كتابات راي

حقوق الأفراد في مصر.. وحقوق الشعوب في إثيوبيا

تحاول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إحداث توازن دقيق في اهتمامها بملفي حقوق الأفراد والمعارضة السياسية من جهة، وحقوق الشعوب المهضومة من جهة ثانية، وصدرت خلال الأيام الماضية إشارات وتصريحات وتقارير تفيد بالتركيز على هذين الملفين مع كل من مصر وإثيوبيا وعدم التهاون في أي منهما. 

جرى ربط الانخراط في شراكة استراتيجية عميقة مع كليهما بمدى التقدم المُحرز في الملف الحقوقي، الأمر الذي بدا واضحا في خطاب واشنطن المعلن مع مصر، وأوقفت استكمال مسيرة الوساطة التي بدأها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في أزمة سد النهضة، ورهن الرئيس جو بايدن المساعدات الاقتصادية بحجم التقدم في أزمة تيغراي، وليس أزمة السد التي استجاب ترامب لمناشدة مصر للتدخل فيها. 

يؤدي تركيز واشنطن على ملف حقوق الإنسان في صيغته الفردية والجماعية إلى وضع عقبات كبيرة يمكن أن تصل إلى حد وقوع الإدارة الأميركية في تناقضات بالغة، في ظل التباين الظاهر في المفاهيم على المستوى الغربي الذي يرفع خطاب القيم الإنسانية والأخلاقية، بينما الدول المستهدفة لديها قاموس مختلف وقاسٍ في بعض الأحيان، ويتم ربطه بخصوصية محلية غير مقبولة دوليا في معظم الأحوال. 

يضع الاهتمام الحقوقي إدارة بايدن في مواجهة تحديات صعبة، فحسب مفهومها هناك انتهاكات عديدة بدول كثيرة في أنحاء العالم، ما يتطلب قدرة عالية على المساواة في درجات المحاسبة والعقاب، وتجنب الانتقائية والتشكيك في المصداقية، بمعنى أن التركيز على حقوق الأفراد في مصر يجب ألا يقتصر عليها، حيث توجد العديد من الدول في الشرق والجنوب تفوق ما يحدث بها. 

كما أن وضع حقوق الشعوب الإثيوبية، في مقدمتها حقوق إقليم تيغراي الذي تخوض الحكومة المركزية حربا ضارية ضد سكانه، في بؤرة الضوء من دون الالتفات إلى شعوب كثيرة في دول أخرى داخل أفريقيا وخارجها، يُفقد فكرة العدالة قيمتها الإنسانية، وهي أحد المحاور العامة في الملف الحقوقي الجذاب. 

اختزلت الإدارة الأميركية اتهامها لإثيوبيا في ما يتعرض له شعب تيغراي من تجاوزات كنموذج لأزمة إنسانية حادة، وتغافلت عما تتعرض له شخصيات معارضة من تجاوزات في الدولة نفسها وأفضت إلى الزجّ بعدد ممن يختلفون مع الحكومة المركزية في السجن، ولم تتخذ خطوات حقيقية على الجانبين. 

كشف تقرير أميركي أن مسؤولين إثيوبيين ومقاتلي فصائل مسلحة ينتمون إلى جماعة أمهرا المتحالفة مع رئيس الحكومة آبي أحمد، يقودون حملة ممنهجة للتطهير العرقي في تيغراي. ورسم التقرير الذي حصلت صحيفة نيويورك تايمز على نسخة منه، ونشرته في 27 فبراير الماضي، صورة للمنازل المنهوبة والقرى المهجورة والمصير الذي يواجهه عشرات الآلاف من المقيمين في تيغراي. 

إذا أرادت الإدارة الأميركية الوصول إلى نتائج عملية في المسائل الجماعية عليها أن تنخرط بجدية في عمليات إطفاء الحرائق والحروب والصراعات والنزاعات في كل من سوريا وليبيا والصومال وغيرها، وقد تكون بعثت برسائل اهتمام بالأزمة اليمنية، لكن الطريقة التي تتعامل بها يمكن أن تتولد عنها أزمات أشد وطأة. 

توقفت واشنطن حتى الآن عند حدود الرفض والشجب والإدانة في أزمة تيغراي، وتعي أن القيام بتحركات أكبر من ذلك يعرضها لمشكلات وهي لا تزال تستكشف الموقف العام في أماكن متعددة، لأن الدفاع عن حقوق الشعوب بقدر ما يمثل عملا مهمّا يصطحب معه صداعا سياسيا. 

ما تراه الولايات المتحدة حقا إنسانيا بحكم دورها على الساحة الدولية تراه إثيوبيا دفاعا عن أمنها القومي، وما تعتقد فيه الأولى أنه يتسق مع قيمها الأخلاقية المعولمة تتصرف فيه الثانية على أنه سلاح للحفاظ على وحدتها الإقليمية. 

لا تنفصل حقوق الأفراد عن الشعوب، والعكس صحيح، واختزال القضية في حالات مثل مصر وإثيوبيا والسعودية ينطوي على خلل في التقديرات، ويضفي تسييسا فاضحا عليها، ويؤكد أن هناك حماسا معنويا بلا مضمون مادي يسهم بصورة واقعية في حل أزمات مستفحلة في مناطق كثيرة من العالم ولا تحتمل مزايدات أو شعارات. 

إذا فتحت الإدارة الأميركية هذا النوع من الملفات وجعلته حاكما في توجهاتها سوف تخسر بعض الحلفاء في المنطقة العربية والأفريقية، فالمسطرة التي تقيس بها حقوق الأفراد والشعوب غير متوازنة، وتتجاهل الأوضاع المحلية، ربما تكون هناك أخطاء قاتلة تحتاج لمعالجة حاسمة، لكن من الصعوبة تغييرها لمجرد أن واشنطن لا ترضى عنها، فالمسطرة يجب أن تمتد للكثير من الحالات المماثلة. 

مضت الانتخابات الأميركية وما فرضته من طقوس سياسية وحان أوان العمل بشكل عملي، وهو التوجه الذي تقترب منه واشنطن، لأن البوصلة التي ظهرت في خطاب بايدن ومعاونيه مؤخرا بدت مندفعة نحو الشعارات أكثر من اللازم، وتعيد إنتاج رؤى ظهرت تجلياتها خلال إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ولم تحقق أهدافها. 

يضع تكرار هذا التوجه جهدا إضافيا على إدارة بايدن في وقت تريد إدارته تصويب المسارات الخاطئة وليس الدخول في صدامات جديدة، ولن تتحمّل مراكمة أزمات مع مصر أو إثيوبيا، أو حتى السعودية، فهذه دول لن تعدم المناورة بخيارات بديلة لواشنطن، وهي حلقة قادرة على كبح جماحها في الملف الحقوقي عامة. 

أدانت الكثير من التقارير السجل الإنساني في مصر وإثيوبيا، وردت كل دولة عليها بالطريقة التي رأتها مناسبة، ومن الظلم لواشنطن المساواة بين تجاوزات في حقوق الأفراد وانتهاكات في حقوق الشعوب ورهن مصير وتطوير العلاقات بهما، فلا القاهرة سوف تتخلى عن موقفها، ولا أديس أبابا يمكن أن تغيّر طريقة تعاملها. 

ما يوصف بالتجاوزات والانتهاكات ليس بدعة جديدة ولا يقتصر عليهما فقط، وقد تكون هناك حالات صارخة في البلدين تستوجب التصحيح، لكن ربط التقدم في العلاقات بما يحدث في هذا الفضاء يضع واشنطن أمام إشكالية دقيقة، حيث تريد إعادة التموضع للحفاظ على دورها ونفوذها، وتعمل أيضا على جذب الحلفاء إليها. 

من المتوقع أن يقوم بايدن بتبريد الحرارة الظاهرة في الملف الحقوقي مع مصر وإثيوبيا والعودة إلى صيغة انتقائية متفرقة كأداة ضغط أساسية وليس كوسيلة للحساب والعقاب، فالدفاع عن حقوق الأفراد والحفاظ على حقوق الشعوب قيمة نبيلة في زمن لا يكترث الكثير من حكامه بهذه القيم، إذا تعارضت مع مصالحهم أو مصالح دولهم. 

*كاتب مصري 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق