الأحلام ربما تتحقق بعد حين
سمعت مؤخرا مقولة ” الأحلام تتحول إلى القصص التي نحكيها أو الندم الذي نخبأه”
قبل يومين وصلني خبر موافقة طلبي للحصول على الجنسية الاسترالية وذلك بعد خمسة سنوات قضيتها في بلاد الكنغر والكوالا. تبقى فقط الحصول على موعد حفلة أداء قسم الولاء واستلام شهادة الجنسية. بعدها سأصبح مثل أي مواطن في هذه البلاد لدي الحق في التصويت والانتخاب والترشح للمناصب العامة.
حتى بدون امتياز المشاركة في الانتخابات الوضع كمقيم دائم في هذه البلاد أمر لا يستهان به. أن يكون لديك حق الإقامة الدائمة والحصول على العلاج والتعليم والمساواة في الفرص وحقوق العمل..إلخ
ربما يعلم الكثير منكم أنني ترعرعت في المملكة وعشت فيها مدة 26 عاماً من عمري. من الصعب أن لا أقارن بين الحالتين كيف كنت مقيماً أجدد الإقامة كل سنة، كيف أنني كنت تحت الكفالة وصعوبة التنقل بين الوظائف إلخ من التحديات التي واجهتنا واعتدنا على إيجاد الطرق لتجاوزها والتعايش معها. أما في هذه البلاد فمنذ اليوم الأول وجدت كل الحقوق متوفرة والفرص متاحة ولله الحمد واليوم يرحبون بي كمواطن بعد خمسة سنوات فقط !
في الصورة المرفقة على اليمين كانت آخر صورة لي في مطار الملك فهد في الدمام وأنا في طريق المغادرة والخروج النهائي. هذه الصورة أخذها صديقي العزيز – رحمه الله – بسام المعيش. كان رحمه الله أصر على توصيلي للمطار وقبلها تناول وجبة عشاء آخيرة، وفي المطار بقي معي حتى آخر لحظة قبل المغادرة. كان آخر من ودعته من أصدقائي وفي العام الماضي وصلني خبر وفاته بفيروس الكورونا.
يومها لم أستطع أن أكمل عملي وطلبت الذهاب للمنزل، أبحث في ذاكرتي عن كل اللحظات الرائعة التي قضيناها كطلاب وموظفين في جامعة البترول. تركت ورائي أصدقاء رائعين من أيام الجامعة أو حتى من أيام الثانوي في حي مطار الملك خالد الدولي في الرياض. أشتاق للكثير من الأصدقاء وأعتذر لهم عن قلة تواصلي معهم بعد هذه الغربة، أتمنى من الله أن نلتقي مجدداً بكل خير وعافية.
أما أهلي في هرجيسا فقد ودعتهم قبل خمسة سنوات ولم أعتد أن أبتعد كل هذه السنوات، افتقدت لكل اللحظات الهامة في حياتهم فرحة التخرج من الجامعة، زواج إخواني وأخواتي، أطفالهم والعيال اللي كبرت. أفتقد أبي وأمي وجدتي، لو حسبت سنوات عمري سيتضح جلياً أنني قضيت أكثر عمري في غربة بعيداً عن أهلي. اليوم عدت إلى دفاتري القديمة ووجدت فيها بضعة أبيات من الشعر كتبتها عام 2008م اقتداء بقصيدة المتنبي (على قدر أهل العزم) وهي أصدق حالاً في هذه اللحظة:
أبيت على الآلام تعصر مهجتي ***** وقلبي عن الآمال ليس بنائمتؤرقني يا قوم معاناة غربتي ***** وبعدي عن أهلي أهل المكارملله درها من أيام قد انقضت ***** جميلة تبدو كأضغاثِ حالم تمضى الليالي وفي القلب حرقةٌ ***** ولهفة على عهدنا المتقادم ألعب وألهو مع إخوتي أحبتي ***** لقياهمُ أعظم من كل المغانمِوذاك أبي الحبيب وتلك أمي ***** مغروسٌ حبهما بدمي ولحمي وهناك تاج رأسي جدتي ***** حبها أعظم من كنوز العالمِوأرضٍ طيبةٍ كطيب العنبر ***** ينبض لها قلبي نبض المتيم لله درها من أرضٍ وما حوت ***** بعيني أجمل من كل العواصمِ
لا أكاد أصبر عن العودة ورؤية الأهل والأقارب والأصحاب في هرجيسا وحتى في السعودية. العودة للعمرة والطواف حول بيت الله الحرام والصلاة في الروضة بجانب المصطفى صلى الله عليه وسلم. للذهاب لمطاعم الرياض، المثلوثة في الرومانسية، والشاورما التي أكاد أنسى طعمها.
للخروج مع الأصدقاء على كورنيش الخبر وشرب القهوة في مجمع الراشد والمشي في الحرم الجامعي في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. سمعت بأنه لدينا الآن طالبات وموظفات! لقد تغيرت الدنيا فعلاً فإنني أذكر أنهم بداية الألفيه قد بنو جداراً بين الحرم الجامعي وأرامكو حتى لا تطلع الأعين لما وراء الحاجز!
لست ناقماً على المملكة ولن أحتفل بالإساءة لها، فقد تربيت فيها كل تلك السنوات واحمل في قلبي من الذكريات والصداقات ما الله به عليم. فقط أود أن أوصل رسالة بأن الأمور بالإمكان أن تتحسن وأنه بالإمكان الترحيب وإعطاء الفرص لمن ترعرع وولد في أراضي الخليج.
القوة البشرية عامل هام في نهضة الأمم ولن تجدوا من هو أفضل ممن ترعرع بين جنبيكم وتشرب من عاداتكم. إن لم تكن الجنسية، فعلى الأقل حق الإقامة الدائمة والعمل الحر حتى يتمكن الناس من الاستقرار والتخطيط لمستقبلهم بأريحية. الرزق على الله ولن يأخذ أحدهم رزقك الذي كتبه الله لك وتذكروا بأن العدل هو أساس الحضارة والتطور.
أنا الآن على وشك أن أصبح مواطنا استرالياً رسمياً ولا أحد هنا يشعر بالتهديد بأنني سآخذ رزقه أو عمله أو منصبه. بالعكس كل ما أجده هو الترحيب والتهنئة على المواطنة و يعتبرونني أنني قد ساهمت في المجتمع حتى قبل أن أصبح مواطناً. ليس كل شئ هنا مفروشاً بالورود وهناك الكثير من التحديات في مختلف المجالات. لكن ما يخفف من وطأتها هو العدالة في الفرص والعدل في النظام بين الجميع.
القدوم لهذه البلاد لم تكن رحلةً مفروشة بالورود وحتى البدايات كانت مليئة بالعقبات. حينما قدمت طلب القدوم لهذه البلاد كانت لدي عدة أحلام، اليوم أحقق إحداها بالحصول على الجنسية الاسترالية وبإذن الله مستقبلاً بعد انتهاء أزمة الكورونا مقدرة السفر حول العالم. كان لدي أحلام أخرى فشلت في تحقيقها وربما هي الندم الذي نخبأه وأما ما تحقق منها فهي القصة التي ترونها اليوم.
الصورة التي على اليسار هي صورتي بالأمس وأشعر كما قلت للكثيرين بأنني أعيش حياتي الثالثة في هذه البلاد. عشت حياتي الأولى في هرجيسا حتى هجرتها بسبب الحرب (كنت أتحدث الصومالية)، حياتي الثانية في السعودية (كنت أتحدث العربية) والآن حياتي الجديدة هنا (أتحدث بالانجليزية).
قلتها سابقاً بأنني لا أريد أن أنسى من كنت ولا من أين أتيت ؟ لا أريد أن أنسى أرضي ولا أهلي! أريد أن أنجح في هذا العالم الجديد ولكن مع التوازن والافتخار بعالمي القديم.
حياتي تنقلٌ من غربة إلى أخرى، ربما سأضل ذلك الغائب عن الأعياد والمفقود في المناسبات. ربما سأبقى مجرد ذكرى وقصة يتذكرها الأحباب والأصدقاء. سيقولون عواله كان إنساناً طيباً، كان مبتسماً وملهماً. لقد كان مثل الورد يترك الرائحة الطيبة ويرسم البسمة والفرحة في قلوب الناس وإن كان قلبه يعتصرُ ألماً.
ربما أبقى مجرد طيف جميل في الذاكرة، وربما تتلاشى هذه الذاكرة بعد سنوات كأي شيء آخر يتلاشى في هذه الحياة ما لم أترك آثراً من بعدي.
لا أعلم أين أذهب بهذا المقال الذي أكتبه اليوم، لكنني أردت فقط أن أعبر عن بعض المشاعر التي تعتريني. عن الفرحة والإمتنان، عن الحزن والفقد، عن الغربة والاشتياق!
لم أكتب بالعربية كذلك منذ زمنٍ بعيد وربما أردت أن أكتب لكل المتابعين المتحدثين باللغة العربية والذين ربما افتقدوا كتاباتي القديمة والمطولات المختفية منذ زمن.
الإنسان مخلوق للسعي ويجد معنى للحياة حينما يسعى بإتجاه هدف يستحق التحقيق. ربما كان لدينا أحلام في هذه الحياة، إن حققت إحداها استمر بالسعي في تحقيق بقية أحلامك واجعل ليومك متسع من حلمك الغالي عليك. وتذكر الأيام حين تكون حققت الحلم، ستكون أسعد حينها وستكون أقوى.
ودمتم في رعاية الله وحفظه ..الفقير إلى الله / عواله