تناولنا في مقالتنا الاولى الفصل الاول من كتاب (مذكرات قاري) للدكتور الاحمري، وسنتناول اليوم الفصل الثاني ( عين لا ترى الا الكتب) والعنوان نفسه كما ترى طريف يدل على شغف وولع شديد بالكتاب، فالعاشق يرى في كل شيي معشوقته! وتحدث الكاتب في هذا الفصل عن تجاربه مع الكتب وشغفه بها، وتجارب بعض الكتّاب الآخرين، وحكمة الكتب وغاياتها، وتنوعها وفهمها وحملها وشراؤها وما شابه ذلك مما له علاقة بعالم الكتب، وما نعرضه هنا ليس الا مقتطفات ضئيلة لا تسمن ولا تغني من جوع. بادي ذي بدء، يشير الكاتب الى أهمية التخصص كمدخل ضروري لعالم الكتب والقراءة، ولكن بنبغي ان يكون التخصص بمثابة مفتاح لباب العلم، ولا يتحول الى غاية بحد ذاته، ويقول في ذلك: ” القراءة بيت واسع … فمدخل معرفي محدد مهم لكل قاري، ولا اقول تخصصا، بل مدخل معرفي يلج منه الانسان لعالم الكتب او بيت العلم، سواء كان هذا التخصص في اللغة او الفقه او الحديث او التاريخ او ما شابه ذلك، ثم يبني القاري حجرات مجاورة لتخصصه، وكلما اتسعت وتناسقت وتكاملت معارفه، كان قصره ارحب؛ ومريحا لنفسه ولزائريه. ( مذكرات قاري، ص١٣٤).
ويتساءل الكاتب ما ذا ستجد في الكتب؟ ويرى انها كمثل غابة موحشة وتجد فيها لججا من الافكار والاراء المتضاربة والمتناقضة، فيها كتب الهداية وفيها كتب الضلال، فاما ان تطلب السلامة وتنجو بنفسك، واما ان تقتحم فيها فتغرق او تغنم، ويرى ان الاقتحام أفضل
من الجبن وإيثار السلامة ويقول” فهل تهرب من هذه الغابة الموحشة؟ نعم، قد يكون هذا اسلوبا، ولكن هذه غابة راقية جدا، وانت تغادرها نحو غابة سهلة، غابة مجتمعك المتواضع البسيط الذي يرفعك لان امكاناته صغيرة. ( مذكرات قاري، ص١٣٥). اعجبني تعبير غابة راقية مقابل غابة مجتمعك المتواضع، وكم منا قد أنس غابة مجتمعه، وألف ثناءهم واطراءهم، ويقيس علمه ومعرفته على قدر ثنائهم وتعظيمهم له، ويا ويل للعلم من ثناء العامة.
وينتقل الكاتب الى تنوع الكتب واختلافاتها وتعدد مشاربها، فهناك كتب للعقل، وهناك كتب للعاطفة، وهناك كتب للخيال، فاختر منها ما شيت حسب مرادك وأحوالك وعمرك. ثم يتناول مسالة صعوبة فهم الكتب، ويرى ان الكتب على ثلاثة مستويات حسب مؤلفيها ومتلقيها ” فهناك كتاب فوق مستواك وليس لك، واخر لقبيلك ونظيرك، وثالث دونك، فالذي فوقك لا يخلو من فايدة، ولكن معاناته قد تكون اكثر من فائدته، وما كان قبيلا لك مثيرا لفكرك، او ممتعا لعقلك وذوقك، فذاك تفيد منه كثيرا .. اما ماهو دونك فقد يقل اثره في عقلك وعلمك وذوقك، ولا يخلو من فايدة، وفد تكون فائدته في كونه مريحا للعقل والعاطفة” (مذكرات قاري، ص١٤٨-١٤٩). فالنفس مجبولة على ما يريحها، وتنفر من كل ما يكدر عليها راحتها، والافكار العميقة تحتاج الى جهد ومثابرة ومعاناة، ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل. والذي اعتاد على قراءة الكتب السهلة الضحلة ويستلذها، كمن ألف على اكل الحلويات، فانه يجد لذتها في الفم، ولكنها غير مغذية، بل تضر بالصحة والأسنان.
ويعرج الكاتب على موضوع مهم وطريف في الوقت نفسه، اذ يرى ان القاري قد يضطر الى اخفاء بعض الكتب التي يقروها عن الناس، خاصة اذا كان يعيش في مجتمع مغلق، وبيئة غير متسامحة مع المخالف، ونقل عن كتاب (شخصيات غير قلقة في الاسلام للعلوي) ان الامام الطبري كان لديه اتجاه الى مطالعة كتب الغلسفة في السرّ. مذكرات قاري، ص١٥٤). ثم يذكر الكاتب انه مرّ بمثل هذه التجربة في بيئة غير متسامحة، حيث يصبح الكتاب شبهة كبيرة، ويتخيل الناس ان قراءتك لمؤلف او كتب فرقة معينة يجعلك عضوا من هذه الفرقة. ويطلق الكاتب صرخة مدوية للحالة المزرية للثقافة والفكر في مجتمعنا ويكتب: ” فويح المثقف المتسع الأفق، كم سيضم له من فرقة ! وكم سيتهم به من حزب وجماعة وسياسة ودولة ! بل يا لصغر عقل الرقيب الثقافي على العقول والافكار”. (مذكرات قاري، ص١٥٤). وهذه الظروف المؤسفة التي اشار اليها الكاتب موجودة في محتمعاتنا الاسلامية كلها على انصباء متفاوتة قوة وضعفا، وحيث تنعدم الحرية، فلا تنمو ثقافة، ولا ينتج فكر ، ولا يروج كتاب، فالإستبداد عدو الكتاب على مر العصور، وينتج مجتمعا خاضعا ساكنا ذليلا مغلقا، والتفكير الحر يحتاج الى مناخ حر، وبيئة ملائمة، وتربة صالحة، والعبد لا يحسن الا الصرّ والحلب كما قال فارس عبس عنترة.
ومما تناول الكاتب ايضا في هذا الفصل ما يواجه القاري النهم العاشق للكتب من التوفيق بين شهوة قلبه وشهوة بطنه، فعاشق الكتب يقدم تغذية عقله على تغذية بطنه، فاذا رأى كتابا جيدا ينفق عليه ما عنده ويشتريه ثم يبيت طاويا جايعا. وينقل الكاتب قول جبرا ” ان هذا المعشوق (الكتاب ) يحرمك الطعام لبضعة ايّام وليال كل مرة ولكنه يغذيك عقلا وعاطفة طول عمرك”. ونقل ايضا ان من المسلمين من باع بيته ليشترى كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي ! ( مذكرات قاري، ١٦٨).
وينبّه الكاتب القاري على داء المعاصرة وهو الّا ترى نوابغ عصرك ومفكريه الكبار، فالمعاصرة غشاوة على العيون والعقول، ويريد من القاري ان يفتح قلبه وعقله لكل من يأنس فيه العلم والفائدة، ويحذر الانصات الى هولاء الذين يريدون توجيه عقلك وفكرك كما شاءوا، فلا تكن منقادا لأهواء الناس ورغباتهم، ولا تكن ضحية لصغار عقول وجدوا ترويجا لا يستحقونه من حركاتهم وجماعاتهم ” واتق الله في عقلك وقلبك ان علمت منه يقظة ووعيا، فلا تغلق عليه نوافذ من النور، ولا تتبع كل صيحة …..وقد عرفت وجربت كثيرا من هولاء الذين يقصرون المتعلمين على كتب قليلة، ومدارس محدودة، وافكار مبتسرة ان ليس دافعهم كله رعاية للأفكار، وصناعة للمعرفة، بل جزء كبير منه بسبب جهلهم هم للمعارف الاخرى وللثقافات والمذاهب، فيسعون جهدهم لإعادة انتاج انفسهم، ثم تمجيد مشابهيهم، والرفع من شان مقلديهم، لتكريس التقليد والجهل” ( مذكرات قاري،ص١٦٦). وهذا يذكرنا ببدعة الكتاب الاسلامي، وكم حرم على الشباب من علم كثير كان متوفرا لهم بسبب ترويج افكار قاتلة ! وكم من عقل وقّاد انكمش وذبل من اجل التضييق عليه وحصره في كتيبات معدودة ! وكم من قرائح خصبة اصابها الجدب لانها لم تجد الغذاء اللازم، وكم من قلب مشع خبأ نوره وانطفأ فصار ظلاما حالكا لا ينير ولا يستنير.