الدور التركي في الصومال استراتيجية أم ورطة؟
في كل مرة يأتي الحديث عن دور تركيا في الصومال يكون مرتبطا برغبة جديدة في التوسع ومحاولة حثيثة للهيمنة على مفاصل أمور سياسية وأمنية واقتصادية. ووظفت أنقرة توطيد علاقاتها مع قوى فاعلة في السلطة الحالية في سبيل زيادة حضورها.
تمتلك تركيا قاعدة عسكرية في الصومال، هي الأكبر في المنطقة، وتسعى إلى توظيف إعلان الولايات المتحدة عن سحب قواتها لتقوم بدور ضابط إيقاع للمنظومة الأمنية من خلال إشرافها على تدريب وتسليح عناصرها الرسمية. وأخيرا أثارت أنقرة زوبعة سياسية في مقديشو لا تخلو من إشارات دولية، بعد تواتر الحديث حول التصديق على قانون يتيح لشركات تابعة لها التنقيب عن النفط في الصومال.
تستخدم تركيا في مقارباتها حيال هذا البلد أساليب متعددة ومتشعّبة ومتوازية، لضمان الوصول إلى شرائح كبيرة في السلطة والمعارضة والمجتمع الأهلي بشتى أطيافه. وحتى العصابات المسلحة والجماعات المتطرفة لم تكن بعيدة عنها، ونسجت معها علاقات وثيقة مكنتها من القبض على زمام أمور كثيرة وأنقذتها من استهداف مصالحها.
تعلم أنقرة أن هناك جهات أخرى تتحرك في الصومال، لها أهداف تريد تحقيقها وتريد الدفاع عنها، لما ينطوي عليه هذا البلد من أهمية استراتيجية في منطقة القرن الأفريقي، وما تضمّه أراضيه ومياهه من ثروات طبيعية هائلة، لم تسعف الحرب الأهلية الطويلة مواطنيه من جني ثمارها، وربما حرصت القوى العارفة بخارطتها على ادخارها.
ينطوي التمدد التركي على رؤية استراتيجية ولم يأت صدفة، لكنه يمكن أن يتحول إلى ورطة استراتيجية أيضا مع تزايد القوى المهتمة في المنطقة، ويعد الصومال ركيزة فيها. فمن يتمكن من تثبيت أقدامه يستطيع أن يلج إلى الدول المجاورة، وتصبح إطلالته قريبة من تفاعلات كبيرة تجري على مقربة من المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.
سرّعت أنقرة تقدمها في الصومال مع الصدمة التي تلقتها بسقوط أحد أهم أعمدتها ورهاناتها بالمنطقة في أبريل 2019، وهو الرئيس السوداني عمر البشير، ما جعلها تحاول ضبط وتعديل جوانب كثيرة في خططها، حيث كانت ترى أن الخرطوم نافذة مهمة لها على قارة أفريقيا. وتسبب السقوط المدوي للبشير في خلط بعض الحسابات في البحر الأحمر وما حوله، وزاد من الاهتمام بالصومال الذي يمثل بيئة رخوة.
أغرت السيولة الشديدة في هذه البيئة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على دخول الصومال مبكرا، ودفعه ما حدث لاحقا في السودان ليضاعف من تحركاته ضمن خطة وضعها لمحاصرة المنطقة العربية والتحكم في أطرافها الحيوية.
وبدأت ملامح هذه الخطة علانية في سوريا والعراق، ثم امتدت إلى السودان والصومال وليبيا، وحوت أجندة خفية موازية تصل إلى دول أخرى، ترمي إلى امتلاك حزمة من الأوراق التي تعظّم مصالح تركيا وتحولها إلى واحدة من القوى الرئيسية.
لقي اعتماد النظام التركي على أيديولوجية إسلامية هوى لدى قوى متطرفة في الدول التي وضعت أنقرة عينيها عليها، وسهلت هذه المسألة مهمة عناصره في بلد مثل الصومال، تحول بحكم الطبيعة الجغرافية إلى ملاذ لعدد من التنظيمات المتشددة، تم نسج مصالح معها، بمحاذاة علاقات نسجت مع قيادات في السلطة المركزية.
بدت تركيا ومعها حليفتها قطر في الصومال، هما الدولتان الوحيدتان تقريبا اللتان تملكان خطوط تواصل ساخنة مع كل من الحكومة والمعارضة السياسية والعسكرية، الأمر الذي ساعد على زيادة التغلغل في مناطق مختلفة، وجعل الرؤية الاستراتيجية التي وضعت للصومال تحرز تقدما ملحوظا على بعض الأصعدة.
تفتقر القوى الإقليمية المنافسة إلى الأذرع المتشابكة التي تعمل من خلالها أنقرة، وبدت بعض القوى حريصة على تحقيق الأهداف المطلوبة فقط، في مجال أو منطقة معينة، من دون توغل حقيقي في عمق الدولة، بما يعبّر عن صورة متكاملة، لذلك تمكنت تركيا من حفر مكانة متقدمة في ربوع الصومال، وأصبح البعض من خصومها يكتفون بمطاردة وجودها لشعورهم بخطورة مشروعها.
يعج الصومال بقوى دولية متباينة، لها مصالح مباشرة وغير مباشرة، عسكرية واقتصادية وسياسية، ولم تصطدم أي منها بتركيا في الصومال ومحيطه الجغرافي الشاسع، فقد رسمت أنقرة سياستها على تجنب الدخول في مربع مزعج لها مبكرا.
وراعت جيدا مصالح هذه القوى التي لا يعنيها كثيرا حجم ما وزعته تركيا من مساعدات إنسانية على المواطنين، وما أنفقته من معونات مادية على الطبقة الحاكمة في مقديشو وبعض الولايات في الأطراف، أو حتى علاقتها مع قوى متطرفة، من نوعية حركة الشباب الصومالية، والطيف الواسع الذي خرج من رحمها وانخرط في صفوف تنظيمي القاعدة وداعش.
كل ما يهم هذه القوى، ممثلة تحديدا في الولايات المتحدة والصين وفرنسا وإيطاليا وروسيا، عدم اقتراب تركيا من الثروات المعلومة – المنسية في الصومال، وعدم الوصول إلى درجة تهدد مصالح هذه القوى في المنطقة، وبات ذلك أشبه بخطوط حمراء خرقُها يقلب الطاولة على النظام التركي، الذي يعتمد على توسيع نفوذه تدريجيا.
استغلت أنقرة ما يوصف بالتجاهل الدولي لتحركاتها، لأن تصرفاتها لم تصل إلى مستوى التهديد، برا أو بحرا، وأمعنت في زيادة التمدد، معتبرة الاستحواذ على جزء من كعكة هذا البلد يقود إلى ترسيخ أقدامها، لذلك تعتني بالتنقيب على النفط في سواحل الصومال، وتريد الوصول إلى أقصى مدى من خلال وضع يديها على مخزون اليورانيوم.
من هنا قد يتحول التدخل التركي في الصومال إلى ورطة كبرى، لأن هذه النوعية من الخامات المهمة لا تصلح معها مساومات، ولن تجدي معها طريقة توزيع أدوار اختبرتها أنقرة مع موسكو في كل من سوريا وليبيا وأذربيجان.
يمكن توقع محاسبة جادة من قبل قوى كبرى على الكثير من تدخلات تركيا السابقة والحالية، إذا حاولت توقيع ضرر جسيم بمعادلة الثروة في الصومال، واعتقدت أنها تملك الحل والعقد في بلد ترك جرحا غائرا في سمعة القوات الأميركية عندما خرجت مضطرة منذ حوالي ثلاثة عقود وفشل العملية العسكرية المعروفة بـ”استعادة الأمل”.
يستطيع الرئيس أردوغان أن يقترب من مكونات السلطة في مقديشو ويجيد اللعب معها في تطورات هامشية، ولو بامتلاك قاعدة عسكرية كبيرة، لكن عندما يقترب من مرتكزات لدى قوى كبرى في منطقة حيوية سوف يتجاوز ما ينهمر عليه فكرة اللعنات التي حدثت في شرق المتوسط ويصل إلى مستوى الطعنات المباشرة.
*كاتب مصري