من البداية أسقط كثيرون مفاهيم طوباوية على ثورة تونس، فمنهم من رآها “ثورة للياسمين” كأنما ولدت من بين دفات الكتب، ومنهم من رآها “ربيعا عبريا” كناية على تدخل العامل الخارجي، وعلى أنها مؤامرة صهيونية، وهو التفسير الذي تلجأ إليه فئة من المثقفين العرب للتغطية على عجزها في فهم الظروف التي قادت الاحتجاجات التي انطلقت بعد حرق أحد الشبان لنفسه في مثل هذا اليوم من 2010 ثم توسعت لتنتقل بسرعة من تونس إلى دول عربية مختلفة.
لم تكن ثورة على الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ولم تكن بها شعارات سياسية، لكن النخب غطت على حقيقة تلك الثورة وحرفت مطالبها إلى ثورة على الاستبداد أو معركة من أجل الحريات. وهذا لا يعني بالمطلق تبرير عجز النظام السابق عن فتح الباب أمام التعدد السياسي والإعلامي وتحويله إلى عنصر داعم لاستمرار سلطته مثلما يتم توظيفه الآن على نطاق واسع لحرف اهتمام الناس بقضاياهم الحقيقية وتحويل الأنظار إلى الصراعات السياسية.
لقد تم اختطاف الثورة من لحظة توصيفها بأنها معركة ضد بن علي، وذلك حين استعانت مختلف التيارات والمجموعات السرية بأدبياتها القديمة في فهم ظاهرة طارئة ومعقدة، فأخرجت تلك الانتفاضة السريعة من واقع الناس ومطالبهم إلى واقع سياسي مأزوم قائم على الصراع والنفي بين مختلف الخصوم السياسيين.
لم تكن ثورة بمفهومها العلمي لغياب شروط من بينها عدم وجود قيادة تعبر عن مطالب الناس الذين تحركوا، وهو ما سهل اختطافها من أحزاب أغلبها كان قد انتهى عمليا منذ سنوات، وكان يكتفي بإصدار بيانات بين الفينة والأخرى لتسجيل حضوره.
لقد ظل وعي تلك الأحزاب والمجموعات الفكرية الكثيرة محتجزا عند لحظة الصراعات الجامعية بين إسلاميين ومجموعات يسارية أو قومية، لم يكن فيها فكر ولا ثقافة ولا قيم، فقط صراع يقوم على مبدأ إلغاء الآخر وإجباره على التخفي من خلال “العنف الثوري”، وهو مناخ تم استنساخه بعد الثورة وجرى فرضه على الناس كأولوية سياسية وإعلامية.
ما ينظر إليه على أنه مسار ثوري الآن، هو بمثابة انقلاب على الثورة والرسائل التي حملتها بشأن التغيير الاجتماعي والكشف عن محدودية الدولة الوطنية في تحقيقه دون عمق إقليمي أوسع.
ويعود هذا العجز في عمقه إلى إسقاط النخب، من البداية، لرؤية طوباوية على دولة الاستقلال. فقط عمد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والشباب الذين استلموا الحكم معه في 1956 إلى بناء دولة هي المصدر الوحيد للرفاه، واحتكر القطاع العام، الذي تديره، الوظائف والمزايا.
وهذه المقاربة، التي نجحت إلى حد ما لدى الدول النفطية الخليجية قبل أن تتم مراجعتها وتصويبها، هي العنصر الرئيسي في إفشال ثورة 2011 واختطافها من ثورة لكسر المركزيات المهيمنة على الدولة، وتحويلها إلى قوة لإعادة إنتاج صورة الدولة “الحاضنة”، دولة الإنفاق “من المهد إلى اللحد”، التي فشلت منذ نهاية السبعينات وكانت هدفا لاحتجاجات شعبية كان أبرزها “ثورة الخبز” في يناير 1984.
وبدل أن تكسر الثورة هيمنة المركز، أي هيمنة الدولة والقوى المستفيدة منها، وتوسع دائرة “إنفاقها” على مدن الهامش والفقر التي كان ظهورها تعبيرا عن فشل الدولة الوطنية، فإن النخب انقلبت على الثورة تحت عناوين براقة وأعادت تقوية النموذج القديم لصورة الدولة، وحصلت منه على مزايا جديدة في شكل زيادات في الرواتب والعلاوات وإنفاق سخي على مشاريع استعراضية.
ربما نجح الصراع السياسي في التغطية على حقيقة ما يجري والإيهام بوجود قوى “ثورية” وأخرى “رجعية” تريد العودة إلى مرحلة ما قبل الثورة. لكن الأقرب إلى الحقيقة هو غياب القوى المعبرة عن الثورة وشعاراتها الإستراتيجية في بناء دولة وطنية تقوم على المصالحة بين المركز والهامش وإعادة تصويب التفاوت الجهوي والطبقي على قاعدة توزيع عادل للمنافع والواجبات.
وتشترك الأحزاب والمنظمات الاجتماعية المختلفة (اتحاد عمال، واتحاد أرباب عمل) في مسعاها لمنع حصول تغييرات دراماتيكية على صورة الدولة وأدوارها قد تمكنها من الإمساك بآليات جديدة للرقابة والمحاسبة، وهو السر المفصلي في موجة الاحتجاجات الموجهة والإضرابات والاعتصامات منذ 2011.
الهدف واضح، هو إجبار الدولة على الاستمرار في الإنفاق و”تحقيق الرفاه” ولو لفئات محدودة بدل التفرغ لمعالجة أخطاء الماضي وبناء رؤية لخلق تنمية في المناطق الداخلية تقدر من خلالها على استعادة أبنائها المهجرين إلى الأحياء الشعبية المحيطة بالمدن الكبرى، وهي أحياء شبيهة بمدن الصفيح من حيث الفقر وغياب الخدمات وكثرة الجريمة.
ونستطيع هنا أن نفهم موجة التخوين والإدانة التي أظهرتها قوى المركز ضد احتجاجات “عنيفة” عرفتها مدن داخلية، بعد أن تشكلت تنسيقيات محلية في مناطق وجود النفط والفوسفات وقامت بتعطيل الإنتاج بغاية دفع الحكومة إلى تقديم مشاريع تنمية جديدة لفائدة تلك المناطق.
إن الحملة على اتفاق “الكامور” (منطقة تمركز لآبار نفط بولاية تطاوين)، والهجوم على اعتصام الدولاب (منطقة نفطية بولاية القصرين)، واعتصامات أخرى أعاقت توزيع الغاز المنزلي، أو مياه الشرب من مدينة داخلية إلى أخرى كبيرة، لا تحكمها المخاوف على هيبة الدولة ومحاذير تفككها كما تظهره حملة دعائية واسعة، بقدر ما تُفسر بخوف قوى الهيمنة التقليدية من واقع جديد يتم فرضه بالقوة وينجح في إعادة توزيع الإنفاق ويخرج الدولة من مركزيتها إلى بعدها الوطني.
وبالنتيجة، فإن السعي المحموم لتغيير الحكومات وخلق مناخ من التوتر السياسي والاجتماعي العالي هدفه الحيلولة دون استقرار يمكن الدولة من مراجعة أدوارها، وخاصة من استمرار قوى مناطقية محلية في المطالبة بتوزيع متوازن للتنمية.
ما الذي يمكن أن يتغير لو تمت الإطاحة بحكومة هشام المشيشي وجيء بحكومة جديدة؟ لا شيء، فقد جربت البلاد مختلف الحكومات منذ 2011، حكومات هيمن عليها الإسلاميون وحلفاء من “الحزام الثوري”، وجربنا حكومات “تكنوقراط” بعضها جاء نتيجة لحوار وطني برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل، لكن لا شيء تغير بسبب اختلاق الأزمات السياسية بسرعة كبيرة تفضي إلى إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة جديدة في حركة عبثية، والأمر نفسه من خلال إجراء انتخابات متتالية نَصِفها بالشفافة ثم نلتفت عليها ونبحث عن حيل قانونية وسياسية من أجل الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
إن الصراع السياسي البارز على السطح، وما يتبعه من مبادرات للحوار أو “أخلقة الحياة السياسية”، أو اعتصامات لحل البرلمان، ومعارك لي الذراع بين الرؤوس الثلاثة للسلطة، كلها تعبر عن رغبة في منع الاستقرار السياسي الذي لا شك أنه سيكشف أحجام مختلف القوى ومحدودية شعاراتها وأفكارها، وسيعري النخب التي وضعت يدها على الثورة واختطفتها ومنعت أي تغييرات جدية خادمة للناس.
*كاتب وصحافي تونسي