في أبعاد الوساطة المصرية
لا يمكن الحديث، أو مجرد تخيّل الحديث، عن استقرار المنطقة العربية دون الكلام عن أهمية الدور المصري، ليس فقط باعتبارها الدولة ذات الثقل الاستراتيجي في العديد من ملفات المنطقة ولديها القدرة على التأثير فيها، وإنما هي واحدة من الدول القليلة التي لديها القدرة على تجاوز الصراعات والتحالفات لصالح كامل المنطقة، وخاصة في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المتشعب.
وحين تتجه أغلب دول العالم لتوجيه الشكر والإشادة لنجاح القيادة المصرية في إيقاف الحرب الدائرة بين حركة “حماس” الفلسطينية وإسرائيل بعد أن رفضت حكومة تل أبيب دعوات العالم بإيقاف هجومها على غزة، بل وصل الأمر بها أن هددت بالاجتياح البري لها، فهذه بلا شك شهادة جدارة واعتراف بالدور المصري. وهو ما يؤكد حقيقتين اثنتين مضى عليها أكثر من عقد تقريبا ليثبت الآن للعالم مدى صحتهما. الحقيقة الأولى، أن تلك الإشادات هي رد عملي على من حاول التشكيك في بقاء الدور المصري في المنطقة سواء كانت دولا أو تنظيمات، وعلى رأس هؤلاء الرئيس جو بايدن نفسه، الذي كان خلال فترة ما أطلق عليه “الربيع العربي” نائبا للرئيس باراك أوباما، وطلب من الرئيس المصري الراحل حسني مبارك التنحي عن السلطة داعما لفوضى جماعة “الإخوان المسلمين” التي تنتمي “حماس” إليها، وكان للجماعة دور رئيسي في الفوضى التي عملت مصر بعد ثورة الـ30 من يونيو 2013 والتي طالبت بعزل رئيس الإخوان محمد مرسي.
الحقيقة الثانية، والتي أجدها أكثر أهمية بالنسبة إليّ، هي موقف قيادة دولة الإمارات وإصرارها على دعم مصر والوقوف بجانبها في منع انتشار الفوضى الأمنية التي أعقبت ثورة 30 يونيو، وتصدت لضغط المنظمات وبعض الدول المؤيدة لتنظيم الإخوان المسلمين، لتستعيد مصر مكانتها ودورها الرائد في المنطقة. وقد واجهت الإمارات بسبب ذلك الموقف الشجاع انتقادات كبيرة ولكنها كانت تثق في صحة رؤيتها التي تثبت صوابها للآخرين، وإن كان ذلك بعد حين، لأن مواقفها وقراراتها لا تبنى على أهواء شخصية أو على ردود أفعال، وإنما تتخذ بناء على دراسات ونقاشات مدروسة.
من طبيعة القيادة الإماراتية في التعامل مع الذين ينتقدون سياساتها ومواقفها عدم التسرع والاستعجال في الحكم عليها، خاصة في ما يتعلق بالمنطقة وتفاصيلها، فالحذر يكون أوجب، وعليه فإن موقف الرئيس بايدن من نجاح المبادرة المصرية هو تأكيد على صدق نوايا دولة الإمارات وصحة رؤيتها في أن “مصر القوية” مهمة لاستقرار المنطقة وليس للعرب فقط.
إن صدى ردود الفعل الدولية على نجاح الرئيس عبدالفتاح السيسي في إقناع قادة حركة “حماس” والحكومة الإسرائيلية فرصة لأي مراقب جاد للبحث عن الأسباب والتفسيرات التي تقف وراءها، وقد لا يجد أغلبهم تفسيرا محددا، ولكن الشيء الذي ينبغي ألا يكون غائبا عن الكثيرين ممن يتابعون منطقتنا أن عقلية الحفاظ على الاستقرار، والعقلية المعتدلة في معالجة ملفات المنطقة، والعمل على بناء المجتمعات الإنسانية التي تتجاوز الصراعات والتحالفات الصغيرة لصالح المنطقة كلها، ليست متوفرة لدى منافسي مصر ومنتقدي دولة الإمارات والقلقين من الصعود السعودي.
المجتمع الدولي تأكد له اليوم أن ليس كل الأطراف يمكن أن تكون فاعلة في استقرار المنطقة والعالم، وإلا كان الأجدر بمن يحاول تخريب مصر ويهدد استقرار المملكة العربية السعودية أن يقوم بذلك الدور ويوقف حرب غزة وإسرائيل، الحرب التي أحرجت كل دول العالم. والسبب مغامرات “حماس” غير محسوبة العواقب، فهم يعملون لصالح من يمثلهم في المنطقة وليس لصالح الشعب الفلسطيني.
هناك شواهد كثيرة برزت مؤخرا تؤكد عودة مصر إلى مكانتها الطبيعية في المنطقة وفي أفريقيا، وأن هناك رغبة عالمية لعودة هذا الدور. وقد تكون الوساطة بين “حماس” وإسرائيل أحدثها، ولكن تغير النهج التركي في ليبيا وفي حوض البحر المتوسط ليس بعيدا عن التأثير المصري، كما أن حالة انتعاش السودان وعودته إلى الساحة الدولية واستقرار الوضع فيه من تلك الشواهد، كما بدأت عودة “الروح السياسية” إلى النظام الإقليمي العربي (الجامعة العربية) لأن “قلب العرب” مصر، استعاد نبضه.
*كاتب إماراتي