كتابات راي

الصحوة الإسلامية فى الصومال بين التنظيم السياسي ، والتمظهر القبلي


لقد قرأت مقالات ثلاثة للباحث الصحفي المسلم الصومالي الأستاذ عبد القادر على ورسمه حول الصحوة الإسلامية فى الصومال ، مسارها ، ومنطلقها ، ومآلاتها ، ورأيت فى المقالات قراءة جادة ، وبحثا عن أسباب التعثر ، وأعجبنى فيها الصدق والموضوعية ، وذكر فيها الكاتب عن حقائق يجب تجليتها للجيل المعاصر الذى يعيش مع نتائج الصحوة ، وليس مع وقائعها ، وربما ، لا يعرف هذا الجيل كيف بدأت الصحوة ؟ وما هي المراحل التى مرت بها ؟ والصعوبات التى واجهتها فى الطريق ، والمشكلات التى وقفت أمامها ، وتجاوزتها بكل إيمان وصدق ، ولكن هناك مشكلات ذات أبعاد إجتماعية وسياسية وحضارية ، ولم تتمكن الصحوة تجاوزها بسهولة ، بل صارت جزءا منها ، ولهذا كان لا بد من كتابة هذه المقالات حتى يبتعد الجيل الحالي تلك السقطات ليبدأها من جديد ، ويحاول أن يصحح الأخطاء بالوعي والعمل المبني على الفهم والعلم .

بدأت الصحوة فى الصومال قبل عقود خمسة ، وواجهت مشكلات بنيوية ، ولكنها لم تكن تفهم تلك المشكلات لسببين بسيطين ، أولهما ، أنها كانت صحوة انفعالية ، بمعنى إنها انطلقت متأثرة بالصحوة الإسلامية العالمية ، ولم تكن منطلقة من الداخل ، أما السبب الثانى فهو قلة المفكرين وعلماء المتخصصين فى العلوم الإنسانية فيها ، وما زالت الصحوة تفتقر إلى هولاء حتى اللحظة ، فقد بدأت الصحوة شبابية ، وعاطفية كما ذكر الباحث الصومالي الأستاذ عبد القادر ورسمه ، ولكن جلّ هؤلاء الشباب بقوا فى إطار المنفعل ، وليس فى إطار الفاعل حتى بعد أن وصلوا إلى مراحل متقدمة فى العمر ، فقد بقي كثير من هولاء يتأثرون سلبا بما يجرى فى عالم الخليج تقدما وتناحرا ، وتراجعا واختلافا ، فكلما ظهر اسم جديد فى الساحة الخليجية ظهر بشكل مباشر فى الصومال بدءا من زمان الدعوة إلى توحيد ( الألوهية ) حتى زمان الدعوة إلى التعايش مع الملوك باسم الصحوة ، مرورا بزمن الدعوة إلى توحيد ( الحاكمية ) .
واجهت الصحوة مشكلات ثلاثية تعتبر عندى بنيوية ، وهي القبلية الاجتماعية ، والتخلف السياسي والفكري ، وغياب السيادة والاستقلال ، ولكن رموز الصحوة لا يعرفون خطورة هذه الآفات الثلاثة فى بلادهم ، فهم يظنون بأن القبيلة ممكن تعاملها بسهولة ، ولهذا رفع السلفيون دعوة ( يا قوم ) مرة ، ورفض الإخوان هذه الشعار ، لأنه يتناقض مع عالمية الإسلام ، فقد انتهى زمن ( يا قوم ) ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام ، وجاء الشعار الجديد باسم ( يا أيها الناس ) ، ولكن بعد عقد من ذلك الزمن جاء الأستاذ عبد الرحمن باديو من كندا حاملا للإخوان فى الصومال شعارا جديدا ( التعامل مع الواقع ) ، وهذا يعنى التفاهم مع القبلية ، ومن هنا رأينا النتائج الكارثية لهذا التعامل البريء والبسيط مع الواقع المعقد ( القبلية الاجتماعية) ، كما أن أغلب رجالات الصحوة لم يتعاملوا بشكل منهجي مع التخلف السياسي والفكري ، ولهذا لم يكن من برنامج التربية الفكرية الكتب السياسية والإستراتيجية ، ومن هنا رأينا فى داخل الصحوة ( نمطين ) من البشر ، العلماء المتخصصون فى الدين من شريعة وعقيدة وغيرهما ، وتقنيين متخصصين فى المجالات العلمية البحتة كالطب والهندسة وغيرهما ، ويقل فيها ، بل ويندر فيها رجالات الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع ، وتم ملاحظة غياب الرؤية البعيدة والاستراتيجية للوطن ، ولم يطرح أحد حتى الآن ، هل نحن فى بلادنا نتمتع بالاستقلالية الكاملة ؟ هن نحن دولة محمية ؟ أم نحن دولة تحت الوصاية؟ هل نملك قرارنا الاستراتيجي فى بناء دولتنا ؟
هذه الأسئلة لم تكن فى بال أحد ، فضلا عن فهمها وهضم مفرداتها ، ولهذا عاشت الصحوة الإسلامية فى الصومال مرحلة ما قبل سقوط الدولة ( جنينية) ، ولكنها ولدت ما بعد سقوط الدولة ( مشوهة ) ، فهي تحمل شعارات جميلة وبراقة ، ولكنها لا تفهم مدلولاتها الفكرية والسياسية ، وتحمل مشاريع فقهية ، ولكنها لا تعيش اللحظة التى تعمل فيها ، فهي تفتح جبهات ضد الموتى ، وأخرى ضد أعداء محتملين ، وثالثة ضد الذات ، ومن هنا تشتت الجهود ، وتعثرت المسارات ، وتاه كثير من الشباب عن الجادة ، فمنهم من ألحد بعد ذلك وخرج عن دين الله ، وارتد ، ومنهم من تطرّف وانتمى إلى مشاريع الهدم والخراب ، وتمسّك بمشروع بناء الدولة العالمية باسم الإسلام ، ولكن على أرض الصومال حيث لا دولة فيها ، ولا نظام سياسي فيها ، ولا حتى أبجديات العيش الكريم .
نجحت الصحوة فى الصومال فى محاربة ( التدين الشكلي ) ، ولكنها صنعت بديلا جديدا عن التدين الشكلي ، فحاربت الصوفية بمقاماتها ومراكزها ، ولكنها أوجدت سلفية وإخوانية بمقامات ومراكز جديدة ، فكان الصوفي القديم يعالج الناس بمال ، والداعية الجديد من الصحوة يعالج الناس بمال ، ما الفرق بينهما ؟ فكان الصوفي القديم يخرج الجن من الناس ، ولديه مراكز علاجية ، وطرق بدائية فى إقناع الناس البسطاء ، والداعية من الصحوة لديه مراكز لعلاج الناس ، ولديه طرق بدائية فى اقناع الناس ، ومنهم من يرشّ بالمياه على الناس ، فهم يستخدمون مياها كثيرة ، ولكن القدماء كانوا يستخدمون مياها أقلّ ، فلا فرق بينهما إلا قليلا .
نجحت الصحوة فى الصومال فى محاربة علماء الفقه ( المذهب الشافعي ) ، ولكنها صنعت فقها جديدا باسم اتباع النصوص ( المذهب الظاهري ) من جانب ، والمذهب ( الحنبلي ) من جانب آخر ، حيث ادّعى البعض أن آراء ابن باز الحنبلية رحمه الله أقرب إلى الصواب من آراء النووي الشافعية رحمه الله ، وحارب البعض القبلية الصومالية ، ولكنه صنع للصوماليين فكرا طائفيا جديدا ، كما لاحظنا فى الصحوة وجود ( القبلية ) الدعوية ، ولم تستطع الصحوة الخروج من مأزق القبيلة حتى اللحظة .

فى هذه اللحظة تعيش الصحوة مأزق التنظيم السياسي ، والسبب هو أن الإنسان الصومالي لم يتدرب على فكرة التنظيم والتخطيط ، فهو إنسان عفوي من الدرجة الأولى ، والحركات الدينية الجديدة لم تستوعب دروس الطرق الصوفية فى صناعة التنظيم قديما ، فقد حاربوا الفكرة ورجالاتها وتنظيمها ، وتلك ميزة المتخلفين ، ولهذا نجد اليوم نمطين من الناس فى داخل الصحوة من جديد ، النمط الأول يكمن فى تهافت رجالات الصحوة على السياسة بدون تنظيم وتخطيط ، فيذهبون إلى المعارك السياسية فرادى ، فيذوبون فى مشاريع الآخرين ، بل ويموتون فيها بدون رجعة ، والنمط الآخر يتمثل فى علماء الصحوة حيث ينجحون بشكل غير عادي فى ( شخصنة الصحوة ) ، ومحاربة ( المؤسسية ) ، فكل شيخ فى الصحوة لديه مؤسسات خاصة به ، ولديه مسجد جامع ، ومراكز ، وليس هناك مؤسسات أكبر من الشخصيات ، ومن هنا نعرف خطورة الموقف ، فقد حارب رجال الصحوة شيوخ العلم التقليدي ، ولكنهم مع مرور الزمن صاروا علماء تقليديين ، فالفرق بينهم هو نوعية الخطاب ، ولكن الأسلوب واحد ، الشخصنة هي سيد الموقف .
لقد فشل الإسلاميون من حيث نجحوا قديما ، ونجحوا من حيث فشل العلماء قديما ، وهذا يعنى أن الزمن لدينا قد توقّف ، فلا جديد تم طرحه حتى الآن ، فقط ، الوجوه هي التى تغيرت ، والأسماء هي التى تشكّلت ، والشعارات هي التى تنوّعت ، أما المضمون فقد بقي كما كان ، ما زالت القبلية تتحكم فى كل شيئ ، فالعقل الصومالي سواء كان الإنسان منتميا أو غير منتم ، فهو قبلي إلى حد ما ، وما زال قبليا مهما كان الشعار المرفوع ، والغريب أن القبلي الإسلامي ، والقبلي العلماني يجتمعان تحت مظلة القبيلة فى محاربة إسلامي آخر ، أو مواجهة علماني آخر .
إن الإسلامي يبحث فى جماعته قريبا له ليمنحه عملا ، أو مؤسسة خيرية ملكها باسم الدعوة ، أو مؤسسة تعليمية جاءت إليه من خلال اشتراكات أبناء الدعوة ، فهو يعمل بجد لأجل أن يجمع فى مظلته من يستطيع من أبناء قبيلته ، فهذا النوع من العمل هو الذى جعل الناس يسألون ، فيم يختصمون ؟ يتشابهون ويتقاتلون ، إنهم فى طينة جديدة ، طينة تبحث عن الحل من بعد جيل ما بعد الصحوة ، جيل اليقظة .


* إن هذا المقال كتبته صباح اليوم حين قرأت المقالات التى كتبها الباحث الصومالي الأستاذ عبد القادر على ورسمه ، وهو يعيش معنا هنا فى كندا ، ولديه قلم يسيل لوعة وحرقة وحماسة وفهما وذكاء ، وأرجو من الجيل الصاعد قراءة مقالاته فى صفحته الرسمية الخاصة به .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق