من بين عواصم القرن الأفريقي تبدو أديس أبابا الأقرب تفهماً للنفسية والعقلية السودانية والعكس صحيح ويعود ذلك لأسباب تاريخية تركت أثارها عمقاً لا يعرف مداه من قضى دهراً يتخبط في أمجاد الماضي ويحاول عبثاً الوصول بعد ضياع الإتجاهات، نعم أديس أبابا تبدو الأقرب للنفسية والعقلية السودانية وبما تعانيه من غبن وحنق قديم جاء نتيجة لأمران لا ثالث لهما:
الأمر الأول: خسارة السودان لمدينة حلفا القديمة التي ضمت أعظم حضارات العالم بعد أن تم إغراقها لبناء السد العالي وتهجير أهالي حلفا عام 1964 مما تسبب بفقدان هوية شعب بأكمله.
الأمر الثاني: إعتزاز السودان بالهوية العربية واجهه نكران عربي صريح كان ذلك النكران كفيلاً بإنكفاء السودان على نفسه عقوداً طويلة رسخت فيه تلك المرحلة الكثير من المكونات النفسية الدفينة التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ولكن يمكن الوصول إليها والشعور بها في عيون أهلها، هذا ما وجدته أمامي طيلة إقامتى الممتدة في السودان وهذا ما تضعه أثيوبيا أمامها عند تعاملها مع الملفات السودانية وهو ذاته ما يحكم جزء من أبعاد العلاقات السودانية الأثيوبية التي تمثل لنا كخليجيون نقطة نبتدي بها مع تلك الأطراف وصولاً لمرحلة تحول مستقبلي نطمح أن نكون جزء منه.
جاء تصاعد الإحتقان السوداني الأثيوبي مؤخراً متوازياً مع تصاعد التصريحات الرسمية بين ممثلي البلدين في العواصم العربية والأجنبية، إلا أن تلك التصريحات لم تجد لها صدى شعبي في ( أديس أبابا، الخرطوم) فلم نشهد تعبئة شعبية وحملات إلكترونية وبرامج تلفزيونية كالتي شهدناها أبان الأزمة الخليجية مثلاً وهذا بحد ذاته يحمل دلاله إيجابية لا يُدركها إلا من أدرك أبعاد تلك العلاقات بين الدولتين، فأثيوبيا تُدرك أن ما يحدث في الداخل السوداني من تطورات هو مرتبط بما إنعكس على علاقتها بالخرطوم، ومثلما تدرك أديس أبابا أن كل ما يحدث اليوم من توتر حدودها مع السودان هو طارىء ومؤقت فهي حتماً تُدرك أن الخرطوم لن تجد مُناصراً “حقيقياً” لها في معظم الملفات كأثيوبيا ومن الوعي والذكاء عدم خسارتها، خاصة أن هناك شعور سوداني عام لا يرى في إثيوبيا خصماً حتى وإن حاول البعض الترويج لذلك وهذا ما يُطمئن أديس أبابا التي تعي تماماً أن السودان ليس راغباً في الصدام معها ولا يطمح إليه ولا يريد الإستمرار فيه، ولكنها التقاطعات التي وجدت في بعض رجال السودان مرتعاً تحيا فيه فأخذوا يطبقونها يمنة ويسره وكأنهم من وضعها ولم تفرض عليهم والمؤلم أنها بلا مقابل سيجنوه.
بنجاح رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في دحر التمرد في إقليم التيقراي بدت أديس أبابا أكثر ثباتاً من ذي قبل وأكثر إقناعاً للقوى الدولية، فإدارة الرئيس جو بايدن رغم إستنكارها للتجاوزات التي إرتكبها الجيش الأثيوبي في إقليم التيقراي إلا أنها أيقنت دون تصريح أن إعتمادها على قيادة أثيوبية شابة قادرة على ضبط التوازنات في إقليمها وإعادة الهدوء لعمقها يستحق الإشادة ولو حتى ضمناً، وهذا ما أذعر أطرافاً ترى في الصعود الإثيوبي تمادياً قد تفقد على أثره أذرعاً كانت تساهم في تأجيج تمردها فكان لابد من العمل على عودة التوتر للداخل الإثيوبي ولكن هذه المره مع السودان العائدة بقوة للمجتمع الدولي.
ما يطمئن أديس أبابا اليوم أن الإدارة الأمريكية الجديدة تمتاز بالمرونة إلا أن هناك من يُراهن أن تعيين يوهنس إبراهام الأمريكي من أصل أثيوبي (عرقية التيقراي) في إدارة الرئيس جوبايدن في منصب السكرتير التنفيذي لمجلس الأمن القومي الأمريكي قد يؤثرعلى موقف الإدارة الأمريكية تجاه النظام الأثيوبي إلا إني لا أرى ذلك وارداً، فإدارة الرئيس جوبايدن ترغب بمواصلة ما بدأته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ولا ننسى أن قانون النمو والفرص في أفريقيا ( أغوا) بدأ كبادرة من الحزب الديموقراطي عام 2000 لمساعدة إقتصاديات أفريقيا جنوب الصحراء وشهد ذلك القانون تفعيلاً متطوراً في عهد الرئيس باراك أوباما، وبالتالي سيكون ذلك هو هدف الإدارة الأمريكية الجديدة التي تطمح لدور مختلف في منطقة القرن الأفريقي والسودان، فعودة السفارة الأمريكية بكامل طاقمها إلى مقديشو بعد ثلاثون عاماً من القطيعه، ورفع العقوبات عن السودان، والتطبيع مع إسرائيل كل تلك التغيرات كفيله بولادة إستراتيجية مختلفة ستشهدها منطقة القرن الأفريقي.
ولكن ماذا لو حدثت مواجهة عسكرية بين أديس أبابا والخرطوم؟ كيف ستنظر دول القرن الأفريقي لتلك الممواجهة؟
جمهورية الصومال الفيدرالية: ستلتزم مقديشو الحياد وستطالب بضبط النفس ولكن من المؤكد أن مقديشو في قرارة نفسها تميل لكفة الخرطوم، فمن المعروف أن هناك حنق صومالي قديم تجاه أديس أبابا مهما حاولت مقديشو إخفائه، صحيح أن إدارة الرئيس محمد فرماجو حاولت تجاوز ذلك ونجحت إلى حد ما في ايجاد تقارب مع حكومة أبي أحمد إلا أنها قطعاً لم تنسى الدور الإثيوبي الذي أنهك الصومال وأوصلها إلى ما هي عليه اليوم، ناهيك عن الدعم الأثيوبي لكينيا، فأديس أبابا ونيروبي يشتركان في إحتلال الأقاليم الصومالية (أوغادين، وأنفدي) وبالتالي لا غرابة في تبنيهم لوجهات نظرمتقاربة، وإنضم إليهم “إقليم صومالاند” الطامح للإستقلال عن جمهورية الصومال الفيدرالية، وتستخدم نيروبي وأديس أبابا هذا الاقليم لقض مضجع مقديشو ويبقى السؤال هنا إلى متى؟
ما يُثير دهشتي في الحقيقة هو رؤية أديس أبابا للملف الصومالي، أيُعقل أن دولة بحجم أثيوبيا لا تُدرك أن الصومال بات اليوم وجهه دولية وتعمل الإدارة الأمريكية على إعطائه مساحة كبرى مُستقبلاً؟ ألا ترى أديس أبابا هذه التحركات الدولية والإقليمية تجاه الصومال الذي أصبح قبلة لكل من يحمل رؤية إستراتيجية واعية لا ترتكز على المال بمقدار ما ترتكز على أبجديات العمل الجماعي لكسب الشعب الصومالي قبل قيادته؟ أيُعقل أن القيادة الأثيوبية بعد كل ما مر بها من محطات وإنزلاقات ونجاحات وإخفاقات سياسية وأمنية وإستخباراتية ما زالت تُراهن على أن إستفزاز الصومال ما زال سهلاً بتحريك ورقة الأقاليم؟
جمهورية جيبوتي : أرى أن جيبوتي حتى وإن تغيرت رؤيتها لبعض الملفات إلا أنها ستبقى الحليف المؤتمن لأثيوبيا، وتعلم جيبوتي أن ما تمر به أثيوبيا والسودان سينتهي بدون أن تبدي هي موقفاً مُلزماً تجاه ما يحدث أو سيحدث مستقبلاً.
دولة أرتريا : يُدرك أسياس أفورقي أن طموح رئيس الوزراء الأثيوبي الشاب أبي أحمد يتجاوز القضاء على التمرد في إقليم التيقراي، فأبي أحمد يرى بأنه بات مُمثلاً لمستقبل أثيوبيا القادم وحامل راية نهضتها، وبالتالي لا بد له من محطات وصولات تُحفر في ذاكرة الشعب الأثيوبي، وهذا ما لن يسمح به أسياس أفورقي الذي يتعاون مع الجميع لإسقاطهم خاصة أن أسياس سيجد من يقف معه للمضي قدماً في التخلص من شاب قد يقتله طموحه أو هكذا يُنظر إليه وفي نفس الوقت يستغل أسياس تلك الأوضاع لخنق رفاق غريمه السابق (عمر البشير) فأسياس أفورقي رغم عدائه القديم للسودان وللرئيس السابق عمر البشير إلا أنه يُدرك أن من يقود المشهد في السودان اليوم هم رجال البشير ومنهم من هو مخلص له مهما حدث، وبالتالي التعاون بين أسمره والخرطوم لا أراه مركزي بل هو تعاون شكلي أقتضته الظروف الحالية وسيبقى كذلك إلا في حالة إختفاء أسياس أفورقي من المشهد.
الإحتقان المُتصاعد بين السودان وأثيوبيا لن يتطور لمواجهة عسكرية كما يتمناها البعض أو يخطط لها أو حتى يترقبها، ولكن نشوبها قد يمنح أوسمه وتقدماً يحتاجها من يسعى لحكم السودان مستقبلاً، إلا أن الشارع السوداني واعي لحقيقة واحدة مفادها أن الساعي لحكم السودان لن يُحقق ثقلاً سياسياً يؤهله للحكم مُستقبلاً إلا بإسترداد حلايب وشلاتين وما دون ذلك محض هُراء، خاصة أن منطقة الفشقة رغم عدم إختلافنا في سودانيتها إلا أن الخرطوم مثلما تُدرك أنها لم تستردها إلا بعد تداعي الأوضاع الأمنية في الحدود السودانية الأثيوبية وما صاحبها من إضطرابات تمثلت في النزوح الجماعي لشرق السودان فهي أيضاً تدرك أن هناك فرقاً كبيراً بين أراضي سودانية وافقت القيادات السودانية السابقة على إعطائها طواعية لطرف ما لوقت محدد، وبين أراضي سودانية تم إحتلالها عنوة لفرض أمر واقع نتيجة لصدام سياسي، ويبقى السؤال هنا لو لم يتمرد إقليم التيقراي الأثيوبي هل كانت ستعود الفشقة لأحضان الوطن الأم؟ أم أن عودتها ستكون مرتبطة بطاولة حوار بين أديس والخرطوم يطول فيها الشرح كما سيطول فيها الإنتظار؟
يدرك رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان أنه في وضع لابد أن يفرض نفسه على الواقع السوداني بعد صعود نجم “محمد حمدان دقلو” المُلقب بــ “حميدتي” الذي قلنا في مقال سابق حمل عنوان ( السودان بين الإمتثال والتراجع ) وتم نشره في يونيو 2019 بأن التنافس بين البرهان وحميدتي سيأخذ شكلاً مُختلفاً خاصة أن “حميدتي” لن يكتفي بإزاحة البرهان ولن يتوانى في إزاحة الجميع فتعطشه للسلطة لن يتوقف حتى بعد تخطيه لعتبة القصر الجمهوري.
*باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي