حتى لا يتحول إقليم “جدو” إلى ورقة انتخابية
يمثل إقليم “جدو” من الأقاليم المهملة تنمويا والبعيدة عن اهتمامات الساسة الصوماليين حتى في عصر الحكومة المركزية، ورغم كونه ثاني أكبر الأقاليم الصومالية ويتمتع بثروات طبيعية إلا أنه يعاني من عدم وجود بنية تحتية ومرافق تعليمية وصحية تتناسب مع حجمه وأهميته، وما زال يعاني من الفقر وسوء الإدارة فضلا عن الفوضى الأمنية التي حالت التواصل الطبيعي بين مدنه الرئيسية.
جوبالاند والحكومة الفدرالية:
لم يستفد هذا الإقليم شيئا يذكر من انضمامه إلى ولاية جوبالاند منذ تشكيلها في عام٢٠١٢، ورغم أن حكومة الرئيس حسن الشيخ محمود حاولت عرقلة بناء تلك الولاية في بداية الأمر وتم توظيف الخلاف القبلي الموجود في الولاية كون رئيس وزراءها في ذلك الوقت كان ينتمي إلى الإقليم إلا أنها فشلت في مسعاها بسبب الدعم العسكري والسياسي الكيني والإثيوبي الذي كان يتمتع به رئيس مليشيات رأس كامبوني السابق والرئيس الحالي لولاية جوبالاند الذي أصبح فيما بعد صديقا مقربا لرئيس حسن الشيخ محمود!.
ومع قبول الحكومة الفدرالية في ذلك الوقت تشكيلة حكومة الولاية رغما عنها إلا أن التدخل الكيني للولاية لم يتوقف واستمر لصالح رجلها الأول والذي أصبح رئيسا للولاية بانتخابات غير شفافة تمت موافقتها كسياسة أمر الواقع، ولكن حكومة كسمايو الجديدة بدل أن تهتم بحل الإشكالات القبلية والظلم الاجتماعي الذي تعانيه الولاية انشغل رئيسها في تثبيت أركان حكمه وشراء الولاءات ونشر الخوف بين القبائل واستبعد من حكومته كل من له مكانة اجتماعية أو علمية، ثم قرَّب أباطرة الحرب وأغدغ عليهم الأموال والمناصب؛ لذلك لم يتمكن من تحرير أراضي الإقليم القابعة تحت سيطرة حركة الشباب بما فيها العاصمة الرسمية للإقليم فضلا عن أن يلتفت إلى الجوانب التنموية الملحة.
وتتكون ولاية جوبلاند من ثلاثة أقاليم “جدو، جوبا الوسطى، جوبا السفلى”، ولكن حكومة أحمد مدوبي لا تسيطر إلا إقليم “جدو” ومدينة “كسمايو” وبعض المدن الحدودية، ومع ذلك مايزال إقليم “جدو” يئن تحت وطأة الفقر والإهمال، رغم أنه كان يمثل مكسبا ماليا للولاية كونه يتمتع بمنافذ تجارية مهمة مع إثيوبيا وكينيا (دولو، بلد حاوا، عيل واق).
لماذا الآن؟
قد يتسائل البعض لماذا أصبح إقليم “جدو” بهذه الأهمية الآن حيث أصبح الجميع يتحدث عنه؟،
وقبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نشير إلى أن التغيرات التي حدثت في بنية الإقليم مؤخرا هي التي جلبت إليه كل تلك الحناجر التي تسبح باسمه، وهي أن الحكومة الفدرالية الحالية رفضت الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها رئيس الولاية أحمدمحمد إسلام متهمة إياه بالتزوير ثم قررت مقاطعته، وفِي تلك الفترة اتخذت إجراءات أحادية تتعلق بإعادة هيكلة إقليم “جدو” وشرعت في تغير المحافظ ورؤساء المدن، ثم أرسلت فرقا من الجيش الوطني وقد رحب بها أغلب أبناء الإقليم لأسباب تتعلق بالصورة القاتمة التي كان يمثلها نظام جوبالاند وممثليه!.
ورغم أن رئيس محمد عبدالله فرماجو لم يقدم للإقليم شيئا يذكر قرابة ثلاث سنوات من حكمه إلا أن بعضا من أبناء الإقليم مازالوا يعتقدون أن ما فعله الآن يعد خطوة إيجابية لا ينبغي التراجع عنها، بينما يرى الآخرون أن هذه الصحوة المتأخرة ما هي إلا ألاعيب إنتخابية، ولكن حتى ولو فرضنا جدلا أنها ألاعيب إنتخابية من المؤكد أن ما فعله الرئيس كان بضغط اجتماعي يصعب إهماله، وإن لم يتمكن تسويقه سياسيا.
وعلينا ألا ننسى أننا في مثل هذه الأمور نتعامل مع عقلية جماهيرية لا تفهم بالحسابات السياسية اذا تم تعبئتها بصورة خاطئة، وكما يقول غوستاف لوبون: “الشعور البسيط بالنفور من شيء … يظل في حجمه الطبيعي لدى الشخص العادي، ولكنه يتحول مباشرة إلى حقد هائج لدى الفرد المنخرط في الجمهور”؛ لذلك فإن تعبئة الجماهير في الوقت الخطأ قد يؤدي إلى تصرفات يصعب التحكم فيها في وقت الحاجة!
مكتسبات المرحلة:
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الظرف العصيب هو هل الإقليم كان بحاجة إلى مثل هذا التطور اللافت؟، قد يكون الجواب بنعم لدى الكثيرين من أبناء الإقليم وبلا تردد، ولكن قد يتساءل البعض الآخر لماذا فشلت الحكومة الفدرالية في توضيح سياستها تجاه هذا الإقليم قبل إعادة العلاقات مع رئيس الولاية وحتى بعد الاعتراف به رئيسا، ومشاركته لقاءات التشاور مع رؤساء الولايات ومع الرئيس؟ ولماذا لم يتمتع الرئيس بالباقة السياسية المطلوبة لشرح وضع الإقليم والإشارة إلى خصوصيته المرحلية في بنود الاتفاق؟، ولماذا نسمع الآن وجود اتفاق سري بين الرئيس ورئيس الولاية يتعلق بالأصوات الانتخابية فقط؟! وكأن السبب الرئيس لكل هذه التحركات كانت لأسباب إنتخابية، وهذا معيب جدا بل قد يكون اتهاما واضحا للرئيس وبمستشاريه بالفشل في إدارة التفاوض مع رؤساء الولايات؛ لأن الذي يجب الالتزام به هو منطوق الاتفاق ولا تنفع في مثل هذه الأمور بأن تتحجج بالتفاهمات الخاصة والكلام الشفهي أو ما يسمى بـ (Gentleman Agreement)!، ثم يأتي البعض ليصدعوا رؤوسنا بإيفاء العهود!، وكأن عالم السياسة يعترف هكذا النوع من العهود والتفاهمات غير المكتوبة!
حوار المرحلة:
ومن المؤكد أن فتح الحوار من نقطة الصفر لإعادة الإقليم إلى ما قبل ٢٠٢٠ غير واقعي، كما أن تنفيذ اتفاقية ١٧سبتمبر تتطلب إلى معالجة سياسية واعية تبتعد عن تأجيج الصراعات القبلية وتحافظ للإقليم بعض هذه المكتسباته الإيجابية. وهذا الأمر يحتاج إلى سياسة حكيمة تأتي من قبل الحكومة الفدرالية المُتهمة حاليا بمحاولة أخذ أصوات أبناء قبيلة الرئيس بصورة غير شرعية، رغم ضعف مرافعة محاميها، ومن المكن أن يكتسب الرئيس تلك الأصوات وغيرها استنادا إلى المكتسبات الواقعية الحالية بعيدا عن اتهام الآخرين بالعمالة؛ لأن ارتباط الإقليم بتوجهات كينيا وتدخلاتها السياسية السافرة لشؤون البلد لم تبدأ بعد ١٧سبتمر، وستظل حتى يتمكن الشعب الصومالي من استعادة عافيته، وإلا سيستمر الوضع في حلقة الاتهامات المفرغة، وستغلب الكثرة الشجاعة إن وجدت.
وعلى الرئيس وحكومته أن يعوا جيدا أن السلم الأهلي وتنفيذ روح الاتفاقية المبرمة أهم من الهروب إلى المجهول، وهذا يتطلب إلى سياسة حكيمة وهادئة تفتح آفاق الحوار وتتفهم دبلوماسية التفاوض المبنية بالأخذ والعطاء بعيدا عن سياسة عض الأصابع، حتى لا يتحول إقليم “جدو” إلى ورقة سياسية مكشوفة، وينتهي الأمر إلى خسارة المكتسبات والكرسي معا.
“إذا كان من الممكن استلام السلطة بالوعود، فإن الحفاظ عليها لا يكون إلا بالنتائج”
علي عزت بيغوفتش.