداد حرائق الأزمات السياسية والأمنية في دول القرن الأفريقي اشتعالاً، وتمتد ألسنة نارها إلى دول أخرى، فالصومال أعلن عن قطيعة دبلوماسية كاملة مع جارته كينيا، بينما المناوشات والكمائن المميتة تشعل نار صراع دبلوماسي بين إثيوبيا والسودان، وخصوصا في المناطق الحدودية المشتركة، فضلاً عن علاقات متدهورة بين مقديشو وجيبوتي، منذ اتجهت سياسة الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، نحو تطبيع العلاقات مع إريتريا التي ليست على وفاق مع جيبوتي، نتيجة نزاع حدودي بينهما، هذا إلى جانب الصراع الحدودي بين جنوب السودان وأوغندا، فضلاً عن الصراعات الداخلية المتأجّجة في كل من الصومال وإثيوبيا، وخصوصا بعد الحرب التي شنها أخيرا رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، على إقليم تيغراي، وقوّض قوة مليشيات تيغراي.
وسط هذه الحرائق البركانية المشتعلة في القرن الأفريقي، عقدت قمة الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) في جيبوتي في دورتها الـ38، لإخماد تلك الحرائق، وإيجاد حلول جذرية لأزمات دول المنطقة، وخصوصا النزاع السياسي بين كينيا والصومال، والذي تطور إلى قطع للعلاقات الدبلوماسية بينهما، هذا إلى جانب أزمات إثيوبيا الداخلية، وخصوصا شقها الإنساني الصادم، بعد وصول أكثر من 50 ألف نازح إثيوبي إلى الحدود السودانية، بعد أسابيع من حرب طاحنة شهدها إقليم تيغراي.
وتبدو المعضلات السياسية والأمنية في المنطقة، بمنزلة اختبار صعب لرئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك، الذي ترأس بلاده الهيئة الحكومية للتنمية، لحل تلك النزاعات، واختراق حصون الخلافات بين الدول وتفكيكها، وتقريب وجهات النظر بين الأشقاء الأفارقة، في ظل ما يعانيه السودان نفسه من مشكلات مستصعية على الحل، وتحتاج إلى من يضمد جراحها، قبل أن تجد علاجاً للآخرين، فهل ستفلح جهود حمدوك لرأب الصدع بين الرئيسين، الصومالي فرماجو والكيني أهورو كينياتا؟ وهل تتمكن القمة الاستثنائية من إيواء آلاف النازحين واللاجئين في دول القرن الأفريقي، في ظل انعدام المستلزمات الضرورية للمشرّدين، وسط تراكمات جائحة كورونا الاقتصادية وتداعياتها الإقليمية والعالمية؟
لقد بدأت جهود الوساطة الدبلوماسية الإقليمية تؤتي أكلها لحل النزاع الدبلوماسي بين الصومال وكينيا، حيث يتوسّط الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، لنزع فتيل الشرارة الدبلوماسية بين الجانبين، والتي تتجه نحو الأسوأ حيناً بعد الآخر، حيث يتهم الصومال جارته كينيا بالتدخل في شؤونه الداخلية، جديدها بشأن تسليح مليشيات بالقرب من الحدود الصومالية الكينية، لتستهدف مراكز عسكرية للجيش الصومالي في المناطق الحدودية، وهي اتهامات تفندها كينيا. وفي المقابل، تواصل خرقها سيادة الصومال واستقلاله، وذلك بعدما استضافت رئيس ما تسمى “أرض الصومال”، موسي بيحي عبدي، في نيروبي، الأسبوع الماضي، معلنة فتح قنصلية لها في هرجيسا، لتسهيل العلاقات التجارية والدبلوماسية بين الجانبين، وهو أمر اعتبرته مقديشو خرقاً فاضحاً لسيادتها ووحدة أراضيها، ورفعت شكوى لـ”إيغاد”، لكن الأسئلة التي تقفز إلى الأذهان: هل ستتم تلبية كل تلك المطالب التي يقدمها الصومال، لكي ترضخ كينيا لشروط الصلح والوفاق مع مقديشو، وأولها رفع يدها عن السياسة الصومالية، ومراجعة علاقاتها مع “أرض الصومال”؟ من الصعب أن تستجيب نيروبي لكل تلك المطالب، ما لم تكن هناك مساومات سياسية وتنازل دبلوماسي من الصومال، فالمصالح بين الدول تبادلية، فهي أخذ وعطاء.
التوصل إلى تفاهمات مبدئية بفضل جهود الوساطة الإقليمية بين الجانبين ضرورة ملحّة للشعبين، الصومالي والكيني، فقطع العلاقات الدبلوماسية ينعكس سلباً على الصوماليين في كل من كينيا والصومال أيضاً، واستئنافها يعزّز سيناريوهاتٍ بشّرت بحلٍّ قريبٍ للأزمة الدبلوماسية بين الجانبين، وإنْ تكرّرت أحداثها في السنوات الأخيرة، وارتفع مدى صخبها وغضبها إلى حد الحنق بين الجانبين، لكن صوماليين كثيرين يأملون بنزع فتيل التوتر بين الجانبين، فالسياسة الخارجية الصومالية تشوبها أخطاء دبلوماسية واستراتيجية، فقطع العلاقات مع كينيا خطوةٌ لم تحسب لها حساب، وهي علاقات وصفها وزير خارجيتها السابق، أحمد عيسى عوض، بـ”التاريخية والاستراتيجية “، وليست مجرّد حبل يقطع متى ما انتفت الحاجة إليه.
أما بين السودان وجارتها إثيوبيا، فالخلافات تزداد هوة واتساعاً، بعد نشوب معارك بين مليشيات إثيوبية والجيش السوداني عند الحدود بين البلدين، وأعلن الأخير فرض سيطرته الكاملة على الحدود. وهي أحداث فرضت تفاهما في أثناء القمة بين حمدوك وآبي أحمد، انتهت إلى إجراء اجتماعات للجنة العليا بين البلدين لترسيم الحدود، وحل النزاع بالطرق الدبلوماسية، وذلك فيما تشهد الأوضاع المتوترة في إثيوبيا هدوءا بعدما فرض الجيش الإثيوبي سيطرته على إقليم تيغراي، ولكن هاجس عودة دوامة التوتر بين الخرطوم وإثيوبيا ما زال قائماً، إذا لم تنجح الجهود السياسية في احتواء الخلافات الحدودية بين البلدين.
أما بين جيبوتي والصومال، فلم يبق الوضع كما كان عليه منذ توطّدت العلاقات بين فرماجو والرئيس الإريتري أسياس أفورقي. وعلى الرغم من أن العلاقات الإقليمية للصومال كانت تمر عبر جيبوتي، إلا أن فرماجو قفز قفزة سريعة نحو ربط وثاقه، وتشبيك علاقاته مع الرئيسين، الإريتري والإثيوبي، من دون النظر جلياً إلى النزاع الإريتري الجيبوتي. وإنْ كانت العلاقات الخارجية لدولة ما لا تبنى على أساس مصالح دولة أخرى، إلا أن العلاقات الصومالية الجيبوتية تمتاز بصلات وروابط أخرى، أكثر قرباً من إرث الجغرافيا السياسية، فالثقافة المشتركة وصلة الدم بين الجانبين، كانت تجعل العلاقات بينهما أخوية، ولا تقطع شعرتها نتيجة متغيرات جديدة في المنطقة، لكن الإفراط في تلك العلاقات تسبب في جمود واضح بين البلدين، فهل سترمّم قمة “إيغاد” هذه العلاقة بين الشقيقين؟
في النهاية، توازي تحدّيات حل معضلات القرن الأفريقي، وثقلها الجيوسياسي والاستراتيجي، مشكلات القارة الأفريقية، فهي موبوءة بالأزمات السياسية والعسكرية منذ عقود، من دون أن تهدأ نارها، والتي هي أشبه بالبركان، تخبو جذوتها تارّة وتشتعل تارّة أخرى، وتشهد حالياً تحولاتٍ مهمة بعد تقارب تاريخي بين أسمرة وأديس أبابا عام 2018، بينما ستشهد المنطقة قريباً انتخابات رئاسية في كل من جيبوتي والصومال وإثيوبيا، على الرغم من أن المنطقة لا تزال متخمة بالصراعات أيضاً، فهل ستفرض قمة “إيغاد” استقراراً جديداً بين دولها، وتنجح في تفكيك عقدها السياسية والأمنية، أم ستكون كالقمم التي لا تترك وراءها شيئاً يذكر، لينطبق عليهم القول “أسمع جعجعة ولا أرى طحناً”؟.