الأزمة الإثيوبية تغذي فكرة إعادة هيكلة الاتحاد الأفريقي
يواجه الاتحاد الأفريقي اختبارات صعبة في التعامل مع الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية المتفاقمة في القارة، من دون أن يجد الأدوات التي تمكنه من النجاح، ما بات يهدد بتفكك المنظمة الإقليمية العريقة، والتي وجدت نفسها أخيرا محملة بأعباء تفوق قدراتها السياسية، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة شائكة بشأن إمكانية إدخال إصلاحات مؤسسية وإدارية تسمح بالمزيد من التفاعل مع القضايا الحرجة.
وجه الاتحاد الأفريقي نداءات إلى إثيوبيا للوساطة في أزمة إقليم تيغراي، غير أن البلد الذي يقع في أراضيه مقر المنظمة لم يستجب لها، ويصمم على التعامل مع الأزمة بعيدا عن الوساطات الخارجية.
ومشكلة تيغراي تحيل إلى أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان التي أخذت بعدا تخطى المكونات الداخلية بين دول الاتحاد، ما انعكس على عدم قدرته في تحريك جمود المباحثات منذ إحالة الملف إليه في يونيو الماضي، وتبدو الأمور في طريقها إلى الفشل.
ويمر الاتحاد، الذي تأسس منذ 57 عاما تحت مسمى منظمة الوحدة الأفريقية، بتحديات عميقة، في ظل استمرار النزاعات المسلحة في بقاع مختلفة، تتمدد في الكونغو الديمقراطية والصومال ومالي وموزمبيق وجنوب السودان، وأخيرا إثيوبيا.
تهديدات جوهرية
استطلعت “العرب” آراء مراقبين حول مغزى تداخل إثيوبيا في أزمتين مهمتين تشهدهما القارة حاليا، وما يمكن أن يعكسه ذلك من تهديدات جوهرية، ووجدت أن غالبية الآراء تصب في أن الحل يكمن في إيجاد آلية تضمن عدم تداخل دولة المقر في شؤون إدارته، بما يساعد على وجود حرية حركة للجان الاتحاد المختلفة.
ولفت هؤلاء إلى أن الاتحاد أول من يدفع ثمن الفشل، فمثلا استمرار التفاوض في أزمة سد النهضة إلى ما لا نهاية له انعكاسات كبيرة على أدواته في حل النزاعات، ويطول الضرر بعض دول القارة التي ستجد نفسها منخرطة في صراعات بسبب المياه، ما يضع على عاتقه عبئا كبيرا، ما لم يتمكن من إيجاد وسيلة تُحرره من القيود المفروضة عليه.
وقال الباحث السوداني عبدالمنعم أبوإدريس، لـ”العرب” إن “الاتحاد فشل في اجتياز اختباري سد النهضة وإقليم تيغراي حتى الآن، ما انعكس على انخفاض سقف طموحات العديد من البلدان التي عقدت آمالها على صياغة علاقة دائمة بين دول القارة”.
وأوضح أن الاتحاد يتحرك كالسلحفاة في أزمة تيغراي، وقد أصدر بيانات ضعيفة، وتجاهل الدعوة إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن والسلم التابع له، ما يعني أنه يعاني من مشكلات متفاقمة لفض النزاعات، تستوجب إعادة النظر في الآليات الحاكمة لها.
وعين الاتحاد الأفريقي ثلاثة رؤساء دول سابقين كمبعوثين بعد أسبوعين من اندلاع الأعمال العدائية بين الحكومتين الاتحادية والإقليمية في إثيوبيا.
ولا يزال يدار الاتحاد بنفس أدواته التقليدية، ولم يستطع التحول إلى منظمة قادرة على التكامل بين أعضائها، فهو يعتمد منذ تأسيسه على القدرات الشخصية للزعماء الذين يتولون رئاسته سنويا، وأفضت التغييرات الطارئة على ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية وتحويلها إلى اتحاد عام 2002، إلى وجود مراكز قوى عديدة أضحت لديها هيمنة كبيرة على توجهاته.
مصالح القارة
يقتنع الأعضاء وعددهم 55 دولة بمقولة ثابو إمبيكي، رئيس جنوب أفريقيا الأسبق، الذي قال، إن “أفريقيا لها خمس ركائز، هي مصر والجزائر وجنوب أفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا، وإذا لم تكن لهذه الركائز مواقف موحدة في القضايا الأساسية، لن يكون هناك عمل جاد يحقق مصالح القارة”.
وتتفق مديرة البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، أماني الطويل، مع هذا الرأي، لكنها أشارت إلى أن الفشل في الملفات الكبيرة يرتبط بإثيوبيا، التي لديها نفوذ واسع في الهيكل الإداري والسياسي للاتحاد، وهيمنة على سلطة اتخاذ القرار، وتعتبر في الوقت ذاته أن الأمر طبيعي بالنسبة إلى المنظمات الإقليمية الأخرى التي تستضيف مقراتها.
وأوضحت لـ”العرب”، أن القوى الكبرى المؤثرة في الاتحاد ما زالت محتفظة بقدر كبير من أدوات قوتها دفاعا عن مصالحها، ما يوضح النفوذ القوي للجزائر وتوجيه أزمة الصحراء مع المغرب لصالحها واحتفاظ نيجيريا بنفوذها لتعزيز قوتها في غربها، والأمر ذاته بالنسبة إلى جنوب أفريقيا في نصف القارة الجنوبي.
وتحاول مصر استعادة حضورها على الساحة الأفريقية بعد غياب ثلاثة عقود، وتصحيح أخطاء بدأت منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، حيث رأى أنه لا حاجة للكتلة الأفريقية في معادلة الصراع مع إسرائيل، وقد أوجد ذلك صعوبات لاستعادة النفوذ، وجعل بلده تسير في خطط لإعادة صياغة تموضعه داخل الاتحاد، والبحث عن وسائل لطرح عملية الهيكلة بصورة ناعمة.
ولفت أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد في الإمارات حمدي عبدالرحمن، إلى أن انشغال الدول ذات الثقل الأكبر داخل الاتحاد بأزمات داخلية تُصعّب من مهمة إدخال إصلاحات أو الحديث عن إعادة هيكلة حاليا، لأن القاهرة تتدخل بخطط تستهدف إعادة توازن القوى، ما يعيد لها دورها بالقارة، وهو أمر قد يأخذ سنوات.
وقال إن “الجزائر تمر بعملية تحول سياسي، وتولي اهتماما بأزماتها الداخلية مع وجود رئيس جديد (عبدالمجيد تبون)، والأمر بالنسبة إلى إثيوبيا التي تواجه مخاضا عسيرا نحو الانتقال الديمقراطي، وتنشغل بصراعاتها الداخلية”.
ويذهب الخبير في الشأن الأفريقي إلى التأكيد على أن ضعف إمكانيات الاتحاد تنعكس مباشرة على قدراته اللوجيستية في حسم الخلافات وعلى فعاليته السياسية في الأزمات المتفاقمة وأهمها سد النهضة، الذي يواجه معضلة غياب كوادر فنية تضع صياغة مناسبة يتوافق عليها جميع الأطراف.
ولدى عبدالرحمن قناعة بأن الاتحاد يبتعد عن القضايا الحساسة لصالح قوى إقليمية ودولية، وأن هناك إدراكا داخل لجانه الفنية بأنه توجد ندرة في الخبراء الذين بإمكانهم إحداث الفارق في أي أزمة، وهو ما حاولت مصر تجنبه بعد أن لجأت إلى البنك الدولي والولايات المتحدة لطلب التدخل في أزمة سد النهضة، لكن تعنت إثيوبيا نجح في إعادة الأمور إلى الاتحاد، الذي عجز عن حلها.
وتعد مسألة تمويل الاتحاد إحدى القضايا الملحة التي ناقشتها قمم عديدة، بعد أن أضحت نسبة 0.2 في المئة من واردات الدول الأعضاء غير متماشية مع تدخل الاتحاد وسط زيادة الأزمات الأمنية والاقتصادية، خاصة أن نسبة تحصيل اشتراكات الدول الأعضاء لا تتجاوز 30 في المئة.
وألقت قمة الاتحاد المنعقدة بكيغالي في 2017، الضوء على أزمة التمويل، وقالت إن 40 عضوا من أعضاء الاتحاد، تتخلف جزئيا أو كليا عن سداد اشتراكاتها، ما خلق فارقا في التمويل بين الميزانية المنتظرة والتمويل الحقيقي، كما أن هذا العجز تتم تغطيته بواسطة مانحين ومساهمين من خارج الاتحاد، مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، ما يؤثر على عمل الاتحاد بشكل غير مباشر.
وأوضحت أستاذة العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية في جامعة القاهرة، هبة البشبيشي، أن عملية التمويل بها خلل، فلا يمكن المساواة بين دول غنية لديها عوائد نفطية وغيرها من الموارد، ودول فقيرة تعاني من أزمات متفاقمة، وبالتالي فإن العجز تستغله قوى إقليمية تستهدف السيطرة على سلطة اتخاذ القرار داخل الاتحاد، وهي إشارة خطيرة تستوجب القيام بالإصلاحات الضرورية.
وأشارت، إلى أن دولا مثل فرنسا والصين وروسيا وتركيا تدفع باتجاه أن يبقى الاتحاد الأفريقي على وضعه الحالي دون أن يستطيع فرض قراراته على جميع الأعضاء، وألا يتم تطوير التنسيق والتعاون بين دوله، لأن ذلك في غير صالح إيجاد بيئة مناسبة للتدخل الاقتصادي والسياسي والعسكري.
الفعالية والرقابة
تنعكس مشكلات التمويل على فاعلية أدوار الاتحاد في الرقابة على الكثير من الديمقراطيات الناشئة في القارة، بعد أن نجح إلى حد بعيد في حصار الانقلابات العسكرية، ما يُعرض العديد من مندوبيه المشرفين على عمليات الاقتراع للرشاوى السياسية، كما أن الأمر انعكس سلبا على عدم قدرة قوات السلام التابعة له للوصول إلى عدد من أماكن الصراع التي تحظى بوجود أممي.
وأوضح تقرير لمجموعة الأزمات الدولية هذا العام أن الاتحاد يملك الإرادة والقدرة على القيام بمهمات لمكافحة الإرهاب وحفظ السلام الضرورية للمساعدة في إحلال الاستقرار في دول أفريقية، لكن لا يملك الموارد المالية لتقديم دعم ثابت.
واعتمد الاتحاد عدة وثائق هامة ترسي معايير جديدة، لتكملة الوثائق المعمول بها بالفعل، وشملت اتفاقية منع ومكافحة الفساد، والميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم، وأيضا الشراكة الجديدة من أجل تنمية أفريقيا، وما يرتبط بها من الإعلان حول الديمقراطية والسياسة والاقتصاد وحوكمة الشركات.
وثمة أزمة يعاني منها الاتحاد ترتبط بمنظمات إقليمية أخرى تضم دولا بالقارة، مثل الجماعة التنموية للجنوب الأفريقي، والمجموعة الاقتصادية لدول البحيرات الكبرى، والاتحاد الاقتصادي والجمركي لأفريقيا الوسطى، والمجموعة الاقتصادية لدول أفريقيا الغربية، والهيئة الحكومية للتنمية، وتجمع دول الساحل والصحراء.
وترفض مجموعة دول الجنوب الأفريقي تدخل الاتحاد في دول إقليم الجنوب، وهو ما يتكرر مع غرب القارة وهكذا، إضافة إلى أن هناك تكاملا عسكريا بين دول تجمع الساحل والصحراء بعيدا عن الاتحاد الأم.
وأكدت أستاذة العلاقات الدولية بجامعة الخرطوم تماضر الطيب، أن القارة ستواجه أزمات تختلف في طبيعتها عن أزمات سابقة التي تركزت على الصراعات المسلحة ذات الخلفيات السياسية، وأن قضايا المياه والأمن الغذائي والمناخ والانفجار السكاني ستصبح حاضرة بقوة ما يتطلب إعادة هيكلة تتماشى مع ذلك، إلى جانب وضع آليات حديثة لفض النزاعات.
وذكرت، أن الاتحاد اكتسب سمعة جيدة في بلدان أفريقية تمكن فيها من نزع فتيل الأزمات السياسية والصراعات المسلحة، وأن هناك فرصا لحل أزمة سد النهضة، إذا وجدت إرادة إثيوبية قوية، ويمنح الوصولُ إلى اتفاق ملزم الاتحادَ دفعة معنوية نحو حل المزيد من الأزمات.
لكن الطيب ترى أن المشكلة الأكبر ستكون في كيفية تدخل الاتحاد في شأن داخلي في الدولة التي تستضيف مقره ما يجعل الحرب الدائرة في تيغراي هي التحدي الأصعب أمامه.
وأشارت مجموعة الأزمات الدولية إلى أنه رغم إخفاق الاتحاد في تحقيق الهدف الرئيسي بإنهاء الصراعات في أفريقيا هذا العام، لكن في 2019 تدخل في لحظات حرجة للحفاظ على ثورة السودان ومنعها من الانزلاق إلى العنف، وساعد في التوصل إلى اتفاق بين الحكومة والمتمردين في أفريقيا الوسطى، وأخفق في أماكن أخرى.
وما يثير القلق أن التزام القادة الأفارقة بالجهود متعددة الأطراف لتهدئة الصراعات، يتضاءل، فنادرا ما يجتمع مجلس الأمن والسلم الأفريقي على مستوى رؤساء الدول. وكلها عوامل تستدعي التفكير في إعادة الهيكلة، لأن استمرار العجز في التعامل مع الأزمات يهدد بقاء الاتحاد.