سلطت أزمة الحدود مع إثيوبيا الأضواء على دور المؤسسة العسكرية في السودان، حيث وجد فيها قادة الجيش فرصة لاستعادة بريقهم في الفضاء العام، من خلال استعادة السيطرة على الأراضي التي وضعت قوات إثيوبية يديها عليها منذ عقود مضت، ولم يفلح نظام الرئيس السابق عمر البشير في استردادها بالقوة أو اللين.
بحث المكوّن العسكري في مجلس السيادة السوداني عن أدوات تمكنه من تمتين حضوره في المشهد السياسي، ولاحظ أن غالبية الأبواب الداخلية موصدة أمامه، فقد سئم السودانيون تحكم الجيش في مفاتيح السلطة، لأن النتائج التي أفضت إليها فترة حكم البشير كانت سلبية بما يكفي لعدم تكرارها.
لم يشفع انحياز قادة الجيش إلى الثورة في إقناع المواطنين بتدوير الحكم لصالح جنرال جديد، لكنهم تيقنوا أن عهد الانقلابات العسكرية انتهى في السودان والمنطقة، وقبلوا بالمشاركة في ترتيبات سياسية تقود إلى حصر دور الجيش في مهامه التقليدية، دون أن يخلو الأمر على مدار عام ونصف من مناوشات متفاوتة مع المكوّن المدني.
أصبحت الحيوية لدى غالبية القوى السودانية أحد عناصر تفوق الجيش، وليس العكس، حيث أدّى النشاط الكبير والطموح الزائد إلى ظهور تناقضات، أكدت أن الجسم المدني يعاني من شروخ عديدة سوف تؤثر على فرص نجاحه في قيادة السلطة لاحقا.
استثمر الجيش إخفاقات القوى السياسية في الالتفاف حول أجندة موحدة، واستفاد من التراشقات التي نشبت بين قادته، وبدأ يتسلل إلى عمق الحياة العامة، وينخرط في متابعة تطورات مختلفة، وحرص على التوغل برفق في الشق الداخلي خوفا من مواجهة مشكلات تعرقل مهمته، لأن الأزمات التي يمرّ بها السودان عميقة، وأي اقتراب واسع منها قد يفضح قصورا في آليات التعامل معها.
ترك رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، هامشا كبيرا للحكومة برئاسة عبدالله حمدوك للتعاطي مع الأزمات اليومية، وهي متشابكة وعصيّة على الحل في مجملها، كي يصبح الجسم المدني رأس الحربة التي تتلقى الضربات وتمتصّ المشكلات، وبالتالي تتحمل مسؤوليتها وليس الجسم العسكري.
ركز البرهان على التدخل في القضايا القومية التي تظهر تماسك الجيش وتأثيره الكبير، كمؤسسة تمثل صمام الأمان للحفاظ على وحدة دولة تعاني من تفكك في الهامش والأطراف، ويحتاج ذلك إلى حنكة وقوة، وقدرة على تهيئة الأجواء لعلاقات جيدة مع دول الجوار، وانفتاح على العالم.
أمسك رئيس مجلس السيادة بمفاصل بعض التطورات الخارجية، وبدأ خطوة التطبيع بلقاء عقده مع رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو في عنتيبي منذ نحو عام، وقاد رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب الأميركية، وأعاد تصويب المسارات مع مصر.
كل هذه التحركات لم تحظ بإجماع كبير، فهناك انقسام حول ملف التطبيع وتبعاته، ومخاوف من الحصانة القانونية المنقوصة مع الولايات المتحدة، وهواجس بشأن التطور الحاصل مع القاهرة، وبدا البرهان في النهاية كمن يحرث في البحر، فهذه التوجهات لن تضمن له الحصول على التفاف وطني يتقدم به إلى الصف السياسي مستقبلا.
في ظل انتهاء زمن الفرمانات العسكرية، أصبح البرهان بين خيارين، إمّا القبول بتسليم السلطة للشق المدني في الموعد الذي رسمته الوثيقة الدستورية للمرحلة الانتقالية، وإمّا البحث عن طريق آمن يظهر أهميته للدولة، وصعوبة التخلي عن دور الجيش في الفضاء العام.
بدت تكلفة الخيار الأول صعبة على قيادة الجيش وباهظة، مع التشرذم الذي تعاني منه قوى سياسية مختلفة، وتصاعد حدة الأزمات التي تعاني منها الدولة، وأبرزها السيولة المنتشرة في غالبية الأقاليم، ما يستوجب قبضة حاسمة تعيد الأمن والاستقرار، وليس قبضة رخوة تؤدي إلى المزيد من التدهور والانهيار.
وبدا الخيار الثاني غير مستبعد، مع الحفاوة التي وجدها البرهان من قوى إقليمية ودولية تريد أن يكون السودان متماسكا، وبعيدا عن المنهج الديمقراطي وما يمثله من انعكاسات كنموذج على دول مجاورة، أو خطورة على مستوى التداعيات القاتمة لفائض الحريات السياسية.
ورغم أن الجيش استفاد من الدروس السابقة وأعلن زهده في السلطة، غير أن التحركات التي قام بها مضت في طريق آخر، ما أثار قلق قوى مدنية متعددة، خشية أن تقفز المؤسسة العسكرية على الحكم وتسقط السلطة في حجرها بارتياح، وقد تعرضت لانتقادات فرضت عليها العزوف عن الاشتباك في تفاصيل الكثير من التطورات الداخلية، إلا عند اللزوم.
رسخ في يقين قيادة الجيش أن العودة إلى السلطة لن تأتي بالطرق المباشرة، ومن الواجب أن يكون هناك مشروع وطني يضمن تأييدا واسعا لها، لذلك قرأ المكوّن العسكري جيدا تفجر الأزمة الحدودية مع إثيوبيا، ووجد فيها مواصفات كاملة لهذا المشروع، وأضحت البيئة مهيّأة ليظهر الجيش قوته الخارجية، في قضية تمسّ وترا حساسا في وجدان قطاع كبير من المواطنين.
قدم البرهان نموذجا عكسيا للبشير، حيث فرط الثاني في جزء غال من أراضي السودان، ومهد الطريق لانفصال جنوبه، بينما استردّ الأول أرضا ظلت مسلوبة لسنوات طويلة، الأمر الذي وفر له التفافا شعبيا وسياسيا كبيرا، لا أحد من القوى المدنية يعارض فيه أو يناكف عليه.
تفسّر هذه المسألة جانبا مهمّا من الصرامة التي ظهر عليها خطاب البرهان في أكثر من مناسبة خلال الأيام الماضية، فقد استرد أرضا كانت منهوبة ولم يقم بالعدوان على أحد، وأي مفاوضات مع أديس أبابا تبدأ من هذه النقطة، ويمنحه الحسم العسكري شعبية مضاعفة داخليا وخارجيا، فهو في النهاية يدافع عن سلامة بلاده.
يوفر النصر المادي في أزمة الحدود، شرعية سياسية مناسبة لرئيس مجلس السيادة، ويقلل من اتهامه بالسعي إلى الاستحواذ على السلطة ويطيل عمر جلوسه على مقعده الحالي، وتحجيم المطالبات بخروجه عقب انقضاء النصف الأول من الفترة الانتقالية.
تجاوز البرهان فخ البشير في التفريط في الأرض والقفز على السلطة بالانقلاب العسكري، وغيرهما من العوامل التي أدّت إلى رفضه في الوجدان العام، وقد يصبح هو رجل الضرورة، في ظل العواصف السياسية التي تمرّ على البلاد في الداخل والخارج، ويتم اختياره مباشرة من الشعب في أول انتخابات رئاسية.
بالتأكيد لن تمرّ هندسة المشهد بهذه الطريقة بسلام، فالعافية التي تتمتع بها بعض القوى السياسية ربما تمكنها مبكرا من تفويت الفرصة على هذا السيناريو، لكن تظل احتمالات تمريره قابلة للتحقق وسط ما ينخرها من انقسامات.
كما أن شرعية النصر مؤثرة، وطريقة الصعود إلى السلطة سوف تأتي عبر صندوق الانتخابات، ما يقلل من أي تحفظات دولية حول تولي جنرال حكم السودان مرّة أخرى.
*كاتب مصري