الصومال اليوم

الصومال وثورة بيمال وحركة الدراويش: العلاقة العضوية والروابط التنظيمية

مقدمة

لست هنا في هذا المقال بصدد سرد تاريخ المقاومة البيمالية ضد الاحتلال الإيطالي، بقدر ما أحاول الحديث عن العلاقة والروابط التنظيمية بين المقاومة (الدراويش)التي اندلعت نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في الشمال ونظيرتها في الجنوب وتتبع خيوطها وآثارها. ولقد استرعى انتباهي أثناء قراءتي وتتبعي في تاريخ الصومال الحديثة وما كُتب عن الثورة أو المقاومة الصومالية ضد المستعمر البريطاني أو الإيطالي، خاصة ما كتبه المؤرخون والكُتّاب الصوماليون، الغياب شبهة التام، الحديث عن العلاقة الثنائية بين المقاومة في الشمال ونظيرتها في الجنوب سواء كانت من حيث العلاقة التنظيمية او الروحية، ولذلك بدا لي أن اغترف بقلمي من هذا الكنز التاريخي غرفة قد تساهم في إضفاء بعضا من جوانبها التي خيلت لي انها قد أهملت عن غير قصد، الي كتاباتنا التاريخية. وإذا أمعنا النظر في مجريات الأحداث وسير المعارك، بعد المعاهدة “إليغ” بين السيد محمد عبدالله حسن من جهة وبريطانيا وايطاليا وحلفائهم من جهة أخرى في 1905، نرى تغيرا كبيرا في استراتيجية السيد محمد عبدالله حسن السياسية والعسكرية، أما الجانب السياسي قد أخذ طابعا عالميا، حيث حصلت اتصالات بين السيد و العالم الخارجي، اتصالات بالخلافة العثمانية واعترافها وتعيينها السيد أميرا على الصومال، وألمانيا أرسلت إليه خبير أسلحة، والحبشة قد فتحت قنوات اتصال وحوار مع السيد، خاصة في عهد الملك ليغ اسيو، وكذلك كان هناك اتصال مع العالم الإسلامي بشكل عام، حيث كان مع جيش الدراويش متطوعون عرب ومهندسون من الجزيرة العربية. وأما ما يتعلق بجانب العسكري فقد شهد توسعا في نطاق عمل العسكري، حتى شمل مناطق بعيدة عن مركز الدراويش، مثل اوغادينية وبنادر إلى نواحي كسمايو أقصى جنوب البلاد. ولذلك أحاول في هذا المقال تسليط الضوء على العلاقة بين المقاومة ضد الإستعمار البريطاني في شمال البلاد ونظيرتها في الجنوب وخاصة المقاومة البيمالية.

نبذة عن إقليم شبيلي السفلى وقبيلة بيمال:

بادئ ذي بدء، وقبل أن نبدأ الخوض في الحديث عن المقاومة البيمالية ضد المستعمر الإيطالي وعلاقتها بالسيد محمد عبد الله حسن، لا بد أن نذكّر نبذة تاريخية يسيرة عن منطقة شبيلي السفلي وقبيلة بيمال.

شكّل إقليم شبيلي السفلي وعبر تاريخه القديم والحديث وما زال يشكل أكثر الأقاليم الصومالية استقطابا واجتذابا للقبائل الصومالية القادمة من الشمال أو من الغرب، أو القبائل العربية من الجزيرة العربية، ويتميز الاقليم بتنوعه العرقي والقبلي حيث يشكل فسيفساء من القبائل الصومالية المختلفة. ويقع إقليم شبيلي السفلى في جنوب الصومال ومتاخم للعاصمة مقديشو من الغرب والجنوب، ويطل على المحيط الهندي، ويشقه نهر شبيلي نصفين شرقا وغربا، وحيث منتهاه، مما يجعله أكثر الأقاليم الصومالية خصوبة، ويملك مناطق شاسعة صالحة للرعي، ومدن ساحلية جميلة وقديمة، وكذلك مناطق أثرية. ولذا كان دائما مقصد ووجهة المهاجرين من داخل وخارج الصومال.

وشهد الإقليم صراعات وحروب دائمة، بين القبائل الصومالية الواردة أو النازحة اليه وبين السكان الأصليين من زنوج وغالا، وبين الصوماليين أنفسهم فيما بعد وإلي يومنا الحاضر، على النفوذ و الهيمنة والاستحواذ على خيراته.

تعتبر قبيلة بيمال من القبائل الصومالية الأوائل التي جاءت واستوطنت الإقليم، ولا يُعرف بالتحديد تاريخ مجيئها إلي الاقليم، وتقول المرويات الشعبية وحكايات الأجداد أن أبناءها جاءوا من منطقة هرر في الحبشة، أو اذري كما يسميها الصوماليون، وتنتمي قبيلة بيمال إلى قبائل دِرْ اِرِرْ سَمالي وينحدرون من نسل عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، كما تقول المرويات الشعبية. وتتكون قبيلة بيمال من أربعة أفخاذ رئيسية وهم: سعد، داذوا، اسمين، وغادسن، وعمهم دبروبي ويكون السلطان من فخذ داذو. وتزامن مجيئها مع فترة حكم سلطنة أجوران على الاقليم ومناطق أخري كثيرة من الصومال، وبالتحديد في فترة حكم الأمير مَدْغُبْلَي وكان مقر حكمه في مدينة بردالي[1]، وقد خضعت قبيلة بيمال فترة من الزمن لحكمه، ويقال أن رجلا من بيمال يسمي اَبْرَوْني قتل أمير مَدْغُبلي أثناء زيارة الأخير لمدينة مركة، ثأرا لوالده الذي قتله الأمير، وبمقتل الأمير انتهى حكم اجوران علي الإقليم[2] وتفككت سلطنة اجوران وتقطّعت أوصالها، واستقلت كل قبيلة بناحيتها.

وبانتهاء حكم أجوران بدء سيطرة بيمال على مدينة مركة وما حولها من البحر إلى النهر. وقد عُرف البيماليون بالشجاعة وحب الاستقلالية، والحرية ورفض الهيمنة، ويقول الكاتب الإيطالي جِياجِنْتو فِجنَنْزا في كتابه الصومال الإيطالية متحدثا عن القبائل الصومالية: “أما بيمال واجوران لم يفوتوا فرصة لرفع الدروع”، كناية عن استعدادهم للحرب في أي لحظة، ويقول أيضا، “أبقي البيماليون دائما نار التمرد حيّة ضدنا”. ويقول في مكان آخر: “…وهي من القبائل التي من الممكن اعتبارها الأهم سوءا من حيث العدد أو الثروة، او في الأعمال العدائية المستمرة ضد ايطاليا”، كما هو حال أوغادين بنسبة لبريطانيا. تعصب بيمال وصعوبة قهرهم يرجع منبعه إلى الحوادث التي حالفهم الحظ فيها وكانت لهم اليد العليا فيها وخرجوا منها منتصرين، سواء كانت الصراع مع القبائل الأخرى أو في الأعمال العدائية التي واجهتهم من الإدارة الزنجبارية، والايطالية، ويقول أيضا: “انتصرنا على بيمال ببنادقنا ولكن لم نسيطر عليهم، هم شعب جميل كل ما تعني الكلمة من معني ونسائهم مخلوقة من كمال الجَمال، ورجالهم أدونيسيين حقيقيين”.انتهى.

وكذلك عُرفو بالتديُّن ففيهم العلماء والحفاظ لكتاب الله ولهم دور كبيرفي تحفيظ القرآن ونشره في المنطقة. وقد حاول بعض القبائل المنطقة إخضاعها لنفوذها أو السيطرة عليها، مثل سلطنة غليدي ولكن استعصت عليه رغم قوة سلطنة غليدي واتساع مساحة حكمها الجغرافي والتي كانت تضم تحالف قبائل عدة، وامتدَّت نفوذها إلي حدود الحبشة، وصغر حجم قبيلة بيمال من حيث العدد وانحصارها في شريط ساحلي ضيق ممتد من قرية الجزيرة القريبة من مدينة مقديشو شمالا إلي قرية مُنْغِية جنوبا، وقد خاضت القبيلتان حروبا دامية استمرت لسنوات، وابرزها معركة عَدْعَدى سليمال شمال مركة حوالي عام ١٨٤٨ ومعركة عَغَارَني علي أبواب مركة الجنوبية[3]، وتزامنت هذه الحرب مع مجيء والي سلطان زنجبار وعساكره ومعهم أسلحة نارية من مدافع وبنادق، إلي سواحل بنادر، خاصة مدينة مركة وبطلب من سلطان بيمال[4]. وكانت هذه الحرب آخر الحروب التي دارت بين بيمال وغليدي[5].

وجود الزنجباريين كان محصورا فقط في المدينة وبشكل رمزي، لإثبات وجودهم للأوروبيين ورفع علم سلطان زنجبار فوق المدينة، كباقي المدن الساحلية في منطقة بنادر، وأيضا جمع الضرائب من الموانئ، ولم يكن لهم نفوذ علي أرض الواقع إنما النفوذ والسلطة الفعلية كانت لقبيلة بيمال، والعلاقة بينهما لم تكن دائما وديّة، وجدير بالذكر قَتْل بيمال والي مدينة مركة من طرف سلطان زنجبار وأربعين من عساكره أثناء سفرهم إلي مقديشو في بلدة طناني بين مركة ومقديشو حوالي عام ١٨٧٤.

الشرارة الأولى التي أشعلت ثورة بيمال:

ثم جاء الإيطاليون عقب استئجارهم منطقة بنادر من سلطان زنجبار١٨٩٢ ب١٦٠٠٠٠ روبية سنوي[6]. بدون إرادة ورضى قبيلة بيمال ولا سكان المدينة ولا بمشورتهم.

لم يدخل المستعمر الأوروبي الصومال ولم يحتلها بالقوة العسكرية، بل دخلها عبر اتفاقات تجارية ومعاهدات حماية عقدها مع زعماء القبائل، ورحلات استكشافية (بريطانيا وفرنسا)، في الشمال، أو عبر شرائها (إيطاليا) من سلطان زنجبار الذي كان له سلطة رمزية على سواحل بنادر في الجنوب. ومن الأوائل المستكشفين الاوروبيين الذين جاءوا إلى سواحل الصومال، الكابتن في البحرية الفرنسية جارلس جوليان في ١٨٤٧، زار جوليان منطقة بنادر والتقي سلاطينها ومن بينهم سلطان قبيلة بيمال الذي كان يحكم مدينة مركة وعقد معه اتفاق صداقة وتجارة[7]، وتتابع دخول المستكشفين والشركات التجارية الأوروبية في الأراضي الصومالية، حتي تحولت إلي استعمار واحتلال غاشم، وأدرك الصوماليون أنهم خدعوا، وأنه لم يعد أمامهم سوى مواجهة العدو بالمقاومة المسلحة والجهاد وطرده من بلادهم قبل فوات الأوان. ومن هنا اشتعلت نيران الحرب ضد الاستعمار التي بدأت بتحركات فردية من هنا وهناك تدعو للمقاومة، حيث لم يكن هناك في بادئ الأمر حراك شعبي ورفض جماعي منظّم ضد الاحتلال في المناطق التي دخلها المستعمرون إلا في مدينة مركة وما حولها حيث قاوم أهلها وعلى رأسهم قبيلة بيمال المستعمر الايطالي، و رفضوا دخوله في بلادهم.

وفي ١٨٩٣تولت شركة فيلوناردي الإيطالية الخاصة إدارة بنادر من قبل الحكومة الإيطالية، وأبقت الشركة الوالي الزنجباري وعساكره أماكنهم كموظفين تحت إدارتها، ثم أعقبتها بعد إفلاسها شركة بنادر في ١٨٩٦ الى عام ١٨٩٩، ثم تولت الحكومة الإيطالية في إدارة بنادر مباشرة[8].

واجه افراد قبيلة بيمال هذا الوضع الجديد بالرفض والمقاومة واعتبروه غزوا على بلادهم وتدخل سافر في شؤونهم إذ هم أصحاب الأرض والسلطة، ولا يمكن لجهة أخرى مهما كانت التحكم في تقرير مصيرهم حربا أو سلما، وأعلنت جهادا عليها.

لم تكن قبيلة بيمال وحدها من قاوم المستعمر الإيطالي بل كانت قبائل أخري قاومت وقدمت تضحيات كبيرة، مثل قبيلة وعذان، وهنتري، وشيخال غندرشي وغيرهم. لكن لم تجتمع قبيلة بأكملها بقتال وبمقاومة الإحتلال كما اجتمعت وتوحدت قبيلة بيمال لصد عدوان الإيطاليين وطردهم من أرضهم.

مقتل الإيطالي ماريسيو تلموني:

١١ أكتوبر ١٨٩٣ يوم لن ينساه الإيطاليون، أرادوا أن تكون لهم يوم فرح وعيد، يوم تجرأوا على رفع علمهم فوق قلعة مركة وكان من المقرر يومها تسلم الإيطاليين إدارة المدينة من والي سلطان زنجبار، وكان من الحاضرين ماريسيو تلموني من البحرية الإيطالية، بعد انتهاء المراسيم وعند عودته إلي سفينته اقترب إليه شاب من أهالي المدينة وطعنه بعدة طعنات فارداه قتيلا. وانقلبت فرحتهم ترحا وعيدهم مأتما، وبعد يومين من الحادثة تعرضت المدينة لقصف عشوائي عنيف من السفن الحربية الإيطالية[9]، مما تسبب خسائر في الأرواح والممتلكات. هكذا بدأت مركة مرحلتها الجديد، وكانت بداية مسيرة الجهاد، ولم ترهب أهالي مركه هذه الوحشية من العدو ولم تضعف عزيمتهم[10].

وبدأت المقاومة البيمالية بمقاطعة المستعمر الإيطالي وعدم التفاوض معه، او الاعتراف بشرعيته وتركت قبيلة بيمال المدينة لكي لا تبقى تحت حكم المستعمر الغاشم، وشكلت خلية من الفدائيين لتنفيذ اغتيالات في مدينة مركة تستهدف الإيطاليين.

اغتيال مندوب شركة فيلوناردي:

وفي ١٠ فبراير ١٨٩٧ قتل حاكم مركه من قبل شركة فيلوناردي نفس الطريقة التي قتل بها زميله تلموني عام ١٨٩٣، وكان القاتل حسن عمر يوسف من قبيلة بيمال وقد استشهد في المكان علي يد حراس الحاكم، وفي نفس اليوم كانت محاولة أخرى لاغتيال ضابط آخر لم تكتب لها النجاح، وبعدها بأيام حاول اخو الشهيد حسن عمر يوسف اغتيال الحاكم الجديد واسمه بَادَوْلَوْ، ثأرا لأخيه لكن الحاكم نجا، لتدخل السريع من قبل الحراس، وقتلوه قبل أن يصل إلي هدفه، ويعتقد الحاكم الإيطالي في مركة أن قبيلة أشراف في مركه هي من تقف وراء هذه الاغتيالات، كونها تحرِّض وتفتي بوجوب قتال المحتلين وقد ألقي القبض علي خمسة من علماء ووجهاء الاشراف وأرسلوا الى سجن مقديشو وكان هذا آخر العهد بهم ويُعتقد انهم قتلوا[11].

بداية العلاقة بين ثورة بيمال والدراويش:

بدأت ثورة بيمال المسلحة فعليا في عام ١٩٠٤، وتمكنت من فرض حصار على مدينة مركة، وحظر الخروج منها والدخول اليها، ومنعوا أيضا ادخال البضائع التجارية من واليها، وقد تسبب هذا الحصار مجاعة كبيرة وهلاك كثيرين، وهاجر أكثر أهلها إلى مقديشو عن طريق البحر، وتزامن الحصار مع موسم إغلاق البحر بسبب الرياح الموسمية، واستمر الحصار تسعة أشهر، مما أضطر الإيطاليون إلى جلب قوة كبيرة من العساكر الإرتريين واليمنيين من إريتريا إلى بنادر لإخماد تمرد بيمال، وفعلا في فبراير ١٩٠٥ تمكن الإيطاليون من فك الحصار عن المدينة بعد عدة معارك خاضوها ضد بيمال وقعت ما بين مركه وقرية جزيرة .

وهذه الأثناء كانت مقاومة الدرويش بقيادة السيد محمد عبد الله حسن في الشمال على أشدها وأوج عزها، وقد شاع خبرها في كل ربوع الصومال بل لا نبالغ اذ قلنا كل العالم، لأنهم كانوا يقاتلون ضد بريطانيا أقوي دولة في ذلك الزمن، لم يقاتلوا فحسب بل كادوا أن يهزموها لولا خيانة البعض، والمؤامرات والدسائس التي حيكت ضدهم من قبل كل من بريطانيا وايطاليا وشارك في تخطيطها وتنفيذها بعض ممن كانوا يُحسبون للمقاومة ومن أهل العلم.

يعتبر السيد محمد عبد الله حسن الزعيم الصومالي الوحيد في القُطر الصومالي الذي كان يملك السلاح الناري، ولا يتبع ولا يخضع لإدارة الاستعمار، بل يعاديها ويقاتلها وينتصر عليها. ولذلك انعقدت الآمال المقاومين عليه، وتوجّت أنظارهم وتعلّقت أرواحهم الملتهبة على من دافع الوطن عن دخول الاستعمار ، وقاوم وضحى نفسه من أجل الذود عن أرض الإسلام، ليمد يد العون ويزوِّد بالسلاح الناري والرجال لإخوانه المجاهدين في مركة وما حولها، معتبرين ذلك واجبا شرعيا وأخلاقيا. وهكذا كان ظهور أولى جسور التواصل والارتباط بين المقاومة البيمالية في الجنوب وبين المقاومة الدرويشية في الشمال، وأصبح اسم دراويش ظاهرة تتردد على ألسن الصوماليين وتصل صداها في كل مكان خاصة في بنادر، وتتناقل الناس أخبارها حتى سُمي كل من لديه سلاحا ناريا درويشا، وإن كان قاطع طريق[12]، وتنسب ايطاليا كل أعمال الإجرام من قتل ونهب لدراويش لتنفير الناس عنهم.

إيطاليا ومنذ بداية ثورة السيد محمد عبد الله حسن في الشمال حاولت الحيلولة دون حدوث اتصال مباشر بين السيد والقبائل الجنوبية المنتفضة ضدها أو نزول السيد نفسه وانتقاله إلى بنادر ، وأكثر ما كانت تخشاه وتتوخّاه هو حصول قبائل بنادر المناوئين لها أسلحة نارية، قد تشكّل تهديدا وخطرا عليها وعلي القبائل الموالية لها وقد سعت جاهدة منع حدوث ذلك بشتى الطرق والوسائل.

وفي سنة ١٩٠٢ عقد حاكم بنادر الايطالي اتفاقا مع سلطان غلذي يتعهد فيها الأخير إذا نزل السيد محمد عبد الله حسن إلي ساحتهم، أن لا يأويه ولا يساعده لا بالرجال ولا بالسلاح، بل عليه أن يحاربه، وأن يبلغه إلى الحكومة الإيطالية[13].

وفي سنة ١٩٠٣ كتب سلطان غلدي عثمان أحمد يوسف رسالة الى حاكم ايطاليا في بنادر، يقول فيها: لا يخفي عليكم أن سكان الداخل في حالة غليان شديد وأن بعضا منهم لاسيما الضعفاء والفقراء يتوسّلون ويتمنّون مجيء السيد محمد عبدالله حسن إلى بنادر ويدعون له ليلا ونهارا. وفي نفس السنة اُشِيعت في مقديشو اخبار تناقله الناس، أن قبائل بارطير وببيمال في مركة وهيران بعثو رسائل الى السيد محمد عبدالله حسن يبايعونه ويعلنون ولائهم له وانهم تحت طاعته[14].

البعثة الأولى التي أرسلها السيد إلى قبائل بنادر:

يعتقد الايطاليون أن الاتصالات بين السيد محمد عبدالله حسن وقبيلة بيمال قد بدأت قبل اتفاق عام ١٩٠٥ بين السيد من جهة وبريطانيا وايطاليا وحلفائهما من جهة اخري، لكن لم تتوفر لديهم ادلة ملموسة، وفي ٢٤ اغسطس ١٩٠٦ تلقي حاكم بنادر الإيطالي جوفاني جرين فروني معلومات موثوقة من أحد مخبريه، ان السيد بعث ثلاثة مبعوثين إلى بيمال في مركة حاملين رسائل منه إلى كافة علماء بيمال، ومكثوا لدي بيمال ثمانية أيام، رجع اثنان منهم وبقي آخر لديهم، وكان أسباب اختيار السيد قبيلة بيمال بالذات لاعتقاده أن البيماليين هم مِن أشد المناهضين والمقاومين للإيطاليين، وسأل السيد محمد عبدالله حسن في رسالته بيمال عن أحوالهم، وشجعهم بما يقومون به، وحثهم على مواصلة المقاومة والجهاد، ووعدهم بمساعدتهم، وأن يخبروه من هم القبائل المعادين للايطاليين.[15]

وفي ١٩٠٧ ذكر الحاكم الإيطالي فى بنادر جرين في تقريره الميداني الشهري أن من بين العلماء الذين كان السيد محمد عبدالله حسن يتواصل معهم في بنادر، الشيخ عبدي ابيكر غافلي (ويقال إنه من شيوخ السيد محمد عبدالله حسن)[16] وعبد يوسف من قبيلة بيمال، ومعلم مرسل من قبيلة شيخال غدرشي، وهؤلاء كانوا من شيوخ وقادة المقاومة البيمالية في مركة ووعدهم السيد بإرسال الأسلحة والذخيرة إليهم ، وبعد شهر من هذا التقرير وصلت معلومات لدى الإيطاليين أن بعثة من السيد مكونة من عشرة أشخاص ومعهم أسلحة نارية نزلوا عند سلطان غلذي متجهين إلي الشيخ ابيكر غافلي الذي يُعتقد أنه المرجع الأساسي للسيد في المنطقة الجنوبية. وبعد لقائهم بالشيخ ابيكر غافلي، انتقلوا الى قبيلة وعذان وهي من القبائل المعادية للايطاليين، ليسلِّموا رسالة خاصة من السيد للشيخ احمد حاج، المقيم لدي قبيلة وعذان ومن الداعين إلى الجهاد ضد ايطاليا[17] وهو من مقديشو من قبيلة بَنطَبو. بعد لقاءاتهم مع الشيوخ وقادة المقاومة في المنطقة توافقوا إرسال بعثة وممثلين من بيمال وهنتري الي نغال مقر السيد وفعلا ذهبت قافلة مكونة من مائة وعشرة من بيمال وهنتري ومعهم ٣٥ جملا وكان الهدف من هذه البعثة حصول أسلحة نارية من السيد.

وذكر الحاكم الإيطالي في بنادر جرين في تقريره الشهري في مارس ١٩٠٧ أن الحالة الأمنية في المنطقة تدهورت بعد مجيء البعثة الدراويشية في المنطقة وأن حماسة وتحركات المتمردين تصاعدت وتيرتها[18].

إتفاقية إليغ وأثرها على ثورة بيمال:

وبعد اتفاقية السلام بين السيد من جهة وبريطانيا وايطاليا وحلفائهما من جهة أخرى في منطقة إليغ عام 1905، بدأت إيطاليا تضغط علي السيد ليتوقف عن دعم ومساندة المقاومين في بنادر، لكن السيد محمد عبدالله حسن كان دائما ينكر وجود علاقة بينه وبين بيمال ويؤكد عدم معرفته وجود مقاومة في مركة، طلبت إيطاليا من السيد إرسال مبعوثين من جهته الي الحكومة الإيطالية في بنادر للتباحث في هذا الشأن ويُبَرهنوا او يثبتوا صدقهم في عدم معرفتهم وجود مقاومة فى بنادر، وعدم وجود علاقة بينهم وبين بيمال لدي حكومة ايطاليا في بنادر، وفعلا استجاب السيد طلبهم وأرسل ثلاثة مبعوثين من بينهم ديري عرالي(من كبار سفراء السيد) وبعث معهم رسالة الي بيمال والمقاومة بصفة عامة يدعوهم فيها في الظاهر عدم قتال الإيطاليين وأنه عقد معهم هدنة ولا يجوز قتالهم[19]، لكن الإيطاليين لم يصدقوا كلام السيد ورسالته واعتبروه مسرحية، وأن رسل السيد كان لهم مهام أخرى في الخفاء وهي الاتصال بالمقاومة ودراسة أوضاعهم عن قرب، وأن قاضي مقديشو الموثوق والمعتمد لدي الحكومة الإيطالية في بنادر اكد هذا الخبر للحاكم، وأن القاضي لديه معرفة بأوضاع البلاد وله علاقات واسعة عن طريق طلابه الذين يأتون من كل أنحاء الصومال[20].

محاولة الإيطاليين استعانة السيد محمد عبد الله حسن لوقف عمليات المقاومة لم تؤت أكلها وباءت بالفشل، وقد خادعهم السيد واستخدمهم للوصول من خلالهم الى المقاومة البيمالية بدون عناء سفر بري طويل وشاق وعبر طرق غير آمنة، للعلم أن الرسل الثلاث جاءوا مع القنصل الإيطالي في عدن عبر البحر على متن سفينة إيطالية. وتأكدت مخاوف الإيطاليين في عدم صدقية كلام السيد ورسالته عندما أكد كل من عبدالله شحري( سفير سابق للسيد محمد عبدالله حسن ومنشق عنه وأصبح في ما بعد مخبر لدى الإيطاليين) وسيد يوسف مترجم ومخبر للإيطاليين، وصول شحنة أسلحة (مائة بندقية) مرسلة من السيد الي بيمال[21].

كيف دعمت الدراويش ثوار بيمال؟:

بذلت دولة الدارويش جهودا كبيرة لدعم القبائل الثائرة ضد الإستعمار الإيطالي في جنوب الصومال وزودتهم بالأسلحة والذخيرة وفتحت معسكراتها أمام ثوار قبائل بنادر لتدريبهم بإستخدام هذه الأسلحة واساليب حرب العصابات، كما ارسلت مدريبهم ومستشارين عسكرين إلى قبيلة بيمال والقبائل الأخرى المنتفضة. ففي عام ١٩٠٨ تمكنت مجموعة من بيمال الذين ذهبوا إلى نغال حوالي ٦٠ رجلا العودة إلى مركة ومعهم الأسلحة والذخيرة، وقد وُزِّعت الأسلحة كالتّالي: ٨١ بندقا للبيمال، ٣بنادق لشيخ ابيكر غافلي، وثلاث اخري لشيخ احمد حاج المقيم لدى قبيلة وعذان، ومسدسا واحدا لشيخ ابوبكر عشر في قرية مريري من قبيلة هنتري[22]. وبعد حصول المقاومة البيمالية والقبائل المتحالفة معها الأسلحة النارية والخبرة القتالية التي اكتسبوها من المقاومة الدراويشية في الشمال، او من خلال البعثة التي أرسلها السيد الي بيمال تغيرت تكتيكاتهم القتالية وقد لاحظ الإيطاليون هذا التغَيُّر.

نورد هنا ما قاله الحاكم الإيطالي الجديد في بنادر توماسو كارليتي في هذا الشأن، في ١٤مارس ١٩٠٨: يتطابق سلوكهم في القتال، الاستراتيجية القتالية الدراويشية المعروفة، وهو عدم المواجهة المباشرة مع العدو الذي هو أقوى منك من حيث السلاح، بدلا من ذلك، اترك العدو يَتَّبعك، ومن ثم وبالوقت المناسب تهاجمهم هجوما عنيفا وبمجموعات قليلة وسريعة. إنها لعبة وخدعة مبنية على جرعة كبيرة من الصبر، وهي خطة يجيدها السيد وهو معلم كبير بها، يبدو إنها هي النصيحة التي نصحها السيد لبيمال وقال لهم: افعلوا كما نفعل، استفزوهم واتركوهم يهاجمونكم، تحركوا ضدهم بحزم فقط إذا هاجموكم. انتهي.[23]

المقامة البيمالية قدمت تطبيقا عمليّاً لنصائح السيد محمد عبد الله حسن علي أرض الواقع في معركة طناني الشهيرة في ١٠فبراير ١٩٠٧، كما يقول الإيطاليون. وبعد محاولات عدة ومعاركة شرسة استمرت ثماني سنوات تكبد العدو من خلالها خسائر كبيرة تمكن من الوصول إلى النهر (نهر شبيلي). لكن العلاقة بين السيد محمد عبد الله حسن وبيمال لم تنقطع واستمرت المقاومة ترسل الشباب الي السيد للتدريب اوالتزود بالسلاح.

يقال أن قبيلة بهغري أرادت طلب إذن من السيد لمساعدة ببمال في قتال الإيطاليين، لكنهم فضلوا الانتظار الي حين عودة المبعوثين لدى بيمال، جاهلين انهم قتلوا أثناء معركة دَنْغُبْ قرب مدينة مركة[24]. من المؤكد بعد معركة طنانى توجه مجموعة كبيرة ما يقارب ١٢٠٠ من بيمال ووعذان وهنري وهلبي الى نغال، ووصل بعضهم إلى معسكر الدراويش وبعض الآخر قتل في الطريق، لأن الطريق كان غير آمن ويمر عبر مناطق تتواجد فيها قبائل معادية للمقاومة وتابعة للمستعمر، خاصة سلطنة هبيو في الشرق والاوغادينيون في الغرب وابغال وهبر-غيدر في المناطق الوسطى، ويقال أن ٣٠٠ بيمالا قتلوا ما بين ورطيري وغلادي على يد اوغاذين، وفي تقرير للقنصلية الايطالية في عدن في ١٥ يونيو ١٩٠٨ اكدت وصول ٧٠٠ من بيمال الي معسكر الدرويش في نغال ،وهناك أيضا معلومات نقلها عبدالله شحيري إلى القنصلية في عدن إن صحت تتحدث عن وصول ٢٥١٠ شابا من بنادر الي نغال[25].

رسالة السيد إلى قبيلة بيمال:

أواخر ١٩٠٨عصفت رياح عاتية في معسكر الدراويش كادت أن تقتلع من جذورها وتزيلها من الوجود، وذلك إثر انتشار رسالة من الشيخ محمد صالح رشيد شيخ الطريقة الصالحية في مكة المكرمة بين القبائل الثائرة ضد الاستعمار في الصومال، حيث يتهم فيها السيد عن الإنحراف عن جادة الطريق واستحلال دماء المسلمين واموالهم واعراضهم بغير وجه حق، ويقال ان الشيخ محمد صالح رشيد فصله عن الطريقة، وتركت الرسالة أثرا سلبيا، وخلقت فتنة وزعزعة في داخل صفوف الدراويش ومن اقرب المقربين للسيد وهزت أركان دولة الدراويش ، وحصلت محاولة انقلاب، المعروفة بشجرة[26] عنجيل.

وتولّي كِبر عملية كتابة الرسالة الحاج إدريس حرسي المتعاون مع الإيطاليين والبريطانيين، ويقال أن البريطانيين الإيطاليين حاولوا مرارا تشويه سمعة السيد واسقاطه أو إثارة حفيظة الناس ضده ولم يجدوا لها طريقا، ولكن هذه المرة وجدوا ضالتهم في شخصية عبدالله شحيري سفير السيد محمد عبدالله حسن سابقا، والحاج إدريس حرسي واللذان يحظيان بثقة الشيخ محمد صالح رشيد.

عبدالله شحيري هو الذي نسَّق واخرج الرسالة الي النور، وهناك ايضا علماء كبار من طرق الصوفية ومنها الصالحية التي ينتمي اليها السيد، الذين كانوا علي خلاف مع السيد، ذهبوا الي مكة، وعلي رأسهم الشيخ اسماعيل بن إسحاق، والشيخ على نيروبي[27] واشتكوا إلى الشيخ محمد صالح رشيد في تصرفات السيد من تكفير وقتل ونهب، وكان من بين هؤلاء العلماء ايضا علماء مشهورة من بنادر، مثل الشيخ محمد دُوْب. ونُسخت الرسالة الى عدة نسخ مختلفة عليها في الشكل والمضمون، سبعة منها وزعت في بنادر وعلى المشايخ: الشيخ داوود علسوا في مريغ، والشيخ عبد الواحد محمد غوليد في مقديشو، والشيخ مرسل، والشيخ على ميي، والشيخ عثمان القاضي، والشيخ علي ابو شجاع، كلهم في مركة، كل هؤلاء العلماء غير (الشيخ علي ميي والشيخ أبو شجاع وهما من الطريقة الأحمدية) ينتمون إلى طريقة الصالحية في مِصْرَي من قرى بلعد[28]وحامل الرسالة وموزّعها كان الشيخ اسماعيل بن اسحاق من بربرة[29].

ومن جانبه وردّاً على الاتهامات التي وجهت اليه أرسل السيد محمد عبدالله حسن رسالة مطولة تدل مدى تبحره في العلوم الشرعية يجيب فيها الشبهات التي أثيرت حول تصرفاته، وتكفيره الناس واستحلال دمائهم وأموالهم، إلى قبيلة بيمال، وقد اورد الرسالة كاملة الشيخ احمد عبد الله ريراش في كتابه كشف السدول عن تاريخ الصومال. ومن أراد المزيد فليراجع الكتاب[30].

بعد معركة طنانى واحتلال الإيطاليين نهر شبيلي، وتأثير التي خلفت رسالة الشيخ محمد صالح رشيد في نفوس القبائل وإطالة أمد الحرب، وتفوق آلة الحرب العدو، وإقدام العدو إحراق قرى بأكملها وتهجير أهلها ونهب ممتلكاتهم دخل في نفوس البعض الوهن والضعف خاصة زعماء ووجهاء قبيلة بيمال وشككوا في جدوى الحرب، واستكانوا إلى السِّلم والمهادنة، واستطاع المحتل شراء ذممهم. وعلى إثرها انتقل المقاومون وقادتهم إلى شبيلي الوسطى وهيران حيث توجد قاعدة كبيرة للدراويش في بلدوين بقيادة خليفة عبد الله عم السيد، وبقوا هناك يقارعون العدو حتى هزيمة دراويش ووفاة السيد محمد عبد الله حسن في ١٩٢٠.

الحديث عن المقاومة في الصومال ضد بريطانيا وإيطاليا، والحبشة أيضا، وعلاقة بعضهم البعض حديث ذو شجون، لا يمكن حصره في مقال أو مقالين بل يحتاج الي كتب، أرجو اني قد وُفّقت ما تناولته في هذا المقال.

Exit mobile version