بعد الهيكلة المرتقبة هل تعيد “قحت” اختبار الهشاشة؟
بعد أيام، سيتم الإعلان عن هيكلة جديدة لتحالف قوى الحرية والتغيير (قحت، التحالف الحاكم في السودان) كتعبير عن مرحلة جديدة، في احتفال كبير وإعلان مجلس مركزي جديد يكون التمثيل فيه من خلال القوى السياسية الموقّعة على إعلان الحرية والتغيير في بداية الثورة، ولكن هذه المرة فقط كأحزاب وحركات وليس ككتل سياسية، كما كان الأمر من قبل. كما سيتضمن الإعلان، فك تجميد حزب الأمة لنشاطه في “قوى الحرية والتغيير” و”الجبهة الثورية” أيضاً.
نتصور أن الإعلان السياسي الجديد في مرحلة حساسة كالمرحلة التي يمر بها النظام السوداني والتحديات الخطيرة التي تواجه سلطة المرحلة الانتقالية، سيكون أمام خيارين اثنين فقط، إما الاستعداد التام والإدراك الواعي من قبل تلك القوى بالتضحيات لمتطلبات المرحلة الخطيرة، وإما ترك السودان برمّته في مهب ريح التفاعلات السائبة المفضية إلى الفوضى والمجهول، في حال استمرار ذلك الأداء الهزيل الذي مارست فيه “قحت” إدارة المرحلة السياسية خلال الأعوام الثلاثة السابقة. لهذا، فإن أخوف ما يكون عليه الخوف الآن، هو أن تستمر الأمور على ما هي عليه إلى أن تخرج عن السيطرة باتجاه الفوضى.
لقد كانت ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2019، ثورةً عظيمة شهد على سلميتها العالم وتضامن معها، حين تم الغدر بثوّارها في مذبحة فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم في 3 يونيو (حزيران) 2019. ولم يخيِّب الشعب السوداني تضامن العالم معه عندما جدد ثورته، فخرجت الحشود بالملايين إلى الشوارع والساحات في الـ 30 من الشهر ذاته، معلنةً إصرارها على سلمية الثورة وإرادة تحقيق أهداف شعاراتها الثلاثة: الحرية والسلام والعدالة.
وكان واضحاً منذ البداية أن ضرورات التوافق في الإعلان السياسي والدستوري الذي تم التوقيع عليه في 17 أغسطس (آب) 2019 بين قوى الحرية والتغيير وما سُمّي آنذاك بالمجلس العسكري الانتقالي، هي ضرورات أملتها الحكمة والمصلحة، لكن ما حدث بعد ذلك في الأداء الهزيل الذي مارست به “قحت”، الإدارة السياسية للمرحلة الانتقالية – على الرغم من تحقيق نجاحات محدودة – بدا مؤشراً خطيراً إلى احتمالات انفجار الوضع في أي منعطف في ظل ذلك الأداء. كما أن المكون العسكري، ونسبةً إلى إشكالات قد تتصل بظلال غامضة حيال تصرفات محتملة في أحداث سابقة، ربما تورط فيها بعض النافذين فيه، ظلت هناك حوادث انفلات أمني ربما تعود إلى تدبيره في ما عُرف بعملية شد الأطراف في شرق السودان وغربه، حيث تواصلت أحداث عنف وقتل وصراعات وفتنة بين مكونات أهلية تهدأ ثم تتجدد، وما زالت الأمور في تردٍّ واضح، حتى في الخرطوم.
المرحلة المقبلة
“قحت” في المرحلة المقبلة التي ستلي إعلان مجلسها المركزي الجديد خلال أيام، وعبر هيكلتها الجديدة والنشاط السياسي الذي سيُستأنف فيها من قبل أطراف وازنة كانت جمدت نشاطها في التحالف مثل حزب الأمة والجبهة الثورية، ربما تكون موعودة بفصل سياسي جديد ومختلف. ونقول “ربما” لأنه من غير الواضح أبداً ما يجعلنا نجازف بيقين مجاني ساذج، بتجديد الثقة أو الإيمان بأداء مختلف لتلك القوى ما لم نرَ أفعالاً حقيقية تلعب دوراً ملموساً يشعر به المواطن في معاشه وأمنه.
ثمة طرفان اليوم في قوى الحرية والتغيير هما، المكون المدني للأحزاب السياسية وأطراف العملية السلمية، أي حركات الكفاح المسلح (الجبهة الثورية) التي أصبحت جزءاً من السلطة الانتقالية بموجب “اتفاق جوبا لسلام السودان” في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، ولكل من الطرفين ما يميزه عن الآخر. وهذا التمييز بين الطرفين يمكن أن يلعب دوراً إيجابياً في تطوير أدائهما للمرحلة الانتقالية، إذا كان هناك اكتراث حقيقي ووعي حساس وحذر منهما بمخاطر أزمة وجودية ومأزق كياني سيواجه السودان ويقذف به إلى المجهول، في حال أي تفريط متجدد في الأداء السياسي المرتقب من الطرفين في إدارة المرحلة المقبلة.
ويمكن القول إن ثمة استعداداً واضحاً لدى أحزاب وحركات الجبهة الثورية للعمل الجاد مع قوى الحرية والتغيير من أجل تخليص السودان مما يحدق به من مخاطر في المرحلة المقبلة، ونعزو ذلك إلى إدراك أطراف العملية السلمية (الجبهة الثورية) تماماً ما تعنيه الحرب من خراب ودماء ودمار، ما سيكون حافزاً كبيراً ودافعاً إيجابياً نحو التزامهم بما تقتضيه تحديات المرحلة عبر عملهم من داخل النظام السياسي للمرحلة الانتقالية.
فرصة أخيرة
لكن ما رشح حتى اليوم من أداء هزيل لـ”قحت” خلال الفترة السابقة من المرحلة الانتقالية في مقابل تحديات مهولة يواجهها المصير الوجودي للسودان اليوم، يجعلنا نقول إن الشعب الذي قام بهذه الثورة العظيمة ما زالت فيه بقية من احتمال لفرصة أخيرة قد يمنحها لقوى الحرية والتغيير في المرحلة المقبلة. لكن هذه الفرصة في حال يقين الشعب بعقم الأداء السياسي لهذه القوى، ستكون الفرصة الأخيرة. وليس عجيباً اليوم ما نراه أمامنا من تحديات خطيرة قد تعصف بالاجتماع السياسي للسودانيين، فهذا مما هو بادٍ للعيان، لكن العجيب الغريب حقاً أن تظل “قحت” حتى اليوم عاجزةً عن رؤية ذلك المصير المحدق والخطير بالكيان السوداني، فيما بعض أحزابها يمارس العملية السياسية بعقلية الناشطين أمام تحديات كارثية تواجه البلاد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. والأكثر عجباً أن تأتي هذه القوى في أعقاب ثورة عظيمة أسقطت نظاماً لا يكفي أي نعت لتوصيف الخراب الخبيث الذي مارسه في السودان على مدى 30 عاماً. ذلك أن تخريب “نظام الإنقاذ” لهوية السودانيين ونظام دولتهم وجهازها العام واجتماعهم السياسي، كان من طينة خراب تجاوز حتى خراب الأنظمة التوتاليتارية، تلك الأنظمة التي تسعى إلى تغيير البشر والأشياء من خلال أيديولوجيا الشر المطلق، بحسب حنة آرندت. فنحن هنا أمام نظام قسّم السودان إلى قسمين نتيجةً للأيديولوجيا الانسدادية الشريرة التي مارسها، وأحدث حرباً أهلية راح ضحيتها 300 ألف مواطن سوداني في دارفور، وخلّف خراباً عظيماً: سودان منقسم إلى دولتين، حروب أهلية، نزعات قبلية ومناطقية شوّشت الهوية الوطنية، انهيار نظم التعليم والاقتصاد والمجتمع، تصفية هيكل الإدارة المدنية والعسكرية في الدولة من كثير من الكفاءات السودانية، وتهجير تلك الكفاءات نتيجة لتطبيق نظام “الصالح العام”، الذي يعتمد إحلال أهل الولاء في الحزب الحاكم محل أهل الكفاءة من السودانيين في تلك المناصب، ومن ثم تدمير بنية المجتمع والدولة تدميراً كاملاً. هذه هي الحال التي صار عليها السودان، اليوم، بعد 30 عاماً من حكم الإسلاميين.
مواجهة الثورة المضادة
أمام خراب خبيث كهذا، سيكون من الجنون والعبث التعامل مع بقايا نظام شمولي خطير كهذا بعقلية الناشطين، أو التهاون مع رموزه المندسة في بنيان الدولة وجهازها العام، أو في التعامل الهش مع مخططاته الخبيثة التي تعمل على قدم وساق عبر نشاط الثورة المضادة. لكن للأسف ما ظل يجري حتى الآن في طريقة إدارة قوى الحرية والتغيير خلال الأعوام الثلاثة الماضية من عمر الثورة كشف عن هشاشة خطيرة في التعامل مع مخططات الثورة المضادة لنظام الإخوان المسلمين. وإذا لم يتم تدارك تلك الطبيعة العبثية الهشة في طريقة تعامل “قحت” مع رموز وبقايا نظام فاشي، فإن السرطان الذي سمم به نظام الإخوان، الحياة العامة في السودان يمكنه أن يقضي بسهولة على هذه القوى التي لم ترتقِ في أدائها السياسي إلى تحدي استحقاقات وشعارات الثورة السودانية العظيمة. وحتى اليوم، نلاحظ في أدائها السياسي الهزيل والأداء الذي ظل يمارسه رئيس الوزراء عبدالله حمدوك عبر تكوين آلية وطنية أسماها “الآلية الوطنية لمبادرة الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام”، ما يشي بانقسام ما وصراع خفي، وهذا أخطر ما يمكن أن يقضي على مصير المرحلة الانتقالية التي لا تزال هشة.
لقد خلَّف نظام الإنقاذ المجرم بقايا ناشطة وفلول خبروا مداخل السياسة والسلطة عبر ممارسات وخبرات استمرت لـ 30 عاماً من التخريب في جهاز الدولة العام، وهم اليوم بما يملكون من أموال وخبرة في جهاز الدولة العام ومن ولاءات خفية كامنة في مفاصل وزارات الحكومة والخدمة المدنية، يعملون بنشاط في مواجهة التجريب السياسوي الهش الذي ظلت تمارسه قوى الحرية والتغيير في مواجهتهم من دون خبرة. ومع ذلك، فإن “قحت” ذاتها، عبر بعض كوادر أحزابها في مركز الخرطوم، ربما لا يمكنها أن تدرك أبداً فيما هي تستمتع بزهو السلطة وفتات غنائمها، أن تلك المخططات الإجرامية للثورة المضادة قد تكون أقرب إليها من حبل الوريد وحين ذلك سيكون قد قضي الأمر.
ثمة عدمية خطيرة في المزاج السياسي للأحزاب السودانية، عدمية يمكنها أن تتهاون مع أكبر المخاطر المصيرية التي تواجهها بطريقة لا يمكن تبريرها أبداً، بأي منطق سياسي أو عقلاني. إنها العدمية التي أسماها فتحي الضوء بـ”الشيء السوداني” وهو شيء يمكن لأي مراقب خارجي أن يرصد طبيعته الخطيرة من خلال ممارسات قوى الحرية والتغيير للأسف. وإن أخطر ما في هذا “الشيء السوداني” الاستعداد لممارسة مجاملات تؤدي إلى كوارث سياسية ومصيرية بالنسبة إلى السودان، ولا يعلم أثرها المدمر إلا الله، من دون أن تجد أي اكتراث من تلك القوى السياسية السودانية!
بانتظار التغيير
هكذا يمكننا القول إن الشعب السوداني اليوم في انتظار تغيير مصيري وضروري في الأداء السياسي لتحالف قوى الحرية والتغيير، خلال الأيام المقبلة التي سيتم فيها الإعلان عن الهيكلة الجديدة والإعلان السياسي الجديد للمجلس المركزي لتلك القوى بأطرافها الفاعلة كافة.
وإذا ظل العجز عن رؤية المصير السياسي باقياً كما هو الآن، في ممارسات “قحت”، فإن النتيجة ستكون كارثية، لأن غياب انتظام موقف واحد لها ضمن معايير مؤسسية لعمل سياسي جماعي يضع سقفاً وطنياً لبرنامج الأحزاب السياسية مجتمعة في مواجهة التهديد الكياني للسودان، سيعني بالضرورة مرحلة الدخول في الفوضى والمجهول لا محالة.
فحين يظن كل حزب في التحالف أن رهانه الوحيد نحو السلطة في المرحلة الانتقالية هو بمثابة الحل الذي ستفضي إليه النتائج السياسية للثورة السودانية. فذلك سيعني قصوراً في النظر وغباء في الممارسة السياسية، والأخطر من ذلك، غياباً لتحمّل المسؤولية الوطنية التي ستبدو شعوراً مجرداً، وغير قابل للتمثّل في برنامج سيادي وطني تتشارك فيه كل الأحزاب من أجل تحقيق مصير آمن لمرحلة الانتقال الديمقراطي في السودان.
إن مؤشرات الأداء السياسي الهش لممارسات الأحزاب السودانية عبر أداء قوى الحرية والتغيير خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إذا ظلت على ما هي عليه الآن، حتى بعد التغيير المرتقب في هيكلتها ومجلسها المركزي، فإن هذا العطب الخطير سيكون العائق الأكبر، ليس في الوصول إلى نهاية انتقال ديمقراطي آمن فحسب، بل كذلك سيكون عائقاً كيانياً في الوصول إلى الإجماع الوطني، الذي يقتضي حدوداً دنيا مانعة من أي انقسام رأسي على هوية الكيان السوداني ذاته. عندئذ علينا أن ننتظر الفوضى والمصير المجهول.
*كاتب صحافي من السودان