افريقيا و العالم

صراع المصالح يدفع فرنسا إلى إعادة اكتشاف أهمية جيبوتي

تشكل جيبوتي التي تعد جزيرة استقرار ثمينة في منطقة مضطربة نقطة دعم استراتيجية للفرنسيين الذين ينوون الاحتفاظ بأكبر قاعدة عسكرية لهم في القرن الأفريقي، وذلك بعد إعادة التفاوض على اتفاقيات الدفاع مع هذه الدولة الصغيرة الواقعة في شرق أفريقيا. 

وتراهن فرنسا، التي يستقبل رئيسها إيمانويل ماكرون نظيره الجيبوتي إسماعيل عمر جيله في قصر الإليزيه الجمعة بعدما قام بزيارة إلى جيبوتي في مارس 2019، بالدرجة الأولى على البحث عن شراكات تقوم على تبادل المصالح، مثل شراكات دول القرن الأفريقي مع دول منطقة الخليج، والتي أخذت زخما جديدا في السنوات القليلة الماضية. 

وكان عمر جيله قد صرح لمجلة “جون أفريك” الفرنسية في نوفمبر الماضي قائلا “على باريس أن تدرك أن مصلحة جيبوتي ليست جيواستراتيجية فقط بل جيواقتصادية أيضا”. 

وبعد حصول جيبوتي على الاستقلال في العام 1997 بقيت القوات الفرنسية فيها، لكن البلد الصغير بدأ خلال سنوات قليلة يستضيف قواعد عسكرية أجنبية أكثر من أي دولة أخرى، فقد أدى تزايد أعمال القرصنة والإرهاب في دول القرن الأفريقي إلى جذب جيوش أجنبية أخرى، حيث تحافظ القوات الأميركية والإيطالية والصينية واليابانية على وجود دائم هناك. 

ويدرك المسؤولون الجيبوتيون قيمة موقع بلدهم الاستراتيجي، فهو يقع في قلب أحد أبرز الممرات العالمية، إذ يستحوذ عبر قناة السويس والبحر الأحمر وصولا إلى المحيط الهندي عبر باب المندب على قرابة 10 في المئة من حركة النقل البحري في العالم سنويا، وبالتالي باتوا في كل مرة يحسنون شروط التفاوض مع القوى الكبرى لإنعاش اقتصادهم. 

وترتبط باريس بالمستعمرة الفرنسية السابقة باتفاقات وقعت في 1977 و2011، ولديها أسباب عديدة لرغبتها في الاحتفاظ بمكانتها في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه مليون نسمة، في خضم سباق التدافع على أفريقيا للحفاظ على نفوذها الاقتصادي والعسكري في هذه المنطقة الاستراتيجية. 

ويبدو نشاط القوات الفرنسية في جيبوتي في أوجه في الوقت الحاضر، من تدريبات على القتال في الصحراء لعسكريين فرنسيين وجيبوتيين وأخرى للقوات الجوية على طائرتين من طراز ميراج من القاعدة الجوية وثالثة للقوات الخاصة على الوضع الهجومي. 

وتستعد القاعدة البحرية أيضا لاستقبال حاملة الطائرات شارل ديغول في مارس المقبل في توقف استراتيجي في طريقها إلى المحيط الهندي. وقال قائد القاعدة الجوية الفرنسية المتمركزة في جيبوتي الكولونيل أوليفييه سونييه “نتمتع هنا بحرية تحرك وتدريب لا مثيل لها” لقاء إيجار سنوي يبلغ أربعين مليون دولار والدفاع عن المجال الجوي الجيبوتي. 

ومن هذه القاعدة يمكن للعسكريين الفرنسيين البالغ تعدادهم 1500 جندي استقبال ونشر قوات بسرعة في حال حدوث أزمة في المنطقة، باتجاه المحيط الهندي أو الشرق الأوسط. ويؤكد ستيفان دوبون قائد القوات الفرنسية المتمركزة في جيبوتي أن “أهمية وجودنا تكمن في تقديم تقييم للوضع لسلطاتنا” في بلد محاط بدول مأزومة من اليمن إلى أريتريا والصومال. 

لكن المنافسة قاسية، فخلال السنوات العشرين الماضية عندما كانت العديد من القوات الفرنسية أقل بمقدار النصف، تمكنت قوى عظمى عديدة من التمركز في جيبوتي وأمنت بذلك عائدات كبيرة للسلطات. 

فمنذ العام 2002 تملك الولايات المتحدة قاعدتها الدائمة الوحيدة في أفريقيا التي تضم أربعة آلاف جندي هناك، تنطلق منها عمليات مكافحة الإرهاب ضد حركة الشباب الصومالية وتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية. كما تمركز اليابانيون والإيطاليون بعد ذلك للمساعدة في مكافحة القرصنة في المنطقة. 

أما الصين، التي وصلت في العام 2017، فلديها الآن ميناء وقاعدة عسكرية قادران على تأمين مصالحها الاقتصادية الهائلة في قطاعات النقل والصناعة والطاقة وغيرها في المنطقة. 

وروسيا كذلك ليست بعيدة عن فلك هذا الصراع، ففي ديسمبر الماضي أبرمت اتفاقا مع السودان يسمح لها بإنشاء قاعدة بحرية يمكنها استقبال عدد يمكن أن يصل إلى 300 شخص. 

وتؤكد سونيا لوغوريليك، الحاصلة على دكتوراه في العلوم السياسية ومؤلفة كتاب “جيبوتي: الدبلوماسية العملاقة لدولة صغيرة” أنه “مع المشروع الصيني لطرق الحرير الجديد أصبح الجميع يتنافسون اليوم أكثر من أي وقت مضى من أجل السيطرة على البحر الأحمر”. 

وأشارت إلى أن “أرض الصومال غير معترف بها بعد وإريتريا دولة استبدادية والسودان ليس سوى في طريقه إلى الانفتاح والوضع كارثي في اليمن ولم يتبق سوى جيبوتي”. 

وتلخص لوغوريليك الوضع بين البلدين بالقول إن ما يربط “بين فرنسا وجيبوتي علاقة ود مضطربة”، مشيرة إلى أنه “عندما وصل الصينيون سادت أجواء من الفرح” مع إطلاق أعمال للبنية التحتية الرئيسية مولتها بكين. 

لكن يواجه الجيبوتيون اليوم صعوبة في سداد القروض الممنوحة من الصين التي تملك الجزء الأكبر من ديونهم. وأوضحت لوغوريليك أنه “نتيجة لذلك تبقى فرنسا الشريك الذي كان دائما هنا (جيبوتي)”. 

ترتبط باريس بالمستعمرة الفرنسية السابقة باتفاقات وقعت في 1977 و2011، ولديها أسباب عديدة لرغبتها في الاحتفاظ بمكانتها في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه مليون نسمة 

ومع اقتراب موعد اتفاق الدفاع مع جيبوتي التي تأخذ على باريس باستمرار نقص استثماراتها الاقتصادية بالبلاد، تحرص فرنسا على الإشادة بالفوائد المتبادلة لهذه الشراكة. ويقول دوبون إن “وجودنا العسكري له جانب ردعي يساهم بشكل كبير في الاستقرار والتنمية الاقتصادية في جيبوتي”. 

ويشير قائد القاعدة البحرية للقوات الفرنسية في جيبوتي جان إيف بياسيكي إلى أن الجنود الفرنسيين هم الوحيدون الذين يستقرون هنا مع عائلاتهم ويدعمون المدارس والشركات، خلافا للأميركيين والصينيين. ومع ذلك تبقى مسألة رسم علاقة اقتصادية هي الشاغل الأكبر الآن. وتؤكد باريس أن الوجود الفرنسي يساهم بنسبة 4 في المئة في إجمالي الناتج الداخلي لجيبوتي، وقد شهدت العلاقات تقلبات لكنها تبدو اليوم في وضع جيد. 

ويقول معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إن القرن الأفريقي يتم تعريفه على أنه المنطقة التي تضم إريتريا وجيبوتي والصومال وإثيوبيا، لكن من الناحية العسكرية فإنه يشير إلى فضاء أمني يضم إضافة إلى الدول الأربع كلا من السودان وكينيا وسيشيل وجنوب السودان. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

إغلاق