تحوّل شعار بعض السودانيين “إثيوبيا أخت بلادي” إلى مأزق بعد التطورات السلبية في مسار العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا وتعثر محاولات إصلاحها، حيث عوّل من صكوا هذا الشعار على عقد تحالف متين، في ظل خطوات إيجابية رشحت على الصعيدين الشعبي والرسمي عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير.
جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، ويواجه الطرفان مواقف محرجة في ملفي، الحدود المشتركة الذي يزداد اشتعالا، وسد النهضة الذي اقترب فيه السودان كثيرا من الرؤية المصرية، وبدت الخرطوم أحيانا أكثر تشددا من القاهرة في المطالبة بتوقيع اتفاق مُلزم يضمن حقوق جميع الأطراف، وتكاد تغرّد أديس أبابا وحيدة في المفاوضات.
أخفقت الزيارات الرسمية المتبادلة في تحقيق تقدم يشير إلى التفاهم في الملفين، ووجد آبي أحمد رئيس الحكومة الإثيوبية بلاده في وضع غاية في الحساسية، فيمكن أن يخسر السودان إذا قرر الانتصار لرؤية عصابات “الشفتة” المسنودة من قوات عسكرية نظامية في السيطرة على منطقة “الفشقة” السودانية، أو ماطل في عمل اللجنة المنوط بها ترسيم الحدود وغلق الطرق الوعرة في أزمة مزمنة.
ربما يخسر الرجل جزءا جديدا من شعبيته في الداخل إذا انتصر للسودان وأعاد “الفشقة” إليه، فالمنطقة تسيطر عليها ميليشيات تابعة لجماعة الأمهرة، وهي من أهم الجماعات العرقية التي تسانده في حرب إقليم تيغراي، وأي انحياز ضدها في هذه الأجواء يخلف وراءه نتائج سياسية قاتمة، في وقت لم ينته فيه من طي جراح تيغراي.
وقوع آبي أحمد بين فكي رحى “الفشقة” والأمهرة، يفسر تذبذب موقفه من الخرطوم، فهو تارة يبدو قريبا منها، والعكس في بعض الأحيان، فحسم هذه المعادلة بحاجة لمزيد من الحنكة ليقفز على أشواكها العديدة، ويستطيع الحد من الضغوط الواقعة على حكومته، لذلك ظهر لكثيرين كمن يمد يدا للسودان ويسحب الأخرى بعيدا عنه.
يأمل الرجل في التوصل لدرجة معقولة من التوازن، يمكنه من المحافظة على ثبات تحالفه مع الأمهرة ويتجنب ذهاب السودان بعيدا عنه، ففقدان أحدهما أو كلاهما يعني منح خصومه في الداخل والخارج فرصة لممارسة ضغوط قاسية عليه.
وقد لا تفلح خطوته في تحديد موعد لإجراء الانتخابات العامة، يونيو المقبل، في نزع فتيل أزمة تهدد مصيره السياسي، أو يجني من خلف رهانه على الإدارة الأميركية الجديدة ثمارا تعيد تصويب مسار علاقته مع واشنطن بعد فرض عقوبات اقتصادية من قبل الرئيس دونالد ترامب بسبب مماطلات إثيوبيا في مفاوضات سد النهضة.
في المقابل، وجدت الحكومة السودانية نفسها مضطرة إلى مساندة المكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي، الذي يتبنى موقفا متشددا في ملفي الحدود وسد النهضة، خاصة أن رؤية الجيش السوداني تستند على أسس وطنية ظاهرة غلبتها على العواطف السياسية، وأي تخلي من جانب الحكومة عن دعم هذه الرؤية يمثل انتقاصا لها أمام الشارع الذي بدأ قطاعا كبيرا فيه يعيد النظر في شعار “إثيوبيا أخت بلادي”.
جاء المأزق المشترك للحكومتين وليد طموحات ورهانات وضعها كل طرف على الآخر، وهما يعلمان أن ثمة حزمة من الأزمات المكبوتة قابلة للانفجار، مع ذلك جرى تجاهل تطويقها، اعتقادا في أن المصالح المشتركة قادرة على ردم الجوانب المسكوت عنها، أو أن الشجون السياسية التي تجاوبت معها شرائح متباينة كفيلة بردم كل هوة تطفو على السطح.
عندما حانت لحظة الحقيقة لم يجد كل طرف قدرة على المكاشفة، فالحكومة السودانية رغم تأييدها المعلن للجيش لم تقدم على خطوة تجعلها في مواجهة ساخنة مع نظيرتها في إثيوبيا، ورضيت بالقليل لتحاشي الوصول إلى منطقة سياسية تخرج عن السيطرة.
قام رئيس الحكومة عبدالله حمدوك بزيارة خاطفة لأديس أبابا الأسبوع الماضي، بدا بعدها كأنه أخمد نارا مشتعلة، غير أن التطورات اللاحقة كشفت أن النار لا تزال خامدة تحت الرماد، وأي نفخ سياسي فيها يمكن أن يحرق أصابع الطرفين، وهو ما تشير إليه التحركات العسكرية على الحدود، حيث بسط الجيش السوداني سيطرته على نسبة كبيرة من منطقة “الفشقة” لأول مرة منذ ربع قرن.
الأهم أن جزءا من الحدود المشتركة تحول إلى منطقة جذب للاجئين إثيوبيين هربوا من القتال في تيغراي، ما خلق مشكلة أمنية واقتصادية وإنسانية للسودان، يمكن أن تتحول إلى أزمة مع اتهامات مبطنة وجهتها عناصر في أديس أبابا للخرطوم بشأن اندساس قيادات معارضة في صفوف اللاجئين، وتحذيرات من تسليح هؤلاء ليكونوا نواة عسكرية تنشط انطلاقا من الأراضي السودانية، وتعيد لعبة توظيف المعارضة.
المأزق المثير بالنسبة للحكومتين أن كلتيهما تواجه أزمات مركبة، تمنع التهاون وتقديم تنازلات، وتكبح التصعيد خوفا من توسيع مستوى الاشتباك، فكل طرف يدرك أن النتيجة لن تكون في صالحه، وأي انجرار وراء التسخين لأهداف دعائية يؤدي إلى زيادة التعقيدات التي تنعكس سلبا على منسوب الأمن والاستقرار داخل البلدين.
يأتي القلق من رحم توظيف قيادات عسكرية في إثيوبيا للمشكلات، على قاعدة إذا أردت أن توحد شعبا أوجد له عدوا خارجيا، ولأن التصعيد مع مصر في ملف سد النهضة استنزف أغراضه تقريبا، وأزمة تيغراي يصعب استثمارها في التوحيد الرضائي للشعوب الإثيوبية، يعتقد هؤلاء أن السخونة على الحدود مع السودان قد تضمن التفافا وطنيا حول الحكومة المركزية.
كما أن المكون العسكري في مجلس السيادة السوداني يجد في منازلة محدودة تكريسا لدور يجذب به أطيافا إليه، ويقلل من نسبة المعترضين على توسيع مشاركته في معادلة السلطة، ويخفف من درجة الانتقادات الموجهة لقيادات كبيرة لا تبخل عن اتخاذ مواقف في صميم عمل الحكومة، تقبلها على مضض لمنع توسيع الفجوة معه.
أمام الحكومتين خياران رئيسيان، تسريع عملية التفاهم في ملفي الحدود وسد النهضة، أو تحمل تداعيات كليهما السياسية والأمنية، ولصعوبة الطريقين من المرجح العودة إلى ترطيب الأجواء من خلال اجتماعات جبر الخواطر التي تراجع دورها، ولم يعد السودان يقبل ما يتمخض عنها، وإذا قبله سرعان ما يعلن ضيقه، لأن المسكنات تسهم في ترسيخ أمر واقع في الملفين لا يمضي لصالح الخرطوم.
بالتالي فالفترة المقبلة قد تشهد حسما لكثير من إشكاليات العلاقة بين الحكومتين، فالمأزق بات مليئا بمطبات يحتاج عبورها إلى إرادة ورغبة وحسن نوايا، وكلها مقومات آخذة في التآكل، لذلك ففرص تطويق الأزمات تبدو أقل من انفلاتها.
*كاتب مصري