كتابات راي

وفاق واعد في الصومال

ظلت الصراعات في الصومال ما إن تهدأ حتى يتجدّد أزيز رصاصها. لكن الصوماليين أدركوا أخيراً أن الوفاق السياسي هو المخرج الوحيد من عنق الزجاجة، وبات منطق الحكمة يغلب على طبائعهم الجافّة وعاداتهم الصحراوية. بشائر انفراجة جسَّدها الاتفاق بين الشركاء السياسيين على نظام موحد للإنتخابات، وآلية انتخابية مشتركة، من دون وسطاء دوليين أو إقليميين، في مشهد يعكس نضجاً أولياً لمرحلة جديدة تسودها التفاهمات السياسية بغياب المراقبين والراعي الأجنبي، وذلك بعد قرابة شهرين من التجاذبات السياسية والإختناق المريب الذي كاد أن يطيح منجزات الحكومات الصومالية منذ عام 2012، التي كُللت أخيراً بتقدّم النظام السياسي نحو تداول سلمي للسلطة.

لم يأتِ الاتفاق السياسي في القصر الرئاسي في مقديشو من دون تضحيات، فالرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو كشف، بعد صدور نتائج الاجتماعات في 16 من سبتمبر/ أيلول الجاري، عن خلافاتٍ كادت أن تفشل اجتماعات المؤتمرين، لولا تنازله من أجل وحدة البلاد وتماسكها، بدل افتعال لغة الصدامات والخلافات مع رؤساء الولايات الفيدرالية الذين أصرّوا على تنظيم انتخاباتٍ غير مباشرة، واعتماد نموذج انتخابي فيدرالي، وحل اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، وتشكيل لجنةٍ فيدراليةٍ مشتركةٍ بين حكومة مقديشو والولايات الفيدرالية. واتضح لاحقاً أن الرئيس نأى بنفسه عن خلافاتٍ تؤطر لانقسامات عمودية وأفقية، وتفكك داخلي جديد، ليبرهن لأبناء بلده حرصه على وحدة ما بقي من التراب الصومالي، وعدم الذهاب نحو تمزيق هذا الكيان، وتبديد تطلعات المجتمع الذي خرج مرحباً به بعد انتخابه رئيساً عام 2017.

يقول بعضهم من منتقدي الرئيس فرماجو إنه لا يتمتع بالكاريزما التي تؤهله ليكون رئيساً لبلدٍ يعرف تحدّيات كثيرة، أمنية وسياسية واقتصادية، وإنه أدخل البلاد في دوامة من الخلافات، بخرقه الدستور. لكن آخرين يرون أنه يحمل طغينة للأجنبي، وخصوصاً سفراء البعثات الأجنبية والأممية في بلده، الذين كانوا ينفخون في أذان القيادات الصومالية إملاءاتٍ لا حصر لها، الأمر الذي دفعه إلى مواجهة هؤلاء السفراء في العلن والسر. وقد رفع شكوى إلى الأمم المتحدة ضد مكتب بعثتها في مقديشو لتدخلاتها في الشأن الصومالي، وهي نقطة تلهب حماسة صوماليين كثيرين، سئموا التدخلات الأجنبية، وملّوا من التبعية للرجل الأبيض في بلادهم السمراء مقابل حفنة من المساعدات المالية أو الإنسانية.

يتجه الصومال إلى مرحلة حساسة. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل ينطلق قطار المفاوضات النيابية والرئاسية، ويتحدّد مصير البلاد التي تحاول النهوض من قاع الأزمات، من خلال تجربة انتخاباتٍ أكثر شعبية، والمتوقع أن يصوت لكل مقعد في البرلمان نحو 101 ناخب صومالي من أصل 51 ناخباً، أي ضعف العدد في انتخابات 2016، وهذه تجربة جديدة نحو ما يمكن اعتباره عرساً ديمقراطياً عام 2021. وستكون الانتخابات المقبلة أكثر أهمية من سابقاتها، بالنسبة إلى المهتمين الدوليين بالشأن الصومالي، دول الخليج وتركيا والغرب وأميركا والصين ودول الجوار. والخاسر هذه المرّة في معركة كسب الصومال، بموقعه الفريد والاستراتيجي، لن يحظى بفرصة العودة إلى حضن مقديشو، نظراً إلى تعدّد أجندات الدول المهمتة بالصومال.

الوضع الصومالي مفخّخ حالياً، فالمشهد السياسي لم يستقرّ بعد، نتيجة فترة انتقالات حكم تشهدها البلاد مرة كل أربع سنوات، وهذا ما يجعل استقرار البلاد صعب المنال، نتيجة عدم تفعيل دور الأحزاب التي هُمشت في الإنتخابات المقبلة. وقد عرف الصومال في العقد الأخير رئيسين قدّما إنجازات سياسية وأمنية كثيرة، غير أنه، في نظر بعضهم، كان من الأفضل أن يستمر حكم أحدهما لمواكبة التطوّرات، وتمكين البلاد من إنجازات جديدة، بغضّ النظر عن التهم الجاهزة سلفاً بشأن فساد الأنظمة الصومالية وعدم أهليتها للإستمرارية. والأمن هو التحدّي الأخطر الذي تواجهه حكومات الصومال منذ عقود، بسبب غياب منظومة عسكرية تستطيع تسلم المهام العسكرية من القوات الأفريقية الأجنبية. لكن إضعاف المؤسسة العسكرية استراتيجية أجنبية لإطالة أمد الصراعات والتحدّيات الأمنية في الصومال، شأن المنظمات الإغاثية الأممية العاملة في البلاد، التي تحذّر من شحّ في المياه في زمن الفيضانات، لتبقى أبواب الصومال مفتوحةً بالتدخل الأجنبي الناعم، وفرض سياسات وتداخلات متتالية، وهذا تحدٍّ آخر يواجه الصومال، شعباً وحكومةً.

يحقق الصوماليون نجاحاً جديداً في توظيف مصلحة بلدهم بدل الفرقة والمصالح الذاتية والفئوية، ويتنازلون على الأقل من أجل العيون الصومالية التائهة بين ملاحقة هدير الحرب تارة وخيبات الفشل في تحقيق تطلعات السواد الأعظم من حكامها. وحتماً سيشهد الصومال استقراراً ورخاءً، إذا انتصر العقل والمنطق على المصالح الخاصة، وإذا ما صحّت النيات وصدقت العزائم، وحلت محل الشكوك واليأس من الإصلاح الداخلي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق