فيما صار جليّا أن الشعب التونسي قد وصل إلى لحظة اليقين من أن ثورته قد سُرقت ولم يعد في الإمكان استعادتها أو تعديل مسارها من خلال عودته إلى ترديد الشعار القديم “الشعب يريد إسقاط النظام”، تستعد الطبقة السياسية الحاكمة إلى الدخول في ما يُسمى بـ”الحوار الوطني” وهو الحوار الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل وسيشرف عليه الرئيس قيس سعيد.
هناك تناقض لا مجال لإنكاره. وهو تناقض يمسّ جوهر النظام السياسي ولا علاقة له بخلافات يمكن القفز عليها من خلال تعديلات أو إصلاحات شكلية يتم من خلالها حذف أو إضافة لمسات في الخارطة السياسية القائمة التي رُسمت على أساس تقاسم السلطة بين الأحزاب. وإذا ما عرفنا أن تلك الأحزاب لم تطرح عبر سنوات تمثيلها في مجلس النواب أي مشروع اقتصادي يمكننا أن نسمح للريبة بالتسلل إلى أفكارنا في ما يتعلق بالحوار الوطني.
فمن المستبعد أن يكون الحوار بين تلك الأحزاب وطنيا، بمعنى خروجه عن نطاق دائرة الخلافات التي تشكل مسألة الحكم أساسا لها. ولو كانت تلك الأحزاب قد قدمت مصلحة الوطن التي هي مصلحة الشعب على مصالحها لما تدهورت الأوضاع المعيشية يوما بعد آخر منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي ولما ازدادت أعداد الفقراء واتسعت دائرة البطالة.
لو كانت الأحزاب قد نجحت عبر السنوات العشر الماضية في بناء نظام سياسي أفضل من نظام بن علي أو بمستواه على الأقل لما خرج الشعب وهو في حالة ضنى وإرباك واستفهام إلى الشارع مرددا شعاره الذي صار من غير معنى بسبب أن ذلك النظام الذي يطالب بسقوطه لم يُفرض عليه بالقوة بل هو مَن اختاره وصادق على وجوده.
هل أخطأ الشعب التونسي في تقدير مواهبه؟
أخطأ حين ترك ثمرة الثورة في أيدٍ لا علاقة لها بالثورة. ولكن لمَ لم ينظم الشعب الثائر نفسه لاستلام الحكم بعد سقوط نظام بن علي؟ لم تكن هناك فوضى حين قامت الثورة وحين انتصرت ولكن الفوضى بدأت في ظل حكم الترويكا الذي تزعمته حركة النهضة. كان هناك تهديد بقيام حرب أهلية وكان هناك عار الذاهبين إلى سوريا باعتبارهم مجاهدين وكانت هناك محاولات للانقضاض على صحيفة الأحوال المدنية. أما الأوضاع الاقتصادية فقد رُكنت جانبا. لم يكن هناك مَن يفكر في إعادة تنظيم الاقتصاد التونسي بما يتناسب مع ثروات تونس الحقيقية على المستويين البشري والمادي.
كانت هناك مسافةُ خطأ بين الشعب وبين الأحزاب التي سطت على الأصوات في الانتخابات ومن ثم استولت على السلطة وصار كل شيء مقيدا بما تقرره وما تجده نافعا. ولم يكن ذلك “النفع” ليدخل في مصلحة الشعب. ذلك لأن الشعب انتهى دوره وصارت الأحزاب تفكر في منافعها. لا لشيء إلا لأنها لم تنبعث من الثورة ولم تكن على صلة بالأسباب التي أدت إليها.
لقد وجدت الأحزاب المائدة جاهزة أمامها ولم يكن أمامها سوى أن تأكل.
ذلك ما كانت عليه الأحزاب الحاكمة منذ عشر سنوات وحتى اللحظة، وهي إذ تختلف في ما بينها فليس لحسابات تتعلق بمصير الشعب الذي بدا بعد كل هذا الزمن كالمضحوك عليه ولا يريد أن يصدق أنه قد ضحك على نفسه.
لم تبذل الأحزاب عبر السنوات العشر الماضية أي جهد للاقتراب من الشعب من خلال تفهّم مشكلاته ومعالجتها بطريقة جادة من أجل الوصول إلى حلول للأوضاع المعيشية التي كانت تسير نحو الأسوأ. كل الصراعات التي كانت تجري تحت قبة مجلس النواب كانت تتعلق بمشكلة الحكم التي قررت حركة النهضة أن تُدخل الجميع في متاهتها فلم يعترض أو يتعفف أحد. لا لشيء إلا لأن أحدا منهم لم يفكر بنزاهة وإنصاف بمصير الشعب.
لقد شكلت الأحزاب طبقة سياسية مترفة معزولة عن الشعب كما لو أن أحدا لم يكلفها بشيء ولا ينتظر منها أن تقوم بشيء، إلى أن وصل الصدام في ما بينها إلى مرحلة الاتهام بالإرهاب ورعايته ودعمه بحيث لم يعد جلوسها في مكان واحد ممكنا. كانت الحرب تحت قبة مجلس النواب مسلية ومشوقة.
ولكن ماذا عن الشعب؟
هناك تناقض لا مجال لإنكاره. وهو تناقض يمسّ جوهر النظام السياسي ولا علاقة له بخلافات يمكن القفز عليها من خلال تعديلات أو إصلاحات شكلية
كان الشعب مستبعَدا من المعادلات السياسية كلها.
هناك شيء غريب يحدث في تونس. فالدعوة إلى “حوار وطني” إنما تجري باعتبارها مصالحة بين الأحزاب وليس على أساس العودة إلى أهداف الثورة ومراجعة أوضاع الشعب واستعراض الأخطاء التي ارتكبتها الأحزاب في حق الثورة والشعب.
كان من الطبيعي والمعقول أن يُعقد حوار بين الأحزاب والشعب، أما أن تتحاور الأحزاب في ما بينها فإن ذلك يعد تونس بسنوات عشر أخرى مظلمة.
*كاتب عراقي