“الكيل بمكيالين”
المقصد الفعلي من عبارة الكيل بمكيالين هو أن يتسامح العالم مع تصريحات رئيس أساقفة اليونان “إيرونيموس” المتهجمة على جوهر و معنى الإسلام والتي تُعادي في مفرداتها أمة يبلغ تعدادها إلى ملياري إنسان (1.8) تقريباً، وأن تمر مرور الكرام دون أن يتخذ العالم الحر إزائها أي استنكار مجاملةً لمشاعر المسلمين أو حتى مطالبة الأسقف بالاعتذار . وفي الوقت ذاته ينزعج العالم من صوت “الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الرافض بكل حرية سياسات التطبيع مع العدو الصهيوني، ويستهجن ويُسارع في طمسه، ويثور غضباً من مطالبة الاتحاد الاستمرار في مقاطعة الكيان الصهيوني اقتصادياً مع أن مطالبة الإتحاد للمقاطعة تستند على مواثيق الأمم المتحدة، و بشكل أكثر تحديداً على المادتين 39 و 41 اللتين تنصان على أحقية الدول والمنظمات أو الهيئات الدولية و الإقليمية على إنزال عقوبات اقتصادية على الدول المعتدية والمارقة من الأعراف الناظمة للعلاقات الدولية بهدف إحراج الدولة أو الدول المستهدفة و الضغط عليها أو عليهن.
الكيل بمكيالين إذاً هو أن يُعامل إحدى الواقعتين المذكورتين أنفاً على أنها الامتثال الحقيقي لمبادئ العصر (أي ممارسة حق حرية القول) و أن ما تفوهت به من تصريحات جارحة، هي من حرية القول، التي هي جزء من المبادي الحقوقية الأساسية للإنسان المتحضِّر . أما الواقعة الأخرى فتُعامل على أنها خروج غير مقبول من مواثيق وأخلاقيات المجتمع العالمي. وإن تصريحاتها فيها إذكاء لمشاعر التعصب واستدعاء لمصطلحات الكراهية “نحن وهم” و محرك علني لمنابع الضغينة .
هذا التباين في ردّات الفعل إزاء المواقف المتماثلة أو المتقاربة، والتي تظهر بين فينة وأخرى و تمس ملايين البشر، يؤكد بأن الشعارات العالمية في مازق حقيقي، و إن المبادئ التي تُقدمُ على أنها مسلمات اصطلح عليها الجميع، تؤكد مرة بعد أخرى على أنها ليست بالضرورة أن يتساوى الجميع أمامها.
فهي وأن أظهرت الشمولية في الطرح، وأن الكلي مُقدمٌ على الجزئي إلا أن فيها جانب من التقسيم و التمييز الذي يستند على أساس الهوية والدين بشكل واضح. وإلا فكيف يستقيم حماية اليهودي تحت أي ظرف من الظروف بقوانين “معاداة السامية “و يُستهدف المسلم جهاراً نهاراً تحت ذريعة ومبررات “الإرهاب الإسلامي” ؟
إن الحقيقة التي تجب رؤيتها هي أن الفروقات والتمايزات المتجذرة في الطبيعة الإنسانية تاريخياً و حضارياً وثقافياً و دينياً لا يمكن لها أن تختفي و تتوارى عن الوجود كأنها لم تكن في يوم من الأيام، بمجرد توقيع على مُعاهدات دولية أو الجلوس في مؤتمرات تسامح أو تعايش، فمناطق التقسيم التي تفرقنا عن الأخر على سبيل المثال أعمق و أبعد من هُدْناتٍ سطحية مؤقتة ، ولذلك فتفسيرنا نحن للقيم العليا أو مصطلحات المجتمع الواحد تنطلق من مسلمات قطعية تختلف عن تفسير الآخر الذي ينطلق من معايير نسبية متغيرة تتماشى مع ميزان القوة بين الأمم وتميل حيثما مالت القوة، فكلما زادت الفروقات و اختلت معادلات القوة والضعف بيننا وبين العالم الأخر، جنحت مفاهيم حرية الرأي و حقوق الإنسان إلى جانب من له القوة، و تكون تلك مباديء بادرة غير معتبرة و لا تنفيد لها.