الصومال اليوم

التشكيل الوزاري السوداني الجديد، ماذا ينتظره؟

جاء إعلان التشكيل الوزاري السوداني الجديد متزامناً مع جولة مبعوث الإتحاد الأوروبي بيكا هافيستو للسودان وأثيوبيا، وفور إعلان ذلك التشكيل وصلتني دعوة من دولة الغابون للمشاركة حول تداعيات التغيير الوزاري الجديد على السودان والجوار الإقليمي لها، وتنفستُ الصعداء بعد أن وجدت أن من سيشاركني الحديث ثلاثة أشخاص وبالتالي ستكون فقرتي مختصرة خاصة أنا ما سأقوله ينطبق على جل الأنظمة السياسية في أفريقيا. 

جاء التشكيل الوزاري الجديد مُحيياً للأمال وعلى صعيدي الشخصي إستبشرتُ خيراً بوجود رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم من ضمن هذا التشكيل، فإختيار جبريل إبراهيم وزيراً للمالية  أرى أنه موفق وإن كان مُتأخراً، فالسودان يريد فتح صفحة جديدة مع ذاته، صفحة تبدو أكثر واقعية وصدقاً مع “إقليم دارفور” الذي ينتمي إليه وزير المالية الجديد، فتوجه الخرطوم للإقليم الغربي بعد عقود من الإزدراء السياسي والإجتماعي لذلك الإقليم أرى بأنه يحمل ثلاثة دلالات رئيسية:- 

الدلالة الأمنية الإستخباراتية: وزير المالية جبريل إبراهيم هو الأخ الشقيق لقائد حركة العدل والمساواه الراحل خليل إبراهيم الذي كان وزيراً للصحة في نظام الإنقاذ قبل أن ينشق عن النظام ويؤسس حركة العدل والمساواه بقواتها المسلحة عام 2000 والتي قامت بغزو أمدرمان والخرطوم عام 2008 بدعم من الرئيس التشادي إدريس ديبي. 

فمعنى أن يتم إختيار جبريل إبراهيم وزيراً في الحكومة السودانية فهذا يعني أن الخرطوم تريد إرسال رسالة واضحة بأنها حريصة على إتفاقية السلام التي وقعتها مؤخراً مع الفصائل السودانية المسلحة والتي تنظر لها الخرطوم بأنها فصائل “متمردة” خاصة أن رئيس الحركة أصبح وزيراً لمالية الدولة السودانية وهو الأقدر ولا أقول الأوحد على منع خروج الأمور عن السيطرة، ومن ناحية أخرى العناصر المسلحة المكونة لحركة العدل والمساواة يمتلكون خبرة أمنية وإستخباراتية قديمة وبالتالي من المرجح أن يتم ضمهم لجهاز المخابرات السودانية وبذلك سيكون النظام السوداني قد نجح في تفكيك المفاصل المخابراتية للحركة وتجريدها من أيديولوجيتها ناهيك عن أسلحتها ولكن يبقى السؤال هنا هل ستتخلى العناصر الأمنية في حركة العدل والمساواة عن أيديولوجيتها التي تأسست عليها ولو فرضنا جدلاً أنها تخلت عنها فعلاً هل قبولهم في الأجهزة الأمنية السودانية الرسمية التي قامت على القبلية والجهوية منذ عام 1989 سيكون موصوماً بالثقة ؟ 

هذه التساؤلات بلا أدنى شك تبادرت إلى ذهن الأجهزة الأمنية السودانية ناهيك عن الكوادر المخابراتية المُرابطة في إقليم درافور والتي تُدرك تماماً مدى بُعد المسافة بين الإعتقاد الراسخ في رؤوس من يديرون الأجهزة الأمنية وبين ما يؤمن به غيرهم. 

وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم ورفاق السلاح الذين معه في حركة العدل والمساواة لا يمكنهم تجاوز مرحلة المؤسس الراحل خليل إبراهيم، صحيح أنهم لم يعودوا بتلك القوة التي كانوا عليها والتي أهلتهم لغزو العاصمة المثلثة عام 2008 إلا إنهم يُدركون أن الظروف الدولية اليوم قد تغيرت، ولكن ذلك لا يعني أن لن يعاود الجوار الإقليمي للسودان الكره لدعم تلك الحركة أو غيرها في حال تغيرت المعادلة الدولية وبالتالي الأمر متروك لما تقرره التغيرات الدولية. 

ومن ناحية أخرى هناك ثأر قديم لدى حركة العدل والمساواة حتى وإن توصلت إلى إتفاق سلام مع الخرطوم فالثابت في السياسة أنها متغيرة والذي يعرف أفريقيا عموماً والسودان خصوصاً وحتى قبل سقوط الرئيس السابق عمر البشير سيُدرك ما أقوله جيداً بأن الإتفاقيات السياسية مهما كان حجم الموقعون عليها فهي لا تعصمهم من نقضها إذا أرادوا ذلك وهذا ما تراهن عليه بعض الأطراف التي ترغب بعودة السودان للمربع الأول. 

الدلالة السياسية: السودان يتطلع إلى مصالحة وطنية حقيقية، ويود لو يستطيع أن يعيد الأمور إلى ما قبل 2011، لذلك فهو يعمل على الحفاظ على كيانه السياسي وسلامة أراضية، وأكثر ما  يُرعب السودان أن يتجدد العنف في أحد أقاليم البلاد ويجد النظام نفسه أمام سلسلة إتفاقيات شبيهه بتلك الإتفاقيات التي بدأت ببروتوكول مشاكوس عام 2002 الذي أعطى الجنوب حق تقرير المصير وإنتهت بإتفاقية نيفاشا 2005 التي فرضت نفسها على الواقع السوداني وكانت نتيجتها تحقيق سيناريو 2011 الذي إنتهي بفصل السودان إلى دولتين وما جر ذلك على السودان من ويلات لم يتعافى منها حتى يومنا هذا، لذلك تحرص الحكومة السودانية الجديدة على قطع الطريق على من يراهن على سلامة الأراضي السودانية وكأنها تريد أن تبطل مفعول تلك التسريبات الموغلة في القدم والتي ما زالت تراهن على حتمية تقسيم الأراضي السودانية وهذا ما يجب أن تضعه القيادة السودانية الجديدة نصب أعينها حتى لا يتكرر سيناريو 2011. 

الدلالة الإجتماعية: تدرك الحكومة السودانية أن أزمة السودان الأساسية ليست سياسية بل نفسية، لذلك جاء هذا التشكيل الوزاري الجديد رسالة واضحة لكافة الشعب على إختلاف أطيافة وأعراقه وقبائله بأن السودان الجديد يتوق للتحرر من أرث الماضي ونبذ العنصرية التي فتكت بالمجتمع السوداني على مدى ثلاثة عقود، تلك العنصرية التي لن تزول إلا بزوال تلك الرواسب الكامنة في نفوس الشعب السوداني وهذا ما سيساعد النظام على تجاوز الأزمات التي أثرت على الحياة الإجتماعية. 

هناك أطراف إقليمية ودولية تراقب عن كثب التغيرات في المشهد السوداني وقد يزعجها أن تخطو حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك خطوات تقدمية لذلك أرى أنه سيتم اللعب على ورقة القبلية لعودة السودان إلى المربع الأول وذلك بإثارة النعرات القبلية والعرقية لتعطيل التنمية في إقليم درافور الذي ينتمي إليه وزير المالية الجديد ( جبريل إبراهيم) وفي حال حدوث ذلك سيلجأ الوزير إلى ما لجأ إليه شقيقه الراحل من قبله ( خليل إبراهيم) وهو الإنقلاب على المركز والتهديد بإسقاط النظام وبالتالي من المحتمل إعادة إنتاج ذات السيناريو مرة أخرى وبأدوات مختلفة وذلك ضماناً كما أشرنا إلى عودة السودان للمربع الأول، لذلك على الحكومة السودانية أن تبدأ بتحريك عجلة التنمية في إقليم درافور وكافة أقاليم البلاد لقطع الطريق على من بيده اللعب بهذه الورقة. 

من ناحية أخرى قد تساهم بعض الأطراف الإقليمية وبدعم من الأطراف الدولية على تشكيل حكومة ظل، وأرى بأن القوى الدولية لن تلجأ لدعم ذلك إلا في حالة خروج الخرطوم عن المسار الذي رُسم لها، ولكن لو تم تشكيل حكومة ظل فأرجح أن يقودها ( طه عثمان الحسين) مدير مكتب الرئيس السابق عمر البشير والمُقيم الأن في المملكة العربية السعودية كمستشار للشؤون الأفريقية، إلا إني أرى أن حكومة ظل يقودها (طه عثمان) لا يمكن أن تولد دون موافقة دولية خاصة أن (طه عثمان) بعد خروجه من الخرطوم إلى الرياض وبقرار سياسي سبقته أحداث درامية بات كل شي في نظر هذا الرجل مؤقتاً أو فلنقل مرحلة مناسبة للقفز إلى مرحلة أخرى حتى وإن كان ذلك على حساب الوطن، فلا توجد قيمة في عين من أدمن القفز فوق كرامة الأوطان، لذلك أرى أن هناك إعتبارات سيتوقف عندها (طه عثمان) فهو لا يريد خسارة الأطراف الخليجية التي يعمل معها إلا بعد أن يحقق مقابلاً يبدو في نظره مُستحقاً لما قدمه والذي بسببه خسر مكانته في حزب المؤتمر الوطني السوداني الحاكم “سابقا” والذي بدا بعد واقعة (طه عثمان) عام 2017 أقرب للإرتباك منه للهدوء، إلا أن (طه عثمان) يعلم قبل غيره بأن حزب المؤتمر الوطني قوي بما يكفي، فهذا الحزب أثبت صموده وتماسكه في أدق مراحله ونجح في الحفاظ على نفسه حتى بعد حدوث المفاصلة الشهيرة عام 1999 والتي إنتهت بخروج من هو أثقل وزناً من (طه عثمان) بألاف المرات ألا وهو الراحل  (حسن الترابي) والذي كان وما زال يمتلك قاعدة شعبية سودانية وأفريقية لن يحققها (طه عثمان) ولو سخر لذلك ملك الجان ليأتيه بها. 

أمام كل ذلك أرى أن هناك سيناريوهات محتملة حول كل ما يحدث : 

السيناريو الأول: ( عودة صلاح قوش) : من المرجح أن يكون لمهندس السياسة الأمنية السودانية صلاح قوش دور قادم إن لم يكن يمارس الأن هذا الدور، فالإستعانة برئيس الأمن القومي السوداني السابق (صلاح قوش) في بعض الملفات أمراً مهماً فهذا الرجل يحظى بثقة مختلفة في الأوساط الإقليمية والدولية خاصة أنه ليس محسوباً على تنظيم الأخوان المسلمين على عكس بعض رجال الإنقاذ الذين ما زالوا يتصدرون المشهد السياسي السوداني والذين يُدركون أن مكان صلاح قوش في جهاز الأمن محفوظ مهما تقلبت الأمور والنوايا والوجوه والحكومات في الساحة السودانية فلا يمكن تجاوز خبرة وكفاءة رجلاً كصلاح قوش . 

السيناريو الثاني: (سقوط الحكومة الإنتقالية) : أمام التشكيل الوزاري السوداني الجديد تحدي من نوع خاص وإن لم ينجز هذا التشكيل الوزاري مهامه بكفاءه ويقنع الشارع السوداني بأداءه ويضع حداً للأزمات الإقتصادية المتعاقبة فلا سبيل أمام الشعب إلا حشد أطيافه والعودة إلى الشوارع وهذا ما سيُطيح بالحكومة الإنتقالية وسيفتح باب الصراعات السياسية على مصراعيه وسيدخل السودان في دائرة لن يخرج منها كما دخل، إلا أن هذا السيناريو رغم إحتماليته إلا أنه يبدو مستبعداً على المدى القريب لأن الإدارة الأمريكية الحالية تريد الإستقرار للسودان وجوارها الإقليمي ( منطقة القرن الأفريقي)، وستعمل حكومة الرئيس جو بايدن على تخفيف الإحتقان السياسي سواء في الداخل السوداني أو في حدودها الشرقية مع أثيوبيا، فواشنطن تُدرك أن رؤيتها للقرن الأفريقي الجديد لن تتحقق إلا عبر الخرطوم وبالتالي فالسودان مرتبط بإكمال تلك الرؤية خاصة أن إدارة الرئيس جو بايدن ستعمل على ثلاثة محاور رئيسية :- 

محور الصومال: واشنطن تريد صومالاً مُستقراً، وتدرك أديس أبابا أن واشنطن تعمل على توسيع نفوذها في الصومال العائدة إليه بعد ثلاثون عاماً من الإنقطاع بطاقم دبلوماسي كامل تتنظره مهام جسام وهذا ما يشكل فرصة لأديس أبابا للتعاون مع واشنطن 

لمضاعفة دعمها للجيش الأثيوبي ودعم حصول أديس أبابا على منفذ بحري، ناهيك عن إنتهاز أثيوبيا لفرصة وجود الرئيس الأمريكي جو بايدن في السلطة للمضي قدماً وبشكل متسارع في ملف سد النهضة، ومثلما تدرك أديس أبابا الرؤية الأمريكية للقرن الأفريقي الجديد فإن واشنطن تدرك أيضاً أن أثيوبيا قادرة على إثارة البلبلة في الداخل الصومالي إن أرادت ذلك وبالتالي التعاون مع أديس أبابا وجواره الإقليمي هو المهم في هذه المرحلة لضبط الإيقاع الأمريكي وتحقيق الرؤية الأمريكية في السودان والقرن الأفريقي. 

محور أثيوبيا- أرتيريا: وفي هذا المحور ستعزز واشنطن بنود المصالحة الأثيوبية الأرترية التي تحققت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب وذلك بترجمتها إلى واقع عملي بدعم ملف الفيدرالية أو الكونفيدرالية بين أديس أبابا وأسمره خاصة أن الولايات المتحدة منذ أيام الأمبراطور الأثيوبي هيلاسيلاسي  وحتى قبل إستقلال أرتيريا كانت من أبرز الداعمين على حصول أثيوبيا على منفذ مائي على البحر الأحمر. 

محور السودان: تحجيم النفوذ الصيني في السودان، تدرك الخرطوم تماماً ما الذي تريده الإدارة الأمريكية منها مثلما تدرك ما الذي يجب عليها أن تفعله حتى لا تخسر حليفاً قوياً كالصين، وبالتالي ستكون نسبة التعاطي مع كافة الملفات الحالية متوافقة خاصة ان إدارة الرئيس جو بايدن تبدو أقل شدة من الحكومة السابقة وستتفهم أن تحجيم النفوذ الصيني في السودان لابد أن يقابله عودة أمريكية فعالة يلامسها الواقع في جميع القطاعات الحيوية. 

السيناريو الثالث:( أثيوبيا قائدة لشرق أفريقيا) : تُدرك القيادات السياسية الأفريقية أن القوى الدوليه ترى في أثيوبيا دولة مركزية وقائدة للشرق الأفريقي، وذكرنا في مقال سابق حمل عنوان “المشهد الأثيوبي، قراءة خليجية” منشور في جريدة البيان الإماراتية في نوفمبر 2020 أن القوى الدولية ستعمل على تقوية أثيوبيا إستراتيجياً إما بتوقيع صفقة مع أسمرة لتمكين أديس أبابا من الموانىء الأرتيرية على البحر الأحمر وإما بإحياء ملف الكونفيدرالية بين البلدين، وجاءت تصريحات مسفن حقوص أحد أهم الكوادر الأرترية في لقاء مصور له في 22 فبراير2021 (أي بعد نشرنا للمقال بأربعة أشهر ) يؤكد صحة ما ذهبنا إليه ويُعلن أن هناك صفقة بين أسمرة وأديس أبابا على تحقيق الفيدرالية بين الطرفين وإعطاء أثيوبيا منفذ بحري على البحر الأحمر، أما داخلياً فسيتم تقوية أديس أبابا بإيجاد مصالحة وطنية حتى وإن جاءت رغماً عن الفصائل المتمردة ( التيقراي) فهذه الفصائل هي أعلم من غيرها بالكيفية التي سيتم القضاء عليها في حالة تمردها مثلما هي أعلم بالكيفية التي يمكن للقوى الدولية أن تستخدمها بها إذا أرادت صعودها للسلطة وبالتالي ليس من مصلحتها المراهنه والتعويل على قدرتها التي ستفقدها فور إعلانها الرفض. 

التوصيات 

من الفطنة أن يقوم جهاز المخابرات السودانية بتبي إستراتيجية مستقبلية جامعة لكل أطياف الشعب السوداني بما فيهم الفئات الأمنية من كوادر حركة العدل والمساواة وسائر الحركات السودانية المسلحة حتى لا تتحول تلك الكوادر مستقبلاً إلى أوراق تستخدمها أطرافاً أخرى لضرب الأمن القومي السوداني خاصة أن تلك العناصر تحمل غبناً قديماً ليس من مصلحة الخرطوم أن تتم ترجمته لواقع يؤرق مستقبل الدولة السودانية، أعلم أن تراكمات العنصرية والقبلية في السودان قوية ولكن بتضافر الجهود الوطنية يمكن أن تتحقق الأهداف. 

عدم المراهنة على الأقاليم الإنفصالية سواء في السودان أو في منطقة القرن الأفريقي، فهذه الأقاليم قد تتفق مع الحكومة المركزية في أي لحظة إما بقرار وطني أو بقرار دولي وبالتالي على جميع الأطراف الخليجية أن تحافظ على موقفها سليماً منذ البداية مهما تغيرت القيادات السياسية في هذه الدولة أو تلك حفاظاً على المصالح الخليجية في تلك الدول، خاصة أن القوى الدولية لا ترى في الأقاليم الإنفصالية الأفريقية عموماً دولاً مستقلة على المدى المتوسط حتى وإن إمتلكت مقومات الدولة والسبب في ذلك أن القوى الدولية لا تريد أن تتحمل عبئاً سياسياً إلا إذا إقتضت مصلحتها ذلك، فالقوى الدولية مثلاً لم تدعم إنفصال أمبازونيا في الكاميرون وبيافرا في نيجيريا واللذان يتمتعان بمقومات جغرافية، وأمنيه وعسكرية وإستخباراتية لا تتوافر في بعض الأقاليم الإنفصالية في الشرق الأفريقي. 

د.أمينة العريمي 

باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي 

Exit mobile version