كتابات راي

خطاب حمدوك… التفاؤل العظيم في اللحظات الحرجة

يمر السودان اليوم بمفترق طرق مصيري، فهذه المرحلة التي عكست انسداداً سياسياً واضحاً وصفه رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك في خطابه يوم الجمعة 15 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بأنه يمثل أزمة تهديد وجودي للسودان. وأمام توصيف خطير كهذا من رأس الجهاز التنفيذي للدولة، يتضح تماماً أن ما كنا نحذّر منه تحالف “قوى الحرية والتغيير” في مقالات عدة بهذه الصحيفة، وننعي فيها عجزها عن رؤية المصير السياسي الذي يُساق إليه السودان نتيجة لعدم نضجها السياسي الذي جسدته خلافات تافهة بين أحزابها على قسمة السلطة عبر محاصصات مميتة على المناصب، خلال أدائها السياسوي الهش في العامين الماضيين، ما حدا برئيس الوزراء حمدوك لتسجيل اختراق قوي نبّه به تلك القوى إلى خطورة الوضع الذي باتت عليه، وذكّرها بالدور المنوط بها حين أطلق مبادرته التي حملت عنوان “الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام”، فكانت تلك البادرة منه مواجهة ذكية اضطرت معها “قوى الحرية والتغيير” إلى التسريع في إعادة ترتيب أوضاعها وهيكليتها بعقد لقاء الإعلان السياسي في 9 سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي تمّت بموجبه هيكلة مجلسها المركزي وأضافت إليها أجساماً سياسية جديدة داعمة للثورة.

الأحداث الأخيرة
لكن تداعيات الانقلاب في 21 سبتمبر الماضي، وقطع المكون العسكري في مجلس السيادة تعاونه مع “قوى الحرية والتغيير”، ثم عمليات الإغلاق لموانئ شرق السودان وطريقه القومي، ووصف الفريق عبد الفتاح البرهان لذلك الإغلاق الفوضوي لموانئ البلاد من طرف ما يُسمّى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا بأنه “عمل سياسي”، يبدو أنه يدلّ على أن المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي يضمر شيئا بالمرحلة الانتقالية (حتى ولو جاء ذلك بقبوله لأسوأ سيناريوهات فتنة حرب أهلية محتملة نتيجة لإغلاق الشرق) حفاظاً على تمسكه بالسلطة، وتأكد ذلك من خلال الإيعاز لأجسام سياسية بعقد مؤتمر في قاعة الصداقة ضم حركة مني مناوي (حاكم إقليم دارفور) والدكتور جبريل إبراهيم (وزير المالية الحالي) وأحزاب سياسية صغيرة أخرى، مدعيةً بأنها تمثل أيضاً قوى “إعلان الحرية والتغيير” بدعوى العودة إلى منصة التأسيس تحت اسم “تيار الميثاق الوطني”، فيما ضمّت بينها مجموعات ورموز من فلول نظام البشير والمتحالفين معه، الأمر الذي دلّ تماماً على أن المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي عازم على التحالف مع تلك القوى السياسية للسيطرة المطلقة على مصير المرحلة الانتقالية، وليس أدلّ على ذلك أن تلك الكتل السياسية التي ادعت أنها من “قوى الحرية والتغيير” وأسمت نفسها بتيار “الميثاق الوطني”، دعت إلى تظاهرات كبرى يوم السبت 16 أكتوبر الحالي، وكان واضحاً من هتافاتها “جيش واحد شعب واحد”، أنها تمارس عملية إسناد سياسي للمكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، لا سيما من خلال دعوتها إلى اعتصام أمام القصر الجمهوري من أجل إسقاط حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك.
ما يكمن في خلفية إرادة خلط الأوراق من قبل المكون العسكري في المجلس الانتقالي خلال هذه الأزمة المصيرية الخطيرة، يبدو أنه إدراك ذلك المكون أن الشبهات القوية بتورّط محتمل لبعض أعضائه، أمر لا مفر من مواجهته حال صدور تقرير لجنة التحقيق في أحداث فض اعتصام القيادة العامة، وسط أنباء عن مجيء خبراء أميركيين إلى السودان لمساعدة اللجنة في بعض الجوانب الفنية، وكذلك إدراكه لقرب موعد تسليم الرئاسة إلى المدنيين في ذلك المجلس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وإزاء موقف كهذا، يميل مراقبون إلى تأكيد الاتهامات التي ظلت تلاحق المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي بالاستمرار في محاولات يائسة ومكشوفة ظل يمارسها خلال العامين الماضيين عبر عمليات شد الأطراف (أي بإحداث فتن وحروب أهلية بين المكونات والقبائل في شرق السودان وغربه، وإطلاق عصابات النيقرز الإجرامية التي كانت تتبع لجهاز أمن البشير في شوارع الخرطوم لترويع المواطنين) بهدف استثارة حنق الشعب على الأداء السياسي لـ”قوى الحرية والتغيير” (مع أن حفظ الأمن هي مهمة المكون العسكري) والمطالبة بالخلاص منها عبر دعوة العسكر إلى استلام السلطة، لكن ما لم يفهمه ذلك المكون أبداً، هو أن الشعب السوداني اليوم بات مصرّاً إصراراً مطلقاً – على الرغم من الظروف المعيشية الضاغطة – على استكمال مرحلة الانتقال الديمقراطي والقطع مع نظام الاستبداد الإسلاموي لنظام الإخوان المسلمين الانقلابي الذي أذاق الشعب مرارات فظيعة سممت حياته على مدى 30 عاماً.
وبدا تصريح المستشار الصحافي لرئيس مجلس السيادة الانتقالي، العميد الطاهر أبو هاجة غريبا، بما يكشف عن نوايا الفريق عبد الفتاح البرهان، حين قال في ما نقلت عنه بعض المواقع الإخبارية “إن لم نصدر القرار الصعب اليوم، فسيكون عصياً غداً القرار الأصعب”. ويتبيّن بوضوح أن هذا المستشار يلمح إلى انقلاب واضح ويرسل إشارات ورسائل إلى كثيرين بقرب مجازفة كهذه، التي وإن حدثت – لا سمح الله – ستقود البلاد إلى الهاوية.

خطاب وسط الاحتقان

ووسط هذه الاحتقان الخطير والمنذر باشتداد الأزمة، كان خطاب حمدوك الجمعة 15 أكتوبر، خطاباً تاريخياً بامتياز، أزال فيه كل التكهنات التي كانت تروّجها عنه دعايات سوداء سخيفة تابعة لفلول نظام البشير على مواقع التواصل الاجتماعي، من قبيل أنه سيرضخ لضغط المكون العسكري وسيحل الحكومة، وأنه أصبح أداة طيّعة لذلك المكون، فجاء خطابه المسؤول والتزامه الأخلاقي والوطني بقيم ومبادئ ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) بالحرية والعدالة والسلام ليزيل اللبس عن موقفه الذي كان أكثر من واضح وبلهجة قاطعة جازمة، إذ قال “لست محايداً أو وسيطاً، موقفي بوضوح وصرامة هو الانحياز الكامل للانتقال المدني الديمقراطي ولإكمال مهمات ثورة ديسمبر المجيدة وتحقيق شعاراتها المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة”.

ذلك أن خطاب حمدوك، وإن كانت النقاط التي طرحها ليست قرارات إجماعية، لكنها كانت رسالة للإيعاز للشعب بالخروج إلى الشوارع عبر مليونيات كبرى الخميس المقبل 21 أكتوبر لتعزيز موقفه الصارم، ولتكون تلك التظاهرات بمثابة انحياز واضح وقوي من الشعب السوداني للانتقال الديمقراطي وتفويض شعبي جديد لرئيس الوزراء لاستكمال مهمة تحقيق أهداف ثورة 19 ديسمبر 2018 بتأمين الحرية والسلام والعدالة؛ فموقف الملايين من أبناء الشعب السوداني (بعد أن أدركوا موقف حمدوك الواضح والجازم والنهائي بالانحياز لأهداف الثورة ومواصلة الطريق في المشروع الديمقراطي) هو الذي سيسرع تحويل تلك النقاط إلى قرارات إجماعية نافذة، مما سيرغم المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي إلى العودة الاضطرارية لالتزام الوثيقة الدستورية بغية استكمال المرحلة الانتقالية بنجاح، لا سيما بعد أن أبان حمدوك مدى خطورة اللحظة السياسية الراهنة كأخطر لحظة تاريخية على المصير الوجودي للسودان.
لقد كشف رئيس الوزراء في خطابه أيضاً، وبوضوح، عن التزامه الشخصي الإشراف على تنفيذ تلك النقاط العشر التي عددها في خطابه، لكنه كان ذكياً أيضاً في إبراز روح التفاؤل للشعب السوداني. لأن المحفز الأساس لتفاؤله ذاك تمثّل في رفضه المطلق للاستبداد، وإيمانه الراسخ بالديمقراطية، وتفعيل مبادرته كمنصة موحدة للعمل النابع من إدراكه العميق للحظة التاريخية التي يعيشها السودان اليوم أمام المجتمع الدولي، نتيجة للإلهام العظيم الذي أحدثته الثورة السلمية السودانية وتأثيرها العالمي (وهو التأثير الذي جعل المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة تأخذ موقفاً واضحاً بدعم الانتقال الديمقراطي في السودان دعماً مطلقاً، كما أكد ذلك البيان الصادر عن السفارة الأميركية في الخرطوم). ذلك إلى جانب إدراك حمدوك للحظة التاريخية للاقتصاد السوداني الذي شهد انتعاشاً وثباتاً في الميزان التجاري وسعر الصرف (على الرغم من الأضرار الاقتصادية التي تسبب بها الإغلاق الفوضوي لميناء السودان الرئيس والطريق القومي على مدى أكثر من شهر). كما بشّر حمدوك شعب شرق السودان بأن اتصالاته الدولية أثمرت لترتيب مؤتمر يوفر التمويل اللازم لحزمة مشاريع تخاطب أبعاد التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي عانى منه الإقليم، داعياً كل القوى السياسية في شرق السودان إلى “مائدة مستديرة نتوصل فيها إلى ترتيبات عملية للتوافق حول القضايا التي أثارت الأزمة الحالية، كما أدعو أهلنا في الشرق إلى فتح الميناء والطرق واللجوء للحوار المباشر، حتى لا يتضرر أمن البلاد وقوتها وسيادتها، ولا تزيد معاناة شعبنا الصابر الكريم”.

ضربة معلم

لقد كان خطاب رئيس الوزراء بمثابة رمي القفاز إلى الشارع الثوري ليستكمل دعمه له في التظاهرات في الخميس المقبل (الذي يوافق الذكرى الـ57 لانطلاق أول ثورة سودانية في منطقة الشرق الأوسط عام 1964 التي أطاحت النظام العسكري للجنرال عبّود) ولكي تتحول تلك النقاط العشر بقوة إرادة الشعب الى قرارات نافذة بعد 21 أكتوبر.
لا يجد المرء بدّاً إزاء تفاؤل رئيس الوزراء السوداني في هذه اللحظة المصيرية الخطيرة التي تهدد الكيان الوجودي للبلاد، من أن يتمثل بمقولة عظيمة للكاتب الفرنسي الشهير أنطوان دو سانت إكزوبيري، صاحب كتاب “الأمير الصغير”، حين قال “عجبت لمَن كان مسؤولاً كيف له ألا يكون إلا متفائلاً؟!”.

إعادة تأهيل ميناء عقيق

وبمناسبة الإغلاق لموانئ شرق السودان، ربما كان من المهم تذكير حمدوك بالاهتمام بمنطقة حيوية في شرق السودان، ألا وهي منطقة جنوب طوكر التي تعاني أقصى تهميش عرفه أهل تلك المنطقة. ولعل رئيس الوزراء لا يدرك تماماً الأوضاع بالغة السوء التي تعيشها جنوب طوكر منذ حرب عام 1997 بين نظام البشير والمعارضة السودانية، إذ لا تزال هذه المنطقة التي تم تهجير غالبية سكانها بسبب تلك الحرب (تشمل قرى عدة ومدينتين صغيرتين: عقيق وقرورة) تخضع لقانون الطوارئ الذي صدر إثر تلك الحرب، ولا يزال العمل به مستمراً على الرغم من انتهاء الحرب وتوقيع اتفاقية أسمرا عام 2006. كما أن المنطقة تشوبها ألغام من مخلفات تلك الحرب لا تزال تفتك بمن تبقّى من المواطنين الأبرياء. ولم تنفذ حكومات ولاية البحر الأحمر المتعاقبة خلال عهد البشير أي خطة وطنية أو حتى عبر منظمات دولية لنزع تلك الألغام، وحتى اليوم لا تزال حكومة والي البحر الأحمر عبدالله شنقراي تهمل هذا الملف الخطير من دون أن تتخذ خطوات إيجابية لرفع حالة الطوارئ التي صعّبت حياة المواطنين الطبيعية هناك أو أن تشرع في إزالة الألغام، ناهيك عن عمليات إعادة التوطين المستحقة للمواطنين الذين هُجّروا عام 1997 من قراهم بسبب تلك الحرب.

كما أنه من المهم الاهتمام بميناء عقيق الذي كان ميناءً تاريخياً في عصر البطالمة اليونانيين الذين حكموا مصر، وإعادة إحيائه وجعله على رأس أولويات أي خطة تنموية لشرق السودان، فميناء عقيق لو تمت إعادة تأهيله ستفصله عن الخرطوم مسافة 685 كيلومتراً فقط، عبر أقصر طريق من شرق السودان. كما أن ذلك التأهيل لميناء عقيق ومنطقة جنوب طوكر سيكون منصفاً للأهالي الذين يُعتبرون الشق الثاني من قومية البجا في شرق السودان، الناطقين بلغة بجاوية أخرى تختلف عن لغة الهدندوة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق