على الصومال أن يتعلم الاعتماد على نفسه!
على الصومال أن يقوي مؤسساته الديمقراطية قبل أن يحاول توثيق روابطه مع جيرانه، فقد كان دعم الحكومة الراهنة لجهود التكامل الإقليمي مثيراً للجدل حتى الآن لأن الصوماليين العاديين لم يعبّروا عن رأيهم بالموضوع.
في مارس 1977، كان الصومال وإثيوبيا يتجهان إلى خوض الحرب بسبب منطقة «أوغادين» التي يطالب بها الطرفان، ثم سارع الرئيس الكوبي الثوري فيدل كاسترو إلى طرح خطة جريئة أمام القرن الإفريقي لحفظ السلام فاقترح، بدعمٍ من الاتحاد السوفياتي، الجمع بين إثيوبيا والصومال وجنوب اليمن وإقليم عفار وعيسى الفرنسي (جيبوتي اليوم) وتحويلها إلى دولة قوية ماركسية ولينينية تستطيع السيطرة على البحر الأحمر وعلى مدخل قناة السويس الأساسي. ما كان ذلك الدمج ليحلّ الخصومة القديمة بين إثيوبيا والصومال فحسب، بل إنه سيقوّي القدرات الاقتصادية في المنطقة أيضاً، وبنظر الكرملين تعلّق أهم عامل بترسيخ المكاسب الشيوعية الأخيرة وتحويل السوفيات إلى أهم قوة خارجية مُهيمِنة في القرن الإفريقي.
عمد رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد منذ وصوله إلى السلطة في عام 2018 إلى تسريع مشروع التكامل الإقليمي، فعزز علاقاته مع الصومال ومع عدوّة إثيوبيا السابقة إريتريا، حتى أنه وقّع اتفاقاً ثلاثياً مع قادة البلدَين لوضع إطار عمل للتعاون السياسي والاقتصادي والأمني. الأخطر من ذلك هو أن آبي أعلن صراحةً أن التكامل الاقتصادي قد يكون تمهيداً للتكامل السياسي وصولاً في نهاية المطاف إلى إنشاء حكومة موحّدة وجيش واحد في القرن الإفريقي.
من المتوقع أن تؤدي جهود التكامل السياسي التي تحصل على حساب السيادة إلى اندلاع الصراعات قبل أن تفشل في النهاية، لكن حتى جهود التكامل الاقتصادي التي يُفترض أن تفيد جميع الأطراف في زمن السلم والاستقرار قد تترافق مع نتائج عكسية في الظروف الراهنة. نظرياً، يُفترض أن تسمح حرية تنقّل الناس والسلع بين إثيوبيا والصومال بتخفيف التوتر التاريخي بين الطرفين وتقوية الروابط الاقتصادية وتعزيز النمو والازدهار المشترك. لكن عملياً، قد تُعمّق هذه الخطوة الشكوك المتبادلة ومظاهر انعدام الأمان المزمنة كتلك التي أعاقت التطور الديمقراطي في الصومال.
بكل بساطة، لم يصبح الصومال ولا إثيوبيا مستعدين لتعميق التكامل بعد، فقد بدأت إثيوبيا تتجه نحو الفوضى وهي منشغلة بصراعات عرقية داخلية ونزاعات حدودية مع الصومال وإريتريا، أما الصومال، فيبدو من جهته مفككاً سياسياً وهشاً، وقد يستفيد المتطرفون كثيراً من التكامل الإقليمي في الظروف الراهنة، وبما أن قادة الصومال الحاليين تبنّوا أجندة التكامل مع إثيوبيا من دون استشارة المجتمع المدني أو الرأي العام، فقد يؤدي تنفيذ تلك الأجندة إلى تعميق الانقسامات بدل معالجتها. قبل محاولة تعزيز الاعتماد المتبادل مع الدول المجاورة إذاً، يجب أن تُركّز حكومة الصومال أولاً على استهداف حركة «الشباب» المتمردة والمتطرفة لتقوية هياكل الحُكم الضعيفة والمنقسمة محلياً والاستفادة من المكاسب الديمقراطية المُحققة في آخر عشرين سنة.
إهدار فرص التقدم
يشهد الصومال اضطرابات مزمنة منذ 30 سنة تقريباً، حيث بدأت الحرب الأهلية هناك 1991، حين انهار نظام القائد العسكري سياد باري الاستبدادي ومهّد لنشوء صراعات قبلية أنتجت في النهاية مساحات واسعة من الأراضي المباحة. شكّلت تلك الأراضي بيئة حاضنة مثالية للإرهابيين، وقد تدرّب عدد كبير منهم في أفغانستان ودول خارجية أخرى وتأسّست في النهاية حركة «الشباب»، أخطر فرع لتنظيم «القاعدة» في إفريقيا.
بحلول المرحلة التي وصلتُ فيها إلى الرئاسة في سبتمبر 2012، كانت حركة «الشباب» تسيطر على مساحات واسعة من أهم المدن الصومالية، لكن بدعمٍ من الولايات المتحدة، تمكنت حكومتي من تسليح وتدريب قوات الأمن الصومالية لتفعيل مشاركتها في المعركة ضد حركة «الشباب» إلى جانب قوات حفظ السلام التابعة للقرن الإفريقي. أنشأنا معاً كتيبة خاصة على غرار قوات الصاعقة البرية الأميركية، وحملت تلك القوات اسم «دنب» أو «لواء البرق» ولاحقت عناصر حركة «الشباب» وراء خطوط العدو وأحبطت المؤامرات الإرهابية وتخلصت من أهم الإرهابيين في ساحة المعركة.
لكن تلاشت الضغوط العسكرية عن حركة «الشباب» في السنوات الأخيرة، وكثّفت إدارة الرئيس دونالد ترامب ضرباتها الجوية في الصومال ويتمركز اليوم عدد إضافي من القوات العسكرية الأميركية هناك أكثر من أي بلد إفريقي آخر، باستثناء جيبوتي والنيجر. لكن تفيد التقارير بأن ترامب يفكر في الأسابيع الأخيرة من عهده الرئاسي بسحب تلك القوات العسكرية كلها تقريباً. في غضون ذلك، أبطأت حكومة الصومال مع شركائها العسكريين في القرن الإفريقي وتيرة عملياتها ضد حركة «الشباب»، حتى إنها فقدت السيطرة على مناطق استراتيجية مثل وادي «شابيل» وبلدات على طول الحدود مع إثيوبيا. في الوقت نفسه، نفّذت حركة «الشباب» مئات الاعتداءات في الصومال والدول المجاورة. في يناير 2020 مثلاً، هاجمت الحركة مطار «ماندا باي» في البلدة الكينية الساحلية «لامو»، مما أسفر عن مقتل عدد من الجنود الكينيين والأميركيين.
تدير حركة «الشباب» حتى الآن نظاماً حكومياً موازياً في أجزاء من العاصمة مقديشو وفي جنوب الصومال، بما في ذلك مساحات واسعة من الحدود مع كينيا وإثيوبيا، فقبل أن يفكر الصومال إذاً في تعميق علاقاته مع الدول المجاورة له وتوسيع حرية التنقل عبر حدوده، يجب أن يرسّخ سيطرته على تلك الحدود والمناطق الأخرى التي تسيطر عليها حركة «الشباب» راهناً. لتحقيق هذا الهدف، يُفترض أن تستأنف الحكومة الصومالية وشركاؤها في القرن الإفريقي عملياتهم الهجومية ضد الجماعة الإرهابية، ولن يقتصر الهدف على تحرير المناطق الخاضعة لسيطرة الحركة فحسب، بل يجب أن تحتفظ بها الحكومة بشكلٍ دائم كي تكسب تأييد الرأي العام مجدداً.
على صعيد آخر، ثمة حاجة إلى تحسين نظام الحُكم على مستوى الولايات والحكومة الاتحادية قبل إطلاق أي نوع من التكامل الإقليمي. خلال عهدي الرئاسي، أطلق الصومال مساراً معقداً من الفدرلة وقد ارتكزت عليه عملية تشكيل الولايات الإقليمية الأربع. حصل تقدم ملحوظ في البداية نحو بناء الدولة وحل الصراعات القبلية والمناطقية، لكن مع وصول الرئيس محمد عبدالله محمد إلى السلطة في عام 2017، عمدت إدارته بعد وقتٍ قصير إلى حل قيادة الولايات الفدرالية الناشئة وعيّنت حلفاءها بدلاً منها، مما أدى إلى إضعاف مسار الفدرالية ونشوء صراع مع الحكومات الإقليمية.
في ظل غياب علاقة فاعلة وقوية مع الحكومات الإقليمية، كانت الحكومة الاتحادية تتكل في معظم الأوقات على القوات الإثيوبية الناشطة خارج سلسلة القيادة في القرن الإفريقي لتحقيق مصالحها السياسية في الولايات الإقليمية، في ديسمبر 2018 مثلاً، أمرت القوات الإثيوبية باعتقال متحدث سابق باسم حركة «الشباب» كان مرشحاً للنيابة في ولاية جنوب غرب الصومال حديثة العهد. أجّجت حادثة الاعتقال الاحتجاجات في تلك الولاية طوال أيام، ثم ردّت عليها قوات الأمن الاتحادية لاحقاً بحملة قمع عنيفة، فكل ما تفعله هذه التجاوزات هو تعميق شكوك الرأي العام الصومالي وزيادة نفوره من إثيوبيا، مما يُصعّب إقامة أي تعاون مستقبلي صادق.
بالإضافة إلى تحسين نظام الحُكم، على الصومال أن يقوي مؤسساته الديمقراطية قبل أن يحاول توثيق روابطه مع جيرانه، فقد كان دعم الحكومة الراهنة لجهود التكامل الإقليمي مثيراً للجدل حتى الآن لأن الصوماليين العاديين لم يعبّروا عن رأيهم بالموضوع. اعتادت الحكومات السابقة على استشارة البرلمان والولايات الإقليمية حول أهم المسائل الوطنية، لكن أوقفت الحكومة الحالية ذلك التقليد السياسي عبر اتخاذ قرارات أحادية الجانب. لإطلاق مسار الإصلاحات ثم تقوية المؤسسات الديمقراطية المحلية في نهاية المطاف، يجب أن تعود الحكومة الاتحادية إلى ذلك التقليد التشاوري.
مصير متداخل ومستقبل مشترك
لا تنذر مشاكل الصومال في مجالات الأمن والحُكم بتطورات إيجابية على مستوى التكامل الإقليمي، لكن عند إحراز التقدم المطلوب ضد حركة «الشباب» وفي نظام الحُكم وجهود ترسيخ الديمقراطية، قد يتمكن البلد من حصد المنافع نتيجة تعميق الروابط التجارية والاقتصادية مع الدول المجاورة مستقبلاً، كما يستطيع شركاء البلد الدوليون، لا سيما من خارج المنطقة المجاورة، أن يساعدوا الصومال في تحقيق هدفه.
خلال عهدي الرئاسي، لم تكن الولايات المتحدة تدعم حكومة الصومال عسكرياً فحسب، بل ساعدتها في جهود بناء الدولة وعقد المصالحات وإرساء الحُكم الديمقراطي أيضاً، لكن في آخر ثلاث سنوات ونصف، تحوّلت علاقة البلدَين للأسف من شراكة تُركّز على إرساء الديمقراطية وبناء الدولة إلى شراكة تقتصر بشكلٍ شبه حصري على التعاون الأمني. نتيجةً لذلك، تجاهلت الولايات المتحدة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية في مقديشو، بما في ذلك مضايقة شخصيات من المعارضة وإطلاق حرب وحشية ضد الصحافة الحرة في الصومال.
أدت تلك الانتهاكات إلى انهيار العلاقات بين الحكومة الاتحادية وعدد من الولايات الفدرالية، فأُعيق بذلك التعاون الأمني وتمكنت حركة «الشباب» من إعادة تنظيم نفسها أو حتى توسيع نطاقها، فعلى الولايات المتحدة أن تفكر مرتَين قبل سحب قواتها العسكرية من الصومال إذاً، لأن هذه الخطوة ستزيد جرأة الجماعة الإرهابية بكل بساطة، لكن يجب أن تعيد واشنطن إحياء الجوانب غير الأمنية في علاقتها مع الصومال أيضاً لأن الديمقراطية ستزداد ضعفاً من دونها.
في النهاية، يبدو مصير الصوماليين والأميركيين متداخلاً وقد اتّضح ذلك عبر ازدهار الشتات الصومالي في الولايات المتحدة. نتيجةً لذلك، من مصلحة واشنطن أن تدعم استقرار الصومال ومنطقة القرن الإفريقي عموماً على المدى الطويل. لكن لا يمكن تحقيق ذلك الاستقرار من دون أمن وديمقراطية وحُكم القانون: إنها شروط مسبقة لتحويل مشروع التكامل الإقليمي من حلم إلى واقع ملموس.