حاولت إثيوبيا أن تظل أزماتها الداخلية والإقليمية بمنأى عن التدخلات الخارجية، ورفضت عروضا عديدة للوساطة، كجزء من فلسفة الحكومة المستمدة من منهج بات أصيلا لدى حكومات متعاقبة يبغض اللجوء إلى الوسطاء.
لكن البغض لم يصمد طويلا، ورضخت في النهاية؛ حيث أخفقت في الهروب وعجزت عن تقديم حلول للمشكلات، وُوضعت في صورة أقرب إلى الدولة المزعجة في المنطقة بدلا من أن تكون لاعبا يوفر الأمن والاستقرار.
ظلت أديس أبابا ترفض وتتهرب من أي وساطة لتسوية أزمة سد النهضة بين مصر والسودان، وقبلت بوساطة أميركية مع البنك الدولي العام الماضي، وبعد فشل جولات عدة للتسوية قبلت بوساطة تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وحده، لا تزال مستمرة ومتعثرة.
دعا مقترح سوداني إلى تعضيد المسار الأفريقي لحل الأزمة خوفا من تداعياتها عبر تحويله إلى مسار رباعي، تُمثَّل فيه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فضلا عن الاتحاد الأفريقي، وتلعب الأطراف الأربعة دور الوساطة وتسهيل عملية المفاوضات.
وقال وزير الدولة للشؤون الأفريقية في السعودية أحمد قطان إن بلاده “ستواصل المساعي لإنهاء ملف سد النهضة الشائك.. بالشكل الذي يضمن حقوق مصر والسودان وإثيوبيا”، في محاولة للاستفادة من العلاقة الجيدة بين الرياض وأديس أبابا من جهة وبين الرياض والقاهرة والخرطوم من جهة أخرى.
عقب احتدام الأزمة الحدودية بين إثيوبيا والسودان لم تجد الدول والمنظمات -التي أرادت الدخول على خطها لإيجاد حل- تجاوبا من الأولى، فوساطة جنوب السودان اصطدمت بشرط أديس أبابا سحب الخرطوم القوات العسكرية من المنطقة التي تمركزت فيها مؤخرا، والتي يعتبرها السودان جزءا من أراضيه واستردها.
في خضم تجاذبات سياسية ومناوشات عسكرية بين البلدين قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي، الأربعاء الماضي، إن بلاده “ستشعر بالامتنان في حال توسطت تركيا بينها وبين السودان لحل النزاع الحدودي القائم”، ما يعني استدعاء أنقرة للتدخل وحل المشكلة بما يضفي على دورها في المنطقة هالة سياسية إيجابية.
وتردد أن الاتحاد الأفريقي كلف الدبلوماسي الموريتاني محمد الحسن ولد لبات بقيادة وساطة لحل الأزمة الحدودية، وإذا صحت المعلومات حول هذه الخطوة فهذا يعني أول مقاربة عملية منه، والمفترض أن توقف زحف أي مبادرة خارجه.
ما الذي يجري كي تغير إثيوبيا موقفها من فكرة الوساطة في ملفي سد النهضة والحدود مع السودان؟ وهل يمكن أن تقبل بوساطة خارجية لتسوية الأزمة في إقليم تيغراي، بعد أن تحول إلى حالة إنسانية خطيرة لدى بعض الدول والمنظمات؟
لم تعد أي دولة قادرة على تجنب التدخلات والأدوار الخارجية، ولا تستطيع إثيوبيا أو غيرها الصمود في مواجهة الضغوط، لأن انعكاسات الصراعات لا تقتصر على الدول المعنية بها مباشرة؛ فالشرارات التي تمتد منها كفيلة بإحداث تحولات نوعية في التوازنات الإقليمية والتأثير على مصالح قوى متباينة عقب قيام بعض الدول بالاستثمار فيها وتوظيفها لتحقيق أهدافها.
ترك أسلوب المفاوض الإثيوبي في محادثات سد النهضة وبدأت منذ حوالي عشرة أعوام رواسب سلبية حول الطريقة التي تتعامل بها أديس أبابا مع الأزمات، وأن منطق المظلومية والرغبة في مكافحة الفقر الذي تبنته ضد القاهرة في أزمة سد النهضة أخفق في أن يكون له دور كبير في إقناع الأطراف المعنية.
لم ترفض مصر أو السودان حق إثيوبيا في التنمية، وكل ما طُلب منها تحاشي تأثير السد على مصالحهما، ووضع ضمانات بخصوص ذلك في اتفاق مُلزم للجميع، والتقيد بالاتفاقيات الموقعة بين الدول الثلاث بالنسبة إلى سد النهضة والحدود مع السودان.
لا يحمل التغيير الظاهر في موقف أديس أبابا من الوساطة علامة إيجابية على تقديم تنازلات في الأزمتين، ولا ينطوي على رغبة في الوصول إلى تسوية عادلة أو الرضوخ لضغوط خارجية من دول عدة، بل هو محاولة جديدة لاستنزاف المزيد من الوقت، حيث تيقنت إثيوبيا أن طريق الممانعة الذي تمسكت به يقودها إلى خسارة بعض القوى الإقليمية والدولية، وربما يضعها في إطار الدولة “المارقة”.
ما تغير في إثيوبيا هو موقفها من الوساطة وليس تقديرها لأدوات الحل اللازمة في أي أزمة من الأزمات التي تمر بها، فقد فرضت عليها المشكلات الداخلية المتعددة انحناءات سياسية كي تتجنب الصراع على أكثر من جبهة في آن واحد.
وتتعمد زيادة عدد الوسطاء الإقليميين الدوليين أملا في التشويش على الأفكار التي يمكن أن تطرح للتسوية، وسعيا لحدوث صدام بينهم، ما يمنحها مساحة للحركة والمناورة تساعدها على عدم الوقوع في أسر تسوية منتجة ترفضها.
تضع إثيوبيا العجلات أمام الحصان، حيث تتمنع عن قبول الوساطة ثقة في قدرتها على الحل، أو تضع شروطا قاسية، وإذا وافقت تُدخلها في دروب تفرغها من مضمونها وتحولها إلى أداة بلا جدوى باللجوء إلى حجج وذرائع واهية، بالتالي تفقد مفعولها، وهو ما تعلمته مصر والسودان من جولات التفاوض في ملف سد النهضة.
لذلك فأي وساطة جديدة لحل أزمة السد أو مشكلة الحدود لن يُقبل بها دون تحديد قواعد فنية واضحة ومصفوفة زمنية محددة، فقد فرضت التجربة مع إثيوبيا ضرورة توافر ضمانات معروفة ويصعب الالتفاف عليها.
تكشف مواقف إثيوبيا في إدارة الأزمات والوساطة أن حكومتها غير قادرة على تغيير الأمر الواقع سياسيا، وعاجزة عن دفعه إلى الأمام، في ظل تعقيدات داخلية وتقديرات متشابكة لا تمهلها فرصة للمرونة والتسوية.
ويمكن تفسيرها بأنها تنازل على حساب مجموعة إثنية تقع في نطاقها الأزمة، فإقليم الفشقة الحدودي تسيطر عليه جماعة الأمهرا المتحالفة مع الحكومة المركزية تحت قيادة آبي أحمد، وأي اعتراف بسودانيته سيؤثر على قوة هذا التحالف.
ما يجري في إثيوبيا من تفاصيل يمنع وصول أي وساطة إلى أغراضها النهائية، وهي التسوية المنطقية، ويشير رفض التجاوب والتحايل عليها إلى عدم الاستعداد لتحمل التكلفة، الأمر الذي ينطبق على أزمة تيغراي التي عجزت أي جهة خارجية عن التدخل السياسي فيها، ما دفع أديس أبابا إلى تسليط الأضواء على كل من سد النهضة وأزمة الحدود مع السودان، وصرف الأنظار عن تيغراي التي لها حسابات خاصة، تقود الوساطة فيها -ولو على سبيل المناورة- إلى خلط الكثير من الأوراق الداخلية.
*كاتب مصري