الإسلام…ونظرية الاصطفاء العِرقيّ والسُّلالي
مما أبطله الإسلام المحمَّدي من مفاهيم سائدة، ونظريات متلاحقة ومتوارثة أن الله يصطفي للنبوَّة والإمامة والخلافة والرئاسة والوجاهة والزعامة لسُلالة معيَّنة، وجنس مختار، وعرق مطهَّر مجتبى من الناس، فأصَّل أن اصطفاء الله ناتج عن وصفٍ أخلاقي إرادي، وليس نظرية صفوة عرقية.
فبدأ أوَّلا يقصّ علينا كيفية اصطفائه لأبي البشر آدم عليه السلام، حيث أخبر للملائكة أنه يريد أن يجعل للأرض خليفة، وأن هذه الخلافة لن تكون في الملائكة، ولا في الجنّ، وإنما لخلقٍ آخر، فخلق الله آدم من طينٍ حمأة، وعندما سوَّاه ونفخ فيه من روحه، أمر الله الملائكة ومن كان معهم في السماء السجود له، سجود تقدير وتحيَّة.
فاعترض إبليس على هذا الاصطفاء، ورفض السجود لهذا المخلوق الجديد، الذي يرادُ له أن يكون خليفة في الأرض.
يقصُّ القرآن الكريم لنا سؤال الله لإبليس عن سبب امتناعه واعتراضه: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
إذن، فمن الواضح أن إبليس اتبَّع نظرية التفوُّق الجنسي في الزعامة، حيث كان يعتقد أن جنس الجنّ الذي خلقه الله من اللهب والنار أنه أحقّ بالزعامة والتقدير والتشريف.
يستمر القرآن في قصصه حول سيادة هذه النظريَّة في العقل التفكيري: فيقصّ علينا أن الله اصطفا إبراهيم الخليل عليه السلام وجعل النبوَّة في ذريته :{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ولكن هذا الاصطفاء ليس بالعرق بل بالوصف : {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
وعندما جعل الله النبوة والإمامة في ذرية إبراهيم وإسرائيل (وهو النبي يعقوب عليه السلام) سادت هذه النظريَّة من جديد: نظريَّة الزعامة العرقيَّة، واصطفاء جنس معيَّن:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ}.
وعلى قاعدة إبليس: رفض اليهود الاعتراف بنبوّة محمد النبي الأمّيّ العربي بحجَّة أن النبوَّة في القُدْس وليست في مكة، والنبوة في أولاد يعقوب، وليست في إسماعيل وفي العرب:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ – وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا – فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، أي كانوا قبل الرسالة المحمدية يقولون للعرب خاصة الأوس والخزرج: قد أَظلَّ زَمانُ نَبِيٍّ يَخرج بِتصدِيقِ مَا قُلنا فنقتُلُكُم معَه قَتْل عَادٍ وَثَمُودَ وَإِرَمَ.
جاء ردُّ القرآن لهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا}.
ثم يقرر القرآن أن الرسالة الإلهيــــة والنبوة فضل بحتٌ منه يؤتيه من يشاء من عباده، ليس مستحقَّا بعرق وسُلاسة معيَّنة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
إنها رسالة عالمية في الأمّيّين العرب وآخرين أيضا من العجم.
وفي سورة آل عمران يحاجج الله نظرية يهود المدينة تجاه نبوة محمد وخاتميتها: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
وفي مكّة يحاجج القرآن قريشا حول نظرتهم في الزعامة النبوّية: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}، بمعنى: لماذا لم يصطف الله شخصا أو بطنا من قريش في مكة أو من ثقيف في الطائف من ذوي النفوذ والسلطة والجاه المشهود لهم بالزعامة القبليَّة.
يجبيهم الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
وفي العهد المدني: يتفاخر سكان المدينة: فتقول اليهود: نحن من سلالة الأنبياء، ويقول المسلمون: نحن من ختم الله على أيديهم النبوة والرسالة واصطفانا الله ونسخ بنا الرسالات السابقة، فينزل الله آية تصدع بالحق، وتذكّرهم بأن معايير الاصطفاء تعود للأمانة والعلم والعمل المتقن والجدّيّة وليس للجنس والسلالة: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا* وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}.
ثم أنزل الله آية جامعة شاملة للقضاء النهائي على التفوّق العرقي، والزعامة السُّلالي: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، نعم: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وعلى هذا المبدأ سار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعندما بنى دولة الإسلام في المدينة، ودخلت العرب في دين الله أفواجا، وجاء الله بالفتح المبين، تساءل أصحابه من الأنصار: ماذا سيكون مصير عاصمة الدولة، وامتيازاتكم؟!، هل ستكون مكّة عاصمة الإسلام، هل ستنتقل السلطة هناك!، فيوضح لهم الرسول مقصده: ” ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والإبل وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟!، الأنصار شعار، والناس دثار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكتُ وادي الأنصار وشعبهم، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض”.
وبناء على التوجيه النبوي في الجملة الأخيرة، وعندما تمعَّنا في أمر الخلافة الإسلامية التي اختلف المسلمون حولها، لوجدنا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يوص للزعامة من بعده لأحدٍ، بل أشار في مرضه إلى أن يتولى أبوبكر الصّديق شؤون إمامة المسلمين في المسجد، وهذه الإشارة نأخذ منها ما يلي:
1.أن الأنصار كان بينهم تنافس شرس وقتال وحرب، فلم يكن يريد أن تؤول إليهم الخلافة كي لا تتحوّل إلى صراع طويل بين القبيلتين “الأوس والخزرج” اللتين كان بينهما صراع طويل الأمد: “إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض”.
أن قريشا كان أيضا بينهم تنافس خاصة في بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم، وهذه العشائر الثلاث كانت تنافس في زعامة قريش منذ الجاهلية، فلو نصّ لأحد من بيتِ بني هاشم مثلا لنتج عن ذلك تصدُّع جديد في النسيج الإسلامي على الأقل في بدايات انتشار الإسلام، رغم أن هذا التصدع حدث فيما بعد.
إشارته الخفية لأبي بكر كانت فيه حكمة كبيرة، وحنكة سياسية، لكونه من بني تيم، وكانت قبيلة قرشية غير نافذة، وكذلك لعمر أعطاه مكانة كبيرة في حياته ونفوذا لأن قبيلته أيضا كانت غير نافذة.
جسّد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبدأ الشورى حسب ما أوحي إليه في القرآن: {وَشَاوِرهُم في الأمر}، {وأمرهم شورى بينهم}، كي تصبح المسار الأصلح والأنسب لزعامة الناس، وأقرب إلى العدل والمساواة والقسط والمساءلة وتحقيق الاستقرار.
ومع الأسف الشديد هناك من المسلمين من يسيرون على مبدأ الاصطفاء العرقي والسلالي، فيؤمنون أن أولاد فلان طاهرون مطهَّرون، خلقهم الله ليزعَّموا ويقودوا، أما بقيَّة الناس فقد خلقهم ليصبحوا تابعين، بل إن بعضهم يغلوا غلوًّا كبيرا فيدّعي في هذه الشجرة العصمة والعلم اللدنّي ومعرفة الغيب إلخ.