عن شبح حرب أهلية تتجدّد في الصومال
“معظم النار من مستصغر الشرر”. كأن هذه المقولة تنطبق تماماً على المشهد الصومالي، بعد تلكؤ الحكومة في تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في موعدها (8 فبراير/ شباط الحالي)، والتي تأجلت إلى موعد غير مسمّى، حيث تنتهي المدة الدستورية للرئيس محمد عبد الله فرماجو في هذا الموعد، بينما انقضت مدة المجالس التشريعية في 27 من ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ولا حركة عمل دؤوبة لإجراء الانتخابات، على عكس ما كانت تشهده الصومال، وخصوصاً في الانتخابات السابقة. كذلك فشلت الرئاسة الحالية في إقناع المعارضة، لا سيما المرشحين ورؤساء الولايات الفيدرالية (بونتلاند وغوبالاند) في التوصل إلى اتفاق يحُدّ من التوترات السياسية التي ترجمت أخيراً إلى مواجهات عنيفة في الـ19 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، عندما فرّقت القوات الصومالية حركة احتجاجية في مقديشو بالرصاص الحي، الأمر الذي فسرته المعارضة قمعاً للحريات التي يكفلها الدستور، ووصفت الرئيس بـ”الدكتاتور”.
تتمثل التحديات التي تواجه العملية الانتخابية في غياب توافق سياسي، وعدم سريان اتفاق 17 سبتمبر/ أيلول الماضي الذي طعنه الرئيس الصومالي في خطابه في البرلمان، ونعته بأنه أعدَّه رئيس بونتلاند، ما أثار استغراب المتابعين بشأن المشهد الانتخابي، إلى جانب تعقيدات أخرى، جعلت التوافق السياسي حالياً غير ممكن، وخصوصاً أزمة مقاعد إقليم جدو المتنازع عليها بين رئيس غوبالاند والرئيس فرماجو، حيث يرغب كل طرف في تعيين مؤيدين له لنواب الإقليم، فضلاً عن اتهامات متبادلة بين القيادات الصومالية، بشأن الجهة التي أفشلت الاتفاق، وهو ما جعل البلاد في وضع سياسي خانق، فضلاً عن مخاوف من عودة الاضطرابات الأمنية التي ألِفها الصومال منذ عقود.
بات جدار الثقة بين الشركاء السياسيين مهتزاً ومهترئاً، بسبب توجهات الرئاسة الصومالية، بعد مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي، حيث عبرت أطراف رئيسة في حسم هذا الخلاف بعدم الثقة بالرئيس فرماجو، وعبروا عن فقدانهم الأمل في عقد اجتماعات أخرى، بسبب عدم التزامه بالاتفاقيات، ما يعقد جهود الوصول إلى اتفاق جديد، وخصوصاً بعد رفض كل من رئيس بونتلاند وغوبالاند حضور مؤتمر جديد دعا فرماجو إلى انعقاده في مقديشو. كما أن قنوات التواصل والتوسط بين الحكومة والمعارضة غير موجودة اليوم، فالقيادات العشائرية منقسمة حالياً بين مؤيدين لهذه وأخرى في صف تلك، وهو الانقسام العشائري والسياسي الذي يدفع الصومال نحو قلاقل سياسية، إذا لم تتدخل أطرافٌ دولية للجم الخلافات السياسية. ويتجه الوضع الصومالي إلى دائرة الخطر، نتيجة الاحتقان ولغة التخويف والتهديد والتخوين التي تتبادلها الأطراف الصومالية الفاعلة عبر الإعلام المحلي.
استمرار التوترات السياسية، وكذلك دعوات المعارضة إلى التظاهر مجدّداً، قد يساهمان في حدوث شرخ اجتماعي وسياسي جديدين، وربما يؤديان إلى انقسامات داخل الترويكا الحاكمة، نتيجة التعاطي مع المسائل والظروف الطارئة بشكل خاطئ. ولكن ما يخشاه المراقبون أن تطاول الانقسامات المؤسسة العسكرية الهشة أصلاً، وتضم مليشيات مسلحة عشائرية، نتيجة تذمر عسكريين من هذا الوضع الخطير، وخصوصاً الذين ينتمون إلى القبائل القاطنة في الجنوب، وهو ما يفتح الباب لسيناريو التفكك والانهيار مجدّداً.
المخرج الوحيد الذي ينتظره الصوماليون حالياً هو التدخل الدولي والإقليمي لنزع فتيل الأزمة الراهنة، لأن الصومال لم يستوِ على ساقيه بعد، وما زال مدعوماً من المجتمع الدولي، حيث يمثل وجود 22 ألف جندي أفريقي صمام أمان واستقرار البلاد أمنياً وسياسياً، وذلك بإجبار الرئاسة على بدء الانتخابات البرلمانية والرئاسية والالتزام بالاتفاقيات والقوانين، وهذا هو السيناريو المتوقع حالياً، خصوصاً إذا فشل الرئيس فرماجو في إقناع المعارضة في التهدئة، ورؤساء الولايات الفيدرالية في دخول مفاوضات جديدة، بدل أن ينتظر من بعثة الأمم المتحدة خيار إرغام رئيسي بونتلاند وغوبالاند على المشاركة في مؤتمر تشاوري، تحتضنه مقديشو في الأيام المقبلة، لكن الرئيسين اشترطا للمشاركة في حوار جديد مع الرئيس الصومالي عقد المؤتمر في منطقةٍ تضمن أمنها البعثة الدولية والأفريقية في مقديشو.
يقول المثل الصومالي “للفتنة فوّهة يمكن لجمها، ولكن لا نهاية لها”، وهو سيناريو متوقع إذا فشلت الأطراف الصومالية في إخماد فتيل النزاع السياسي بالحوار والإقناع والتنازل فيما بينهم، فدرجة الاحتقان السياسية التي تعكسها التصريحات المتبادلة بين الأطراف المتصارعة أشبه في بدايات الأزمة الصومالية في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما قد يعيق جهود استقرار البلاد، ويورّث الدولة الصومالية فشلاً آخر، ويجزم حقيقة مصطلح “الصوملة” وصمة عار على جبين الصوماليين.
الدعوات إلى الثورة السلمية ضد النظام الرئاسي في الصومال، والاستعدادات الأمنية المقابلة في فض هذه الاعتصامات بالقوة، مؤشر إلى بداية دوامة فوضى جديدة، فالحكومة تذرّعت بوباء كورونا لحظر التجمعات من أجل تكميم أفواه المعارضة، وقمع المحتجين، بينما المعارضة، وخصوصاً اتحاد المرشحين للانتخابات، رافقت احتجاجاتهم مظاهر مليشيات مسلحة، وهو التبرير الذي استندت إليه الحكومة في مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي، وادّعت أنها كانت مستعدّة لحماية المتظاهرين بسلاح الدولة، لا بسلاح مليشيات خارجة عن القانون، لكن الوضع اختلف حالياً واشتد خطورةً مع دعوات جديدة إلى التظاهر، ما ينذر بمواجهات عنيفة أخرى في مقديشو.
أخيراً، تقع المسؤولية الرئيسة في حفظ استقرار البلاد على عاتق الحكومة، وخصوصاً الرئيس محمد فرماجو، فإذا لم يواجه حالة الاحتقان بهدوء وحكمة، فإن الوضع سيكون كارثياً، وهو ما يفرض تغييراً في قواعد اللعبة السياسية الصومالية بتدخل دولي وإقليمي، لإنقاذ منجزات الأمم المتحدة والاتحادين، الأوروبي والأفريقي، وبعدها سيتأكد المجتمع الدولي أن العقل السياسي الصومالي ما زال مشوهاً جينياً، ويحمل بذرات العقم السياسية، بقدر ما هو مستعد لقبول الإملاءات الخارجية وتطبيق بنودها بحذافيرها شكلاً ومضموناً.