كتابات راي

إثيوبيا في المجهول

من الصعب التكهّن بمستقبل بلد مهمّ مثل إثيوبيا يعتبر من بين أكثر البلدان الأفريقيّة عراقة. الأمر الوحيد الأكيد أن إثيوبيا مقبلة على تطورات في غاية الأهمّية والخطورة تهدّد بين ما تهدّد وحدتها من جهة واستمرار دور المركز الذي يحكم منه البلد من جهة أخرى. المعني بالمركز العاصمة أديس أبابا المهدّدة بالسقوط قريبا في ضوء زحف الميليشيات الآتية من تيغراي وغيرها من المناطق. ليس معروفا الدور الذي ستلعبه أديس أبابا في إدارة شؤون بلد في حال دخول إثيوبيا مرحلة جديدة في ظلّ تجاذبات بين الأعراق المختلفة التي يتشكل منها بلد فيه 80 لغة يتحدّث بها سكانه الذين وصل عددهم في العام 2020 إلى 115 مليون نسمة.
من الآن، يصلح طرح سؤال يتعلّق بمدى تأثير تشظي إثيوبيا، على غرار تشظي الصومال واليمن، على منطقة القرن الأفريقي كلّها.

تكفي إشارتان للتأكد من مدى خطورة الوضع في إثيوبيا. الأولى دعوة الإدارة الأميركية كل مواطنيها إلى مغادرة إثيوبيا “في أسرع وقت” والأخرى دعوة الجيش الإثيوبي جنوده السابقين إلى تسجيل أنفسهم لدى السلطات المعنيّة والمشاركة في العمليات العسكرية.
يعطي فكرة عن خطورة الوضع أيضا أنّ تسعة فصائل مناهضة للحكومة المركزية في إثيوبيا شكلت تحالفا من أجل زيادة الضغط على رئيس الوزراء آبي أحمد كي يقبل التخلي عن السلطة. يحدث ذلك في ظلّ زحف لقوات متمردة على العاصمة. ليس ما يشير إلى أن القوات الحكومية قادرة على وقف تقدّم المتمردين الذين يعملون تحت مظلّة تحالف جديد سمّي “الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية”. يسعى هذا التحالف لـ”إقامة ترتيب انتقالي في إثيوبيا” حتى يتمكن رئيس الوزراء من الرحيل في أسرع وقت ممكن، حسب ما قال يوهانيس أبرهة، أحد المنظمين لهذا التحالف، وهو من مجموعة تيغراي. اعتبر أبرهة أن “الخطوة التالية ستكون، بالطبع، عقد اجتماعات والتواصل مع الدول والدبلوماسيين والجهات الفاعلة الدولية في إثيوبيا وخارجها”.

الغريب في الأمر أن التحالف يضمّ جماعات من عرق الأورومو الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء نفسه، وهو أوّل ممثل للأورومو يصل إلى الموقع السياسي الأهمّ في إثيوبيا في آذار – مارس من العام 2018.
ليست إثيوبيا سوى جزء من عالم يتغيّر. يتغيّر سريعا، خصوصا على ضفتي البحر الأحمر في منطقة القرن الأفريقي.

من الواضح أنّ ما تشهده إثيوبيا يعكس فشلا لآبي أحمد في إدارة البلد منذ أصبح رئيسا للوزراء في آذار – مارس 2018. هناك آمال كثيرة عُلٍّقت عليه، خصوصا بعدما سعى لرأب الصدع مع إريتريا بعد حرب مكلفة بشريا وماديا بين البلدين في العامين 1998 و2000. كشفت تلك الحرب وقتذاك العقم السياسي في إريتريا التي مازال يحكمها أسياس أفورقي وفي إثيوبيا نفسها التي كانت في عهدة رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي.
تكمن مشكلة إثيوبيا حيث فشل آبي أحمد فشلا ذريعا في إقامة نظام مختلف وعصري في غياب الحكومة القادرة على إبقاء البلد موحّدا. لم يستطع آبي أحمد التعاطي مع مختلف المكونات في البلد. في الواقع لم يمتلك الأدوات التي تسمح له بأن يكون دكتاتورا آخر. لجأ في السنتين الماضيتين إلى القمع، لكنّ ذلك لم يحل أي مشكلة من أيّ نوع، خصوصا بعدما اصطدم بالتمرد في تيغراي. ما لا يمكن تجاهله أن جماعة تيغراي سيطرت على السلطة بعد خروج منغيستو هايلي مريام في العام 1991.
لماذا تبدو إثيوبيا مهدّدة بمرحلة طويلة من الاضطرابات؟ لا يمكن تحميل آبي أحمد وحده كلّ المسؤولية. من المفيد العودة إلى المراحل التي مرّ فيها البلد منذ العام 1974 تاريخ الانقلاب العسكري على الإمبراطور هيلا سيلاسي الذي لم يكن شخصيّة سياسية فحسب بل كان أكثر من ذلك بكثير كشخصية تمتلك هالة دينية في الوقت ذاته في ضوء الجذور التاريخيّة للعرش.

جاء التخلّص من هيلا سيلاسي، عن طريق مجموعة من الضباط، في ظلّ الحرب الباردة. كان الاتحاد السوفييتي يبحث عن موقع مهمّ في القرن الأفريقي. تولى تأمين هذا الموقع منغيستو هايلي مريم الرجل القوي في اللجنة العسكريّة التي تولت السلطة بعد انهيار النظام الإمبراطوري. تخلّص منغيستو، الذي كان ينتمي إلى العرق الأمهري، باكرا من أمان عندوم رئيس اللجنة العسكرية التي سميت “الدرق”. لعب أمان عندوم، الضابط المحترف، الدور الأساسي في ترقية منغيستو إلى رتبة عريف وذلك عندما كان يعمل في مكتبه!
كان أمان عندوم إريتريا وكان وجوده على رأس اللجنة العسكرية يرمز إلى وحدة إثيوبيا التي كانت إريتريا جزءا منها. تابع منغيستو مسيرته نحو الاستحواذ على كلّ السلطة. تخلّص لاحقا من ضابط كبير آخر هو تيفيري بنتي في العام 1977 وما لبث بعد ذلك أن تحوّل إلى عميل سوفييتي معتمد بعد حرب أوغادين بين إثيوبيا والصومال في العامين 1977 و1978. انحاز الاتحاد السوفييتي كلّيا إلى إثيوبيا في تلك الحرب وربح الجائزة الكبرى بعدما حولها إلى حليف معتمد في المنطقة على حساب الصومال. لم يسقط منغيستو إلّا في العام 1991. ترافق سقوطه ولجوئه إلى زيمبابوي حيث توفّى… مع انهيار الاتحاد السوفييتي.

مع خروج منغيستو من أديس أبابا، بوساطة إسرائيلية مكافأة له على تهريب الفالاشا إلى إسرائيل، استقلت إريتريا بعد استفتاء شعبي أشرفت عليه الأمم المتحدة.
تفتقر إثيوبيا إلى رجل قوي. فقدت وحدتها، عندما استقلّت إريتريا، وخسرت أي واجهة على البحر مع حصول هذا الاستقلال. بات كلّ ما يمكن قوله الآن أنّ إثيوبيا دخلت مرحلة المجهول في منطقة تقف كلّها على كف عفريت، خصوصا أن مستقبل السودان يبدو غامضا، كذلك مستقبل إريتريا نفسها التي تبدو متماسكة في ظلّ النظام الحديدي الذي أقامه أسياس أفورقي. ليست إثيوبيا سوى جزء من عالم يتغيّر. يتغيّر سريعا، خصوصا على ضفتي البحر الأحمر في منطقة القرن الأفريقي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق