افريقيا و العالم

انفجارات المراكز العسكرية في إيران: الجهات المتَّهمَة وحدود الرد الإيراني

شهدت إيران خلال شهر يونيو الماضي عدة انفجارات وحرائق طالت مراكز عسكرية (منها انفجار هزّ منطقة بارتشين العسكرية، وانفجار في منشأة نطنز النووية، وأنباء عن عدة انفجارات طالت مناطق عسكرية في شرق العاصمة طهران)، وأخرى صناعية (منها انفجار في مركز لإنتاج الطاقة في الأحواز جنوب غرب إيران، وشركة بتروكيماويات بالقرب من مشهد شمال شرق إيران، وحريقًا شب في مصنع جنوب العاصمة طهران)، ليتم طرح تساؤلات جدّية بشأن طبيعة هذه الأحداث، وتداعياتها، والأسباب التي تقف وراء كل منها.

تتوزع حوادث شهر يونيو الماضي في إيران ضمن عدة محاور مختلفة:

الحرائق التي طالت المراكز الصناعية في مختلف المدن الإيرانية، ويمكن اعتبارها حرائق طبيعية، تشهدها المراكز الصناعية في إيران خلال فترة الصيف، وذلك بسبب ارتفاع درجات الحرارة. وشهدت الأعوام الثلاثة الماضية ارتفاعًا مضطردًا في عدد هذه الحرائق، وذلك بسبب تهالك القطع المستخدمة في تلك المصانع، وعدم القدرة على استبدالها بقطع أحدث بسبب العقوبات؛ مما يجعل هذه الحوادث مرشحة للتزايد، خصوصًا في مجال الصناعات البتروكيماوية وصناعات الطاقة.

شهدت مختلف المدن الإيرانية عدة انفجارات، وحرائق طالت مراكز مدنية، وتجمعات سكنية على رأسها انفجارات في مجمع صحي في العاصمة راح ضحيتها 19 شخصًا. وبينما يمكن كذلك إعادة جزء من هذه الأحداث (التي ينبغي اعتبارها طبيعية وغير ذات معنى أمني) إلى تهالك التقنيات والآليات، فإن ثمّة توجُّهًا في الصحافة الإيرانية المستقلة، وفي شبكات التواصل الاجتماعي الإيرانية نحو اعتبار جزء من هذه الأحداث “انفجارات تغطية” تقوم بها المؤسسات الأمنية الإيرانية، بغية ما يسمى في الأدبيات السياسية في إيران بمحاولة “تطبيع الانفجارات”؛ إذ يعني ذلك أن الحرس الثوري (والمؤسسات الأمنية الأخرى)ـ وبعد أن أثارت عدة انفجارات تساؤلات في الشارع، اتجه نحو افتعال المزيد من الانفجارات للتغطية على الأحداث السابقة، وجعل حالة الانفجارات طبيعية في مثل هذا الوقت من العام. وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه في التحليل يحمل في طياته نظرية المؤامرة، إلا أن التجربة في إيران تدعمه بعدة مؤشرات سابقة.

أما الجانب الأهم من مسيرة الانفجارات فقد طالت مراكز عسكرية بشكل متتابع خلال فترة قصيرة من الزمن؛ إذ بينما هز انفجار قوي في 25 يونيو منطقة بارتشين العسكرية، فإن انفجارًا آخر في 2 يوليو خلف دمارًا في منشأة نطنز النووية، بينما تناولت مصادر خبرية (وسط نفي رسمي) أخبارًا عن انفجارات في 9 يوليو هزت منطقة غرمدره شرق العاصمة (حيث تقع معسكرات تابعة للحرس الثوري).

مَنْ يقف خلف الانفجارات في المواقع السياديّة؟

إذا كانت الانفجارات التي طالت تلك المراكز العسكرية مهمّة في حد ذاتها، فإن الأهم من ذلك هو المعاني التي يمكن أن يكتسبها توالي الانفجارات، وطبيعة المراكز التي تعرضت لها، والجهات التي تقف خلفها:

حاولت السلطات الإيرانية في بادئ الأمر أن تنفي الطابع الأمني لهذه الانفجارات (إذ بينما أعلنت أن حادث بارتشين نجم عن انفجار خزان للغاز السائل، أكدت أن انفجار منشأة نطنز حدث في مخزن مهجور، بعيد عن مواقع المنشأة الرئيسية الحساسة) لكن الضغوط الناجمة عن التقارير التي صدرت عن مراكز دولية، دفعت السلطات باتجاه الاعتراف بأن الحادثة جاءت نتيجة أسباب مفتعلة. وأعلنت تقارير صادرة عن مراكز رصد عالمية، أن الانفجار الذي وقع في منطقة بارتشين، أدى إلى تدمير واسع في أجزاء من موقع بارتشين للصناعات الجوية والصاروخية (التابع لمجمع شهيد همّت الصناعي). ويفترض أنه عمل على إلحاق أضرار كبيرة بأنفاق تستخدم لصناعة الصواريخ. هذا بينما أعلنت مراكز أخرى أن انفجار نطنز استهدف مخزنًا سطحيًا يستخدم لإنتاج وتخزين أجهزة طرد مركزي حديثة، كانت إيران تعمل على إنتاج المئات منها، من أجل رفع قدرتها في تخصيب اليورانيوم إلى 190 ألف وحدة في مقياس فصل النظائر، تطبيقًا لتعليمات أصدرها القائد الأعلى الإيراني في يونيو 2018. كل ذلك، دفع السلطات الإيرانية للتأكيد على الأضرار الناجمة عن هذه الانفجارات وتداعياتها الكبيرة؛ إذ أعلن المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أن الحادث الذي حصل في منشأة نطنز أدّى إلى دمار واسع في أجهزة طرد مركزي مخزنة في المنشأة، ومن المفترض أن يترك أثرًا ملحوظًا في إبطاء البرنامج النووي الإيراني.

سارعت السلطات الإيرانية إلى رفض أن تكون الحوادث التي شهدتها تلك المواقع السيادية نتيجة هجوم استهدفها، لكنّ وطأة التقارير الصادرة عن مراكز دولية، والتي أشارت إلى مثل هذه الاحتمال أدّت إلى اعتراف الجانب الإيراني بها؛ حيث أشار مدير الدفاع الأمني والسايبري إلى احتمال أن يكون انفجار بارتشين نتيجة تغلغل في الأنظمة الحاسوبية، بينما أعلن المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية وجود بعض الشكوك في أنظمة الرّصد والدّفاع أدّت إلى حادث منشأة نطنز. هذا في حين أن مصادر في المجلس الأعلى للأمن القومي أكدّت معرفة المجلس بالأسباب التي تقف خلف حادثتي بارتشين ونطنز، لكنه رفض الإفصاح عنها لأسباب أمنية.

بغض النظر عمّا إذا كان الحادث الثالث الذي قالت مصادر مستقلة إنه استهدف محطات عسكرية غرب العاصمة قد حدث فعلًا أم لا (مع ترجيح احتمال حدوثه إذا تتبعنا طبيعة الأخبار المستقلة والرسمية) فإن طبيعة المراكز التي استهدفتها الانفجارات، تُظهر أنها استهدفت مراكز تلعب دورًا مركزيًا في برنامج إيران الصاروخي، والبرنامج النووي؛ إذ بينما تتكفل نطنز بتطوير البرنامج النووي الإيراني الذي يُعتقد أنه متوجه نحو أهداف غير مدنية، فإن بارتشين (والمنطقة العسكرية الأخرى الواقعة في غرمدره غرب العاصمة طهران) تتكفّلان بتطوير صواريخ باليستية يعتقد أنها تخدم المشروع النووي، من خلال تطوير صواريخ تستطيع حمل رؤوس نووية. وتُبيّن التجربة التاريخية أن الدول التي تعارض البرنامج النووي الإيراني، لا تميز بينه وبين البرنامج الصاروخي. فقد استهدفت هجمات مماثلة في عامي 2009 و2010 البرنامج النووي الإيراني (عبر زرع فيروس في الأنظمة الحاسوبية المتحكمة في أجهزة الطرد المركزي في عدة منشآت إيرانية على رأسها منشأة نطنز)، تبعها هجوم عسكري في عام 2011 استهدف منشأة عسكرية لصنع الصواريخ غرب العاصمة طهران أدى إلى تدمير أجزاء واسعة من البرنامج الإيراني لصنع الصواريخ الباليستية، ومقتل القائد المشرف على هذا البرنامج، بالإضافة إلى هجوم على معسكر في مركز إيران، يتم استخدامه لاختبار وتطوير صواريخ من طراز “شهاب”.

يؤكد المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أن الهجوم على نطنز قد يعمل على تأخير البرنامج النووي الإيراني فترةً وجيزةً، بينما تؤكد مصادر أمريكية أن هذا الهجوم يكفل تأخيرًا لعامين في البرنامج النووي الإيراني؛ وهي الفترة نفسها تمامًا التي توقعت مصادر أمريكية في عام 2011 أن أي هجوم عسكري على منشآت إيران النووية يؤدي إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني بقدرها.

إذا كانت المصادر الرسمية في إيران تؤكد أن حوادث نطنز وبارتشين نتجت عن أعمال عدائية استهدفتهما، وأنها تحاول العثور على الخلل في نظام الرّصد والدفاع الذي اخترقته الهجمات، فإن نفس المصادر لم تعلن بشكل رسمي عن الجهات التي تقف خلف الهجوم على الموقعين. وفي حين أن مجموعة مجهولة أطلقت على نفسها “نمور الوطن” أكّدت مسؤوليتها عن الحادث، فإن غالبية المصادر الدولية تشير إلى احتمال وقوف إسرائيل خلف الحادثين، وذلك في ظل صمت إسرائيلي رسمي، وتلويح من بعض المصادر الإسرائيلية غير الرسمية بمسؤوليتها عن الحادث.

وتفيد متابعة المواقف الصادرة عن مراكز الرصد المطلعة على هذه الأحداث، بأن أرجح السيناريوهات ستكون تلك التي تؤكد وقوف إسرائيل خلف تلك الحوادث، في ظل تأكيد إسرائيل على أن البرنامج النووي الإيراني يشكل مصدر الخطر الأهم لإسرائيل، وفي ظل محاولات إسرائيل السابقة استهداف مراكز على صلة بالبرنامج الصاروخي والبرنامج النووي الإيراني.

ونظريًّا، بإمكان إسرائيل استهداف الموقعين بصواريخ كروز، أو طائرات متخفية تستطيع اختراق نظام الدفاع الصاروخي الإيراني؛ إذ يشكل نظاما “صياد” و”خرداد 3″ العمود الفقري للدفاع الجوي الإيراني، وهما نسختان مطورتان لنظام TOR-M1 الروسي الذي يعود إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وهو نظامٌ غير قادر على مواكبة الأجسام الطائرة الحديثة، إلى جانب أنظمة الدفاع الجوي S300 ونظام “باور” 373 المنتشرين في الغالب في الحدود الجنوبية لإيران. كما أن بإمكان إسرائيل نظريًّا أيضًا استهداف الموقعين عبر الاختراق الأمني؛ حيث لوّحت أجهزة أمن إيرانية إلى احتمال أن يكون انفجار بارتشين ناتجًا عن استهداف أنظمة الحاسوب المتحكمة بالموقع، واحتمال أن يكون انفجار نطنز ناجمًا عن قنبلة تم زرعها في مخزن أجهزة الطرد.

التوقيت والمعاني: أسئلة عن مضمون الهجمات

تدفع أوجه الشبه بين هجمات الشهر الماضي، وهجمات سابقة استهدفت مراكز من نفس النوع بين عامي 2009، و2011 باتجاه ترجيح وقوف إسرائيل خلف هذه الهجمات، خاصة مع وجود الدوافع القوية التي تمتلكها إسرائيل للقيام بمثل هذه العمليات، وهو ما يثير تساؤلات حول توقيت الهجمات، وما تحمله من معانٍ من زاوية النظر الإسرائيلية:

التوقيت

تثير السهولة الظاهرية التي تمّ من خلالها الوصول إلى الأهداف العسكرية الإيرانية، وتنفيذ مثل هذه الهجمات، التساؤل عن أسباب عدم القيام بمثل هذه الهجمات سابقًا. إلّا أن مثل هذا السؤال الذي يربط توقيت الهجمات بالعقبات التقنية، يخفي زوايا أهم من ذلك، منها:

احتمال أن يكون توقيت الهجوم مرتبطٌ بشكل أكبر بالتطور الذي يشهده البرنامج النووي الإيراني حسب الرؤية الإسرائيلية؛ ففي حين تؤكد إيران أن برنامجها لم ينحرف عن مساره المدني السلمي، فإن مصادر إسرائيلية ودولية تُشير إلى توجه البرنامج النووي الإيراني نحو صناعة قنبلة ذرية، واقتراب إيران من ذلك بشكل كبير؛ حيث تؤكد بعض المصادر أن الفاصل الزمني حتى وصول إيران إلى إمكانية صناعة السلاح النووي قد لا يتجاوز بضعة أشهر. ومن المرجح أن تدفع مثل هذه التقديرات إسرائيل نحو توجيه ضربة تعمل على تأخير البرنامج النووي الإيراني.

من خلال رصد المواقف الإسرائيلية، يمكن القول إن تل أبيب حاولت اتّباع السياسة الأمريكية في دفع المجتمع الدولي نحو التصدي لطموحات إيران النووية من خلال حشد الرأي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن خلال تقديم أدلّة ووثائق تثبت محاولة إيران إخفاء أجزاء مهمة من نشاطها النووي؛ مما يدعم فرضية جهود إيران لصنع القنبلة الذرية. إلا أن ما تعتبره إسرائيل تقاعس الوكالة عن كبح طموح إيران النووي (وما يؤدي إليه ذلك من منح إيران مزيدًا من الوقت) دفع تل أبيب باتجاه التصرف بشكل منفرد؛ ما يُشكّل تطورًا لافتًا في استراتيجية إسرائيل حيال الملف النووي الإيراني.

أسئلة المضمون

إضافة لما تحمله الهجمات الإسرائيلية المفترضة من معانٍ، على صعيد التحول من سياسة المؤسسات الدولية إلى سياسة التصرف المنفرد الحازم حيال الملف النووي الإيراني، فإن مثل هذه الهجمات تحمل دلالات أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار:

على الرغم من أن المصادر تؤكد أن مثل هذه الهجمات لا يمكن أن تتم إلا بتنسيق الجانب الإسرائيلي مع الحليف الأمريكي، إلّا أنّ هجومًا إسرائيليًا مباشرًا على أهداف نووية إيرانية، يمثل بحدّ ذاته افتراقًا إسرائيليًّا واضحًا عن سياسة ضبط النفس الأمريكية التي منعت -حتى الآن- واشنطن من القيام بهجمات ضد أهداف داخل الأراضي الإيرانية، رغم عدّة محاولات إيرانية للتحرش بالجانب الأمريكي. وبالطبع لا يجب أن نتمادى في دلالات مثل هذا الافتراق، إلا أنه يبقى تطورًا ملحوظًا على صعيد تعامل البلدين مع الملف الإيراني.

مارست إسرائيل من قبل استراتيجية الهجمات المنفردة على أهداف إيران في سوريا، وتمثل الهجمات على بارتشين ونطنز -إن حدثت- تطورًا لافتًا وجوهريًا في هذه الاستراتيجية، نحو الوخز في الداخل الإيراني. هذا التفسير (ورغم أنّه قد يجد ما يدعمه في أحاديث مسؤولين إسرائيليين أفصحوا عن نيّتهم توسيع الهجوم على أهداف إيرانية تهدّد الأمن الإسرائيلي حتى في الداخل الإيراني) لا يمكن التمادي فيه، إذْ لن تحمل تلك الهجمات مثل هذا المعنى إذا ظلت يتيمة، لكن تكرارها واضطرادها -إن حصل- سيدعم هذا الاتجاه في التحليل.

ماذا سيكون الرد الإيراني؟

في بادئ الأمر، أشارت الصحافة المقربة من مؤسسات الحرس الثوري إلى ردّ إيراني قوي على إسرائيل، لكنّ متابعة المواقف الإيرانية اللاحقة، والتجارب التاريخية السابقة، تشير إلى أن طهران لن تردّ على إسرائيل على الأرجح، حتى في حال ثبت تورط هذا البلد في الهجمات الأخيرة. ومن الأسباب التي ترجح مثل هذا التقدير:

يتمثل السبب الرئيس في ترجيح عدم ردّ طهران على الهجمات الإسرائيلية بافتقار إيران لأية استراتيجية للمواجهة مع إسرائيل؛ إذ تُظهر نظرة عن كثب أن إيران اكتفت عمليًّا -طيلة العقد الماضي- بالشعارات في مواجهة إسرائيل؛ وعلى الرغم من بعض الخطوات العدائية المحدودة التي اتخذتها طهران ضد إسرائيل، إلّا أنها لم ترتق إلى مستوى استراتيجية محدّدة الملامح. ويعود الافتقار إلى استراتيجية في مواجهة إسرائيل في جزء منه إلى أنّ طهران بنَت استراتيجيتها العامة على أساس المواجهة مع الولايات المتحدة، وأنها لا تمتلك استراتيجية إقليمية مستقلة، بل تعتبر البلدان الإقليمية أجزاء صغيرة، على هامش استراتيجيتها للمواجهة مع واشنطن، وأوراقًا في إطار تلك الاستراتيجية. ومن منطلق التركيز على المواجهة مع أمريكا، من المرجح أن تواصل إيران سياسة الصمت إزاء الوخزات الأمنية الإسرائيلية.

تعرف إيران أن أي تصعيد ضد الجانب الإسرائيلي قد يؤدي إلى حشد الرأي العالمي ضدها؛ حتى إذا كان التصعيد على مستوى الخطاب السياسي؛ فقد أثبتت تجارب سابقة أن مثل هذا التصعيد من شأنه أن يحشد رأي البلدان الأوروبية بالكامل ضدها، ويبعد الحليف الروسي عنها ويدفعه باتجاه الدفاع عن إسرائيل؛ ما يترك أثرًا سلبيًا على مخططها لمواجهة الولايات المتحدة بشكل عام، وعلى الصعيد النووي بشكل خاص. واستنادًا إلى هذا القلق، فإن من المرجح ألا تتحرك إيران إزاء الهجمات الإسرائيلية على مواقعها النووية والعسكرية (كما أثبتت التجربة أنها اتخذت مثل هذا الموقف إزاء كل الهجمات الإسرائيلية على مصالحها في سوريا).

هناك محدّدات تقنيّة جمّة تعوق الردّ الإيراني على إسرائيل، وبعيدًا عن الدعاية الإعلامية، فإن إيران غير قادرة على الوصول إلى الأهداف الإسرائيلية بإمكاناتها الذاتية؛ إذْ لا تمتلك طهران طيرانًا حديثًا قادرًا على قطع مسافات طويلة، والتخفي من أنظمة الرادار، كما أثبتت التجارب الميدانية أن الصواريخ متوسطة المدى التي تعتمد عليها إيران في ضرب أهداف خارج حدودها، لا تستطيع بلوغ الأراضي الإسرائيلية، وهو ما يضطرها إلى استخدام أراضي الدول الحاضنة لميليشيات موالية لإيران، مثل سوريا، ولبنان، والعراق؛ وهذا الخيار مستبعدٌ أيضًا بفعل التداعيات التي يمكن أن يجلبها لإيران على صعيد حشد الرأي العالمي ضدّ نفوذها الإقليمي، وعلى صعيد معارضة الدول الحاضنة للميليشيات، فكرة استخدام أراضيها لشن هجمات على إسرائيل.

تدفع الأسباب المذكورة إلى جانب مؤثرات أخرى، باتجاه ترجيح أن تلتزم إيران جانب الصمت إزاء إسرائيل في حال ثبوت تورط إسرائيل في هجمات بارتشين ونطنز. ويمكن، في إطار مثل هذه القناعة، تفسير المحاولات الصادرة عن المراجع الرسمية والصحافة المقربة من الحرس الثوري ضمن إطار رفض الروايات التي تنسب الأحداث إلى إسرائيل (رغم إشارات سابقة في هذا الإطار) مؤكدة أن هذه الأخبار من صنع الماكنة الخبرية المقربة من إسرائيل، والتي تريد أن تمنح الجهاز العسكري الإسرائيلي قوة لا يمتلكها.

السيناريوهات

على افتراض أن تكون الحوادث التي شهدتها مواقع عسكرية ونووية إيرانية نتيجة هجمات قام بها إسرائيل، فإنه يمكن تصور السيناريوهات التالية:

السيناريو الأول: الرد الإيراني المباشر. ويفترض السيناريو هذا أن تقوم إيران برد مباشر على أهداف داخل الأراضي الإسرائيلية من الأراضي الإيرانية، وإن كان ذلك بشكل رمزي تمامًا؛ مثلما فعلت في الهجوم على قاعدة عين الأسد في العراق. وذلك في إطار استراتيجية “العين بالعين” والتي أكّد عليها كل من القائد الأعلى، والحرس الثوري. إلا أن هذا السيناريو يبقى مستبعدًا، ليس فقط بسبب تجربة إيران في الصمت إزاء التصعيد الإسرائيلي على مواقعها في سوريا، (إذ يمكن الفصل بين حالة الهجوم على مصالح إيرانية خارج حدودها، والهجوم على أهداف داخل الأراضي الإيرانية)، وإنما بسبب قصور تقني يمنع إيران من الردّ، وإدراك إيران أن السقوط في فخ التصعيد ضدّ إسرائيل يحمل معه تداعيات تضرّ إيران على الصعيد الدولي.

السيناريو الثاني: الرد الإيراني غير المباشر. وهو السيناريو الذي من شأنه أن يتغلب على العقبات التقنية التي تمنع الردّ المباشر، ويجد له من يدعمه داخل صفوف الحرس الثوري، الذي أكد بعض قادته أن صفوف القوات الإيرانية والميليشيات المتحالفة معها، والمنتشرة على مقربة من الحدود مع إسرائيل (في كل من سوريا ولبنان والعراق) يمكن أن يتم استخدامها في توجيه ضربة لإسرائيل. لكن هذا السيناريو مستبعد أيضًا بسبب ترجيح معارضة الدول الحاضنة لهذه الميليشيات مثل هذه الخطوة، واحتمال أن تتعكر العلاقات الإيرانية معها في حال القيام بالهجوم على إسرائيل من أراضيها دون علمها. وفي إطار نفس السيناريو، يمكن الحديث عن رد إيراني غير مباشر متمثل في ضرب المصالح الإسرائيلية في العالم. وإذا كانت إيران أظهرت رغبة في القيام بذلك (إذ أعلنت السلطات الإسرائيلية عن القضاء على محاولات إيرانية لضرب مصالح دبلوماسية إسرائيلية في أوروبا) فإن  من شأن تداعيات مثل هذا الرد على الصعيد السياسي، وحشد الرأي العالمي ضد إيران إلى جانب عدم توازن الرد الإيراني مع الهجمات الإسرائيلية، أن يصبح هذا الخيار مُستبعدًا إلى حد كبير.

السيناريو الثالث: التزام إيران الصمت. ويفترض هذا السيناريو عدم ردّ إيران على الهجمات لعدة أسباب، وفي إطار هذا السيناريو سوف تعمل إيران على إدارة الإعلام الداخلي للتقليل من حجم الهجمات، والابتعاد عن التركيز على الدور الإسرائيلي، واعتبار تأكيدات المراكز الدولية على احتمال الدور الإسرائيلي من قبيل الحرب النفسية. كما ستسعى إلى اتخاذ مواقف رمزية، تتمثل في دعم فصائل فلسطينية، وتعمل بموازاة ذلك على رأب الصدع في أنظمتها الصاروخية الدفاعية، والتأكيد على استبدال الأنظمة القديمة بأنظمة من طراز جديد. وفي إطار السيناريو نفسه سوف تحاول إيران التركيز على علاقاتها العسكرية مع سوريا، وتصوير الوجود الإيراني (عبر القوات الإيرانية والميليشيات المتحالفة) على أنه تحدّ للوجود الإسرائيلي.

//////////

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق