خطر المليشيات على وجود الدولة الوطنية
لم يعد هناك شكٌ في أن المليشيات الطائفية والمسلحة، المنتشرة في بعض دول المنطقة.
تمثل التهديد الرئيسي للدولة الوطنية في عالمنا العربي، ليس فقط لأنها ترتبط بأطراف خارجية لها أجندة واضحة وأطماع تاريخية، وإنما أيضًا وربما الأخطر، لأنها تقف وراء الأزمات المختلفة التي تعانيها هذه الدول، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو أمنية، وتعمل باستمرار على استنزاف قدراتها وإصابتها بالشلل التام، والذي يجعلها عاجزة عن ممارسة أدوارها أحيانًا.
المتتبع لممارسات هذه المليشيات في أكثر من دولة خلال الأيام الماضية سيلحظ بوضوح كيف صارت تمثل خطرً قائمًا وتهديدًا وجوديًّا للدولة الوطنية، ففي العراق واصلت مليشيات الحشد الشعبي تحديها للحكومة، واستعرضت قوتها في المنطقة الخضراء ردًّا على اعتقال أحد قياداتها بتهمة قتل ناشطين وعمليات فساد والضلوع بهجمات على قاعدة “عين الأسد” الجوية العراقية، التي تستضيف قوات أمريكية ودولية أخرى، وذلك في انتهاك واضح للنظام والدستور العراقيين.
وفي اليمن، تواصل مليشيات الحوثي ممارساتها المزعزِعة للأمن والاستقرار في المنطقة، ليس فقط باستهداف المملكة العربية السعودية، وإنما أيضًا بتهديد خطوط الملاحة والتجارة العالمية في البحر الأحمر بالزوارق المفخَّخة، وذلك في تحدٍّ واضح للمجتمع الدولي وتدمير فرص السلام.
وفي ليبيا، لا تزال المليشيات المسلحة تمثل تحديًا للجيش الليبي، كما تتمسك بالاحتفاظ بأسلحتها ورفض أي محاولات لنزعها، ما يعني أنها ستظل تشكل “قنبلة موقوتة” قابلة للانفجار في البلاد.
وفي لبنان، فإن الأزمة المعقّدة، التي تعيشها البلاد منذ أشهر، لا يمكن فصلها عن ممارسات مليشيا “حزب الله”، التي تسعى إلى السيطرة على مؤسسات الدولة الرسمية، والتحكم في عملية صنع القرار بها، والتي أسهمت في تدمير الاقتصاد اللبناني، وانهيار قيمة الليرة أمام الدولار الأمريكي لتفقد أكثر من 90% من قيمتها.
خطورة هذه المليشيات المسلحة والطائفية لا تقتصر على زعزعة الأمن والاستقرار في هذه الدول، وإنما تمتد إلى تهديد وجود الدولة الوطنية ومحاولة القفز عليها والقيام بدورها، واتخاذ القرارات المصيرية بالنيابة عنها، وهذه حقيقة واقعة تؤكدها ممارساتها، فـ”حزب الله” مثلا يتبنى العديد من المواقف التي تناهض الموقف الرسمي للدولة، بل إنه ورَّطها في صراعات وحروب خارجية، بداية من الدخول في حرب إسرائيل عام 2006، مرورًا بتورط مليشيات الحزب في الحرب السورية منذ عام 2011، والتي أسهمت في تأجيجها بصورة واضحة على مدار السنوات الماضية.
الأمر نفسه تأكد مع مليشيات “الحشد الشعبي” التي تورطت في مهاجمة بعض الأهداف والمصالح الأمريكية في العراق، متجاوزةً في ذلك العديد من الحكومات على مدار السنوات الماضية، في تحدٍّ صارخ للقرار الوطني العراقي، الذي يسعى إلى ترسيخ استقلالية العراق بعيدًا عن ارتباط هذه المليشيات بإيران.
في الوقت ذاته، فإن هذه المليشيات تنحاز إلى القوى والأطراف الخارجية الداعمة لها، ما يفاقم الأزمات، التي تواجه الدولة الوطنية.
ومثالا، فإن إيران توظِّف مليشيات “الحشد الشعبي” و”حزب الله” اللبناني في إدارة الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وكثيرًا ما قامت بتحريضهما على مهاجمة المصالح الأمريكية في العراق، أو الدخول في مناوشات ومواجهات عسكرية مع إسرائيل من حين إلى آخر.
إضافة إلى ما سبق، فإن هذه المليشيات تمثل العقبة الرئيسية أمام تسوية الأزمات والصراعات التي تشهدها المنطقة، لأن قرارها يرتهن بالأطراف التي تدعمها، والتي دائما ما توظفها كورقة ضغط، بل وتحرّضها على عدم التجاوب مع الجهود الأممية والدولية لحل هذه الأزمات، والمثال على ذلك مليشيا الحوثي في اليمن، والتي تواصل تعنُّتها فيما يتعلق بالحل السياسي للأزمة، وعدم الاستجابة مع أي مبادرات في هذا الشأن، وكان آخرها المبادرة التي أعلنتها المملكة العربية السعودية في شهر مارس الماضي لإنهاء الحرب في اليمن، والتوصل إلى حل سياسي، لكن مليشيا الحوثي رفضتها، وذلك في دليل قاطع على أنها تقف وراء إفشال الجهود والمبادرات الرامية لإنهاء الحرب في هذا البلد.
هذا الموقف الحوثي المتعنت لا يمكن فهمه بمعزل عن تأثير إيران، التي تسعى إلى توظيف الأزمة اليمنية كإحدى أوراق التفاوض مع واشنطن في فيينا، والتي تدور حاليًّا حول الاتفاق النووي، فهي تريد إيصال رسالة بأنها تمتلك القدرة على تحريك المياه الراكدة في أزمات المنطقة، وتسعى إلى استثمار ذلك في الحصول على المزيد من التنازلات والمكاسب في ملفها النووي، كما فعلت عام 2015.
إنَّ الخطر الذي تشكله هذه المليشيات على مفهوم الدولة الوطنية يتطلب سرعة التحرك للتصدي لها، وممارسة ضغوط حقيقية على الأطراف والقوى الخارجية، التي تدعمها وتقف وراءها، لأن تجاهل ذلك يُنذرُ، ليس فقط بانهيار الدولة الوطنية في المناطق التي تشهد تناميا لهذه المليشيات المسلحة، وإنما في تصاعد مهددات الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي على حد سواء، والشاهد على ذلك تهديد مليشيا الحوثي من حين لآخر للممرات المائية والملاحية، التي تمثل أهمية كبرى للاقتصاد الدولي، فضلاً عن محاولاتها المستمرة لاستهداف منشآت النفط السعودية، وتهديد أمن الطاقة العالمي.
بات لزامًا على المجتمع الدولي تحمل مسؤوليته في مواجهة هذه المليشيات، التي تُشكّل ممارساتها انتهاكًا للقانون الدولي ومبادئ السيادة الوطنية، وتمثّل تهديدًا للأمن والسلم الإقليمي والدولي.