محمود محمد حسن عبدي
في أقصى الشمال الشرقي لـ “صوماليلاند”، قرب الحدود مع ولاية بونت، وخلال السنوات الأربع الماضية، شهدت القرى والوديان الواقعة عند السفوح الشمالية لجبال “دالو” حركة شديدة للمنقبين عن الذهب، لتضاف تلك الأعمال إلى قائمة ميزات المنطقة التي تتمتع بطبيعة أخاذة ومواقع تاريخية غاية في الأهمية. فعلى مدى أربع سنوات، أصبحت قبلة للمنقبّين والمغامرين والشركات المحلية لاستخراج الذهب السطحي.
20 ألف منقّب
لدى دخولك إلى بلدة “عرشيدا” إحدى أهم المناطق التي عايشت وتعايش حمّى الذهب في محافظة سناغ، يستقبلك الوادي الذي تقع القرية خلفه، بمشهد عشرات آلاف عبوات المياه البلاستيكية التي عجزت السيول عن تحريكها، صانعة بركة من المياه الآسنة التي تزكم رائحتها الأنوف.
منظر تلك العبوات المتراكمة أسفل الوادي بتلك الأعداد، لا يتوافق أبداً مع حجم القرية وعدد سكانها البسيط، ومظاهر الحياة التقليدية التي تصادفها في أزقتها، لكنها تدلّ على حضور آلاف المغامرين الراغبين في الثراء، حاملين معهم مؤنهم، ومنها عبوات المياه، التي بقيت فوارغها الدليل الأول على مرورهم من هناك.
ويقول الزعيم القبلي حسين محمد شيوال، “هذا المكان اسمه عرشيدا”، هي قرية قديمة، مسكونة لقرون، ومنذ أربع سنوات تم اكتشاف الذهب فيها، كان السكان في السابق يبحثون عن الأحجار الكريمة، ولم يكونوا ينقبون عن الذهب في تلك الفترة، انتقل إلى القرية كثير من الناس، فالأصل كانت عرشيدا قرية صغيرة، يمتهن سكانها التجارة، وكانت تأتيها البضائع في صناديق. كانت قرية بسيطة، إنما قبل أربع سنوات، توافد إليها كثيرون جاؤوا من كل مناطق البلد، وكذلك أتوا من الخارج، ومن كل الأنحاء توافدوا. هناك 15 ألفاً إلى 20 ألفاً أصبحوا في هذه البقعة، كانوا ينقبون عن الذهب، فمنهم من وجد مطلبه ومنهم من لم يجده، كانوا يحملون أجهزة الكشف عن المعادن، وبعضهم حالفه الحظ. تغيرت الحياة في المنطقة، فكما هو معلوم حين يفتح الله نعمه على الناس، بعضهم ينتفع بها ويزداد ثراء ويغنى ويتنعم، في حين أن البعض الآخر لا يزيده ذلك شيئاً، سوى ما يشترك به مع الناس. وكما تلاحظون فالقرية أصبحت بلدة كبيرة، لقد كانت أصغر من هذا بكثير”.
احتياطات الذهب واعدة
ولدى الاستفسار عن التوقعات حول إنتاج الذهب في البلاد، أكد عبدالرزاق حسن نوح مدير إحدى شركات الخدمات الهندسية والتنقيب في مدينة “هرجيسا”، وجود احتياطات كبيرة من الذهب ومعادن مهمة أخرى. يقول، “تعد صوماليلاند إحدى المناطق الأكثر ثراء بالمعادن المختلفة، إذ يمر فيها حزام موزمبيق الذي يمر بعدد من البلدان الأفريقية والآسيوية، وكلها بلدان معروفة بوفرة إنتاجها من الخامات المعدنية”.
ويضيف، “في مناطق كثيرة من صوماليلاند مثل عبدالقادر وأربسيو وبكي ومحافظة سناغ، وناحية تابعة لها اسمها سورد وتتبعها قرية عرشيدا، يوجد الذهب وتم استخراجه بكميات كبيرة، وتحديداً في عرشيدا حيث يسهل استخراج الذهب، وجمع قطع الذهب المعروفة بالـ “Gold Nuggets” ودرجة نقائها ما بين 85 و 95 في المئة، فإن كان من السهل الحصول على الذهب فوق سطح الأرض وبدرجة 21 قراطاً إلى 23 قيراطاً، فإنه يمكننا التنبؤ ومن دون إجراء بحث علمي دقيق، بوجود تباشير جيدة تستحق التفاؤل بوجود الذهب بكميات كبيرة في صوماليلاند، وتحديداً المناطق التي أشرت إليها آنفاً”.
ويشير خبير التنقيب السوداني، يحيى آدم حسن، الذي عمل في مجال التنقيب عن الذهب في كل من السودان والنيجر ومالي وموريتانيا إلى وجود إمكانات كبيرة لاستخراج الذهب من مناطق عدة في البلاد، ومن خلال مشاهداته فإنه يعتبر أعمال التنقيب الحالية غير كافية للتعامل مع الكميات الممكن استخراجها، “لقد سبق لي العمل في محيط قرية عرشيدا، وبدأنا العمل في وقت متأخر نسبياً بالشراكة مع أحد أبناء المنطقة، لقد كان العمل مجدياً والعوائد طيبة، إنما ما لا يمكن تجاهله هو أن معظم العمل يجري على الذهب السطحي، فمياه الأمطار والسيول نقلته إلى المنخفضات والوديان، لذا فإنني وكثير من العاملين في المجال متأكدون من وجود كميات اقتصادية من الذهب في المنطقة، فعروق الذهب واضحة، ويمكننا من خلال خبرتنا تتبعها، لكن ذلك يعني الحفر في الجبال والصخور الكبيرة في المنطقة، والإمكانات المتوفرة حالياً لا تتوافق مع حجم العمل المطلوب، وحين تستثمر نصف مليون دولار في منطقة مثل “عرشيدا”، يمكنني أن أضع تقديراً متواضعاً وأدعي أنه يمكن استخراج ما مقداره 5 ملايين دولار من الذهب خلال ستة أشهر، هذه المنطقة وغيرها في صوماليلاند واعدة إلى تلك الدرجة”.
قلة التمويل وضعف الإمكانات لا يقللان الكميات المستخرجة
ويشير الباحث الجيولوجي الكيني المقيم في هرجيسا، تشارلز ساي ميهايو، إلى وجود ضعف في الإمكانات ناتج من التنقيب الفردي والتقليدي، الذي يسود أعمال إنتاج الذهب في البلاد، يقول، “المنقبون الحرفيون الأفراد يستخدمون أجهزة الكشف عن المعادن البسيطة أثناء العمل لتصدر تنبيهاً، حينها يدرك المنقب أن هناك شيئاً، لذا يتم الحفر والتقاط المواد التي يريدونها مثل الذهب، ولأن المنقبين يستخدمونها بتلك الطريقة فهم يعتبرونها أجهزة كشف عن الذهب، لكن في الحقيقة هي مجرد أجهزة كشف عن المعادن، وعليه فالمنقبون يستخدمون أجهزة كشف المعادن في البحث عن الذهب، لأنها أرخص لهم، إذ لا يمتلكون أجهزة قادرة على العمل بعمق، أجهزتهم للرصد السطحي فقط”.
وعند سؤاله عن الأجهزة الأكثر رواجاً لدى المنقبين، يجيب، “يستخدم جهاز (GPX 5000) الذي يصل إلى عمق لا يتجاوز متراً أو متراً ونصف المتر، وهو أكثر الأجهزة المتداولة كجهاز كشف عن المعادن.
وهناك أجهزة أخرى، لكن هذا هو الأكثر استخداماً في العادة، فما يقوم به المنقبون هو رصد الذهب باستخدام هذا الجهاز، وبعد قيامهم بالحفر، يقومون بالتعمق في الحفر أكثر، ويهبطون أعمق، وهذا يستهلك وقتاً أطول، فمن الأفضل أن يستخدموا طرقاً أخرى أرقى من حيث التقنية، مثل فحص عينات التربة ووسائل الكشف الأخرى، لذا فالعمل في نظرهم صعب بسبب قلة التمويل والاستثمار في آلات أكبر”.
ولدى سؤال المنقب أحمد محمد سعيد عن كميات الذهب التي تم استخراجها أجاب، “يوجد رجال حصلوا على قرابة 200 كيلو غرام، وهناك من حصل على ما هو أكثر أو أقل، وبعدما حصلوا على أثمان الذهب جاؤوا إلى مدينة عيرقابو، فاشتروا بيوتاً وسيارات وافتتحوا تجارات وأعمالاً”. وحين سألناه عن أكبر حصيلة تم جنيها في يوم واحد، ابتسم قائلاً، “كنا ننقب على هيئة فرق عمل، وأذكر أنه في العام 2018، حصلت إحدى الفرق التي كانت تعمل بجوارنا في موقع سبق التنقيب فيه على كمية لا بأس بها، حيث قامت باستخراج 11 كيلوغراماً في ذلك اليوم، أي ما لا تقل قيمته عن نصف مليون دولار، وحتّى بعد مغادرتهم تلك البقعة، ذهب ثلاثة منقبين أفراد للبحث عن بقايا الذهب في تلك الحفرة، واشتروا من حصيلة بحثهم ذلك سيارات ومنازل”.
سكان المنطقة والتأثيرات السلبية
وبالنسبة لتأثيرات “حمّى الذهب” التي عصفت بقرية عرشيدا، قال أحد زعماء البلدة ويدعى علي صالح محمد، “تم البدء بالتنقيب منذ ثلاث سنوات ونصف، وللدقة في الشهر العاشر من العام 2016، والتأثير على السكان لم يكن كبيراً، سوى من استفاد من حركة تجارية بسيطة، لكن الغالبية لم يجدوا لها تأثيراً من ثروة باقية أو دائمة، والسبب بالنظر لحال السكان الرعاة أو العاملين في الغابات المعتاشين من ذلك، أنشطتهم تلك كانت أكثر جدوى لهم من الذهب، فأولئك لم يجنوا شيئاً، كما أن العمالة التي كانت تعتني بأشجار اللبان ندرت، فازداد وضع الأشجار تدهوراً، أما بالنسبة للرعي فقد قل المهتمون بالعمل، وهكذا فإن السكان بقوا على حالهم كما كانوا منذ ثلاث سنين، وماشيتهم منها ما نفق نتيجة للسقوط في حفر التنقيب، ومنها ما بقي، لقد ضاقت المراعي بسبب التنقيب، فاضطر الرعاة للرحيل إلى مناطق أخرى، وتلك من التأثيرات السلبية”.
وحول تأثير حضور أعداد كبيرة من المنقبين دفعة واحدة، أجاب، “أثقلت كثرتهم علينا من حيث الأمن والبيئة، فقد انشغل كبار القرية والزعماء بجهود ضمان الأمن والسلم، وكيفية حماية حقوق ومصالح السكان ونظافة البيئة، لكن كل جهودنا تلك لم تحل من دون تناقص عدد السكان الأصليين للقرية.
ولطالما عبرنا عن انزعاجنا، ودعونا المنقبين إلى الخروج من أرضنا، فلم نجن منهم سوى المتاعب، فالواحد منهم إذا حصل على شيء ذهب به إلى بلاده، ولم يكونوا يدفعون ضرائب أو رسوماً، ولم نكن نمنعهم من العمل، لكن ذلك لم يوفر عملاً لأحد سواهم، لذا لم تستفد منهم المنطقة، فما كانوا يجنونه يغادرون به، وهذا ما لم يترك مجالاً للسكان للاستفادة”.