السقاء مهنة لا تزال رائجة في “هرجيسا” الصومالية
تغيب شبكات المياه عن كثير من البيوت مما يضطر سكانها إلى اللجوء لهذه الخدمة التي لاتزال تعتمد بشكل كبير على الحمير
الصومال اليوم – محمود محمد عبدي
مهنة “السقاء” مهنة قديمة قدم المدنية في بلاد الصومال، تزداد الحاجة إليها مع اتساع المدن، بخاصة حين يفوق قدرة المؤسسات الحكومية المعنية، في مد شبكات المياه بالشكل الذي يستجيب لذلك النمو.
ويقول الباحث بـ “مركز هرجيسا للدراسات والبحوث”، زكريا آدم يوسف، في معرض حديثه عن أهمية السقاء بالنسبة إلى حياة السكان في مدينة هرجيسا، “السقاء والخباز أهم عنصرين في المدينة، إذ يجعلان الحياة فيها يسيرة وممكنة، خصوصاً في حال مدينة هرجيسا التي يكاد يبلغ سكانها مليوناً ونصف المليون، يفتقد أكثر من 70 في المئة منهم دخول شبكة المياه إلى منازلهم. لكن تلك الخدمة تترافق معها تكاليف إضافية على الأسر الفقيرة، ما يضيف أعباء كان من الممكن تجاوزها لو أنجزت شبكات المياه التي طال انتظارها”.
ويفسر محمد علي عبدالله، أحد سقائي الأحياء، ارتفاع كلفة الخدمة التي يقدمونها بالقول، “علينا أن ننتبه إلى أن ما نقوم به ليس عملاً سهلاً، ففي كل مرة نقوم بتفريغ برميل أو برميلين للمنزل الواحد. هذا يشكل عبئاً جسدياً كبيراً، خصوصاً على مفاصلنا، لذا لا يطول الزمن بمن يمتهنون هذه المهنة لتصيبهم إعاقات حركية. ثم هناك تكاليف الدابة أو العربة التي نستخدمها للعمل، والعناية بالأجزاء الميكانيكية وصيانتها، والاعتناء بالصهريج ونظافته، واستبدال كل جزء من أدوات العمل بين الفترة والأخرى، ولكل ذلك كلفته اليومية والإجمالية”.
وأضاف عبدالله، “نحن نعمل يوماً ونتوقف في آخر، بسبب انقطاع الماء عن نقطة المأخذ، وليستطيع الواحد منا تأمين قوت عياله يحتاج إلى توفير الماء لـ 30 بيتاً في اليوم على الأقل، وهذا يفرض علينا الدخول في دور تعبئة الخزان الأول في الثالثة فجراً، ولا نأخذ قسطاً من الراحة حتى الخامسة مساء. عملنا صعب، لذا لا تجد إقبالاً عليه، والحاجة إلينا لا تزال أكبر من قدرتنا على الاستجابة في معظم الأيام”.
لربات المنازل وجهة نظر
تقول بهجة محمود موسى، ربة منزل وأم لطفلين، إن “المرأة منا تفضل دائماً منزلاً متصلاً بشبكة المياه، لتجنب دخول رجل غريب إليه، وارتفاع تكاليف المياه بهذه الطريقة”.
وتضيف جارتها أسماء حسن محمد، “صحيح أن الخدمة التي يقوم بها السقاؤون مهمة جداً، وتحمل عبئاً كبيراً عنا، في مجتمع كان فيه جلب المياه واجباً نسائياً يقصم الظهر، إلا أن ذلك لا يعني أن الأمر يخلو من المتاعب، منها اتساخ الممرات وبراميل الماء بالطين الذي تحمله أحذية السقاء، ناهيك عن أن أسرتي تنفق 50 دولاراً شهرياً على شراء الماء منهم، أي عُشر راتب زوجي، وهذا خمسة أضعاف ما يمكن أن ننفقه لو أن شبكة المياه متاحة”.
وتستدرك موسى، “الكلفة عالية جداً، لكن بالنظر إلى ثمن مد الشبكة إلى المنزل، والبالغة 2000 دولار أميركي، في حال توفر خط فرعي قريب، أظن أننا مضطرون لتحمل كل ذلك على المدى المنظور”.
ويضيف علي، طالباً عدم الإفصاح عن اسمه الكامل نظراً لكونه موظفاً حكومياً ويشرف على أحد “مآخذ المياه”، “أعمل في مصلحة المياه، حيث أقضي أول النهار في مكتبي وأتلقى راتباً لا يكاد يسد الرمق، وأتحمل مسؤولية مأخذ المياه هذا في المساء، في حين تشرف زوجتي وأبنائي عليه في فترة غيابي. وفي الواقع نتقيد بتسعيرة مصلحة المياه وقيمتها 2000 شلن للـ “فوستو”، أي برميل الـ 200 لتر (الدولار يساوي 8500 شلن)، منها 1500 عن البرميل للدولة، و500 هي لقاء عملنا على تنظيم عمل السقائين في الحي، وضمان سداد فاتورة المياه للدولة”.
وعند سؤاله عن جدوى تلقيه هذا المبلغ الرمزي، أجاب، “بالتأكيد مبلغ 500 شلن شيء لا يذكر في مقابل 15 ألفاً يتلقاها السقاؤون للكمية نفسها من المياه، لكنها تساعد كثيراً في تأمين حاجات أسرتي الكبيرة”.
الحمير عماد العمل
منذ عقود، بقيت الحمير الوسيلة الرئيسة لنقل خزانات المياه ذات الـ 200 لتر، والمعروفة باسم “فوستو”، لتفريغ محتوياتها في البراميل المنزلية المماثلة لها في السعة.
ويقول السقاء حسن محمد جامع، “هذه المخلوقات الصبورة وقليلة التطلب تقوم بجهد كبير في نقل المياه، بخاصة عبر تلال المدينة ومرتفعاتها، كما أنها لا تحتاج لكثير من العناية أو العلف المميز، إنما تظهر عناية صاحبها بها جلية إن اعتنى بها، ويتعرض لكثير من العتب واللوم إن بدا رفيقه في العمل هزيلاً أو متعباً أو غير نظيف”.
ويضيف، في سياق الحديث عن الاهتمام بسلامة الحمير، “في مجتمعنا هذا، وعلى كل مستوى، لا نتردد في توجيه النصح أو العتب لمن يسيء للحيوانات، وعلى رأسها الحمار. فقد صدر قرار حكومي منذ عقدين، بعدم حمل أكثر من برميل “فوستو” واحد على الحمار في المرة الواحدة، وفي الماضي كان هناك من يدفعه الجشع الى تحميله برميلين، فتخيل صعود هذا المخلوق المسكين إلى أعلى تلة وهو يجر 400 كيلوغرام من الماء، وفوق ذلك العربة والبراميل”.
ويدلي السقاء محمد بدلوه، مشيراً إلى عربته ثلاثية العجلات، “لقد بدأنا نستبدل هذا المخلوق الطيب بعربات ذات محرك كهذه، فعلى الرغم من فارق الكلفة بين حمار جيد لا تزيد قيمته عن 150، وهذه العربة التي تكلفنا على الأقل 2500 دولار، فإننا نستطيع أن نحمل عليها ضعف الكمية، ونوصل الماء إلى عدد أكبر من المنازل، فيقل تذمر الزبائن وتزداد حصيلتنا اليومية أيضاً”.
مستقبل المهنة
في ظل التركيز الحكومي على إظهار التقدم الحاصل في مد شبكة المياه إلى الأحياء العطشى، يطرح التساؤل حول مستقبل قطاع السقائين، وتأثير شبكة المياه عليهم من جهة، وعلى بقية المجتمع من جهة أخرى.
ولدى سؤال محمد، قال مبتسماً، “كما سبق وأخبرتك أن مهنتنا مرهقة جداً، ومعظم السقائين حولي تجاوزوا الـ 50 من العمر، ولم يعد بعيداً وقت اضطرارنا للتقاعد والتوقف عن العمل، وأظن أننا لن نعدم إيجاد وسيلة أخرى لكسب الرزق، فربنا الذي هدانا لهذه المهنة حي وكريم، ولن نشعر بالضرر من وصول المياه النظيفة والرخيصة للناس، فنحن لسنا كالأثرياء وعلية القوم الذي اعتادوا كسب آلاف الدولارات من خلال شاحنات الصهاريج التي تسقي أطراف المدينة”.
ويضيف السقاء حسن، “بطبيعة الحال يعزف الشباب عن العمل في هذه المهنة، ويفضلون أعمالاً أقل عناء، أو مهناً لا تحتاج لكل هذا الالتزام أو الاستثمار، أو حرفاً تحقق لهم مزيداً من الخبرات والتقدم كالمقاولات، لذا لا أظنُ أن لمهنتنا مستقبلاً. في القريب العاجل، سنصبح ذكرى ونرجو أن تكون طيبة”.
* كاتب وصحفي صومالي