أورد المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي (المتوفي في سنة 845ه) في كتابه (درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة) ترجمة قاضي مدينة لامو الساحلية الفقيه محمد بن إسحاق محمد، وجاء في صدد ترجمته ما يلي: ” قدم مكة حاجاًّ وأنا بها في أخريات سنة تسع وثلاثين وثماني مئة، فبلوتُ منه معرفة بالفقه على مذهب الإمام الشافعي والفرائض بحيث يحل كتاب ( الحاوي ) مع عبادة ونسك. ومولده سنة سبع وثمانين وسبع مئة.” ثم بعد ذلك نقل منه ثلاثة أخبار مثل:
” أخبرنا أنّ القردة غلبت على مدينة مقديشو من نحو سنة ثماني مئة حتى ضايقت الناس في مساكنهم وأسواقهم، وصارت تأخذ ما تجد من آنية الطعام، وصارت تأخذ من الأواني وغيرها ما شاء الله ، فتَهْجُم الدّور على الناس وتأخذ ما تجد من آنية الطعام، فقُصارَى صاحب الدّار أن يتْبع ذلك القرد ولا يزال يتلطّف به حتى يردُّ الإناء بعد أكل ما فيه، وإذا هجم القردُ الدارَ ورأى امرأةً مُنفردة وَطِئها:” انتهى.
ونقل مثل ذلك ابن تغري بردي، جمال الدين أبي المحاسن يوسف ( ت 874هـ ) في كتاب ” الدليل الشافي على المنهل الصافي”، ترجمة رقم 2072. كما نقل السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن (المتوفي سنة 902ه) مثل ذلك عن شيخه المقريزي في كتابه (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، في ترجمة رقم 317.
ويظهر لي من خلال السطور الماضية – والله أعلم – أنّ المقريزي اختلطت عليه مدينتا لامو ومقديشو، وبدلا من أن يذكر الأولى أشار إلى الثانية عند حديثه حول قصة القردة، ولعل ذلك حصل عند ما أراد أن يوضح للقراء موقع مدينة لامو فذكرها بأنّها ” إحدى مدائن الزنج على ساحل بربرا وهي واقعة غربي مدينة مقدشو على نحو عشرين مرحلة منها ..” . ويدل على ذلك أنّ المقريزي كان بصدد ترجمة أحد قضاة مدينة لامو الواقعة على ساحل إفريقيا الشرقية، وذلك في ترجمة رقم 1281، أما ورود اسم مقديشو – كما سبق من قبل – فكان بهدف تعريف لامو وتحديد موقعها الجغرافي ليس إلا.. هنا ربما أراد المقريزي ذكر لامو بدلاً من مقديشو، لا سيما عند حديثه عن القردة وغلبتها على مدينة مقديشو بأنّه ناقل الخبر وليس بشاهد عينان حيث يقول: ” أخبرنا أنّ القردة غلبت على مدينة مقديشو …”.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه ما نقله المقريزي نفسه عن القاضي من الأخبار، مثل قوله: ” وقال: وإن البحر يلقي بساحل مدينة لامو العنبر فيأخذه الملك، وإن البحر ألقى مرة قطعة عنبر بلغت زنتها ألف رطل ومئتي رطل. قال: وشجر الموز عندهم كثير جدا، وإنه عدة أنواع منها نوع تبلغ الموزة في الطول ذراعاً، وإنه يعمل عندهم من الموز دبس يقيم أكثر من سنة ويعقدون منه أيضا حلوى “. انتهى.
إذاً القاضي كان يروي قصة بلاده، والمقريزي يستمع الخبر، وكان من عادته أن يتحدث إلى الحجاج والزوار ويستمع رواياتهم وأخبار بلادهم.
ومرة أخرى يضيع المقريزي بين لامو ومقديشو، عند ما أورد نصاً آخر له علاقة بمقديشو بدلاً من لامو – حسب ظننا – : ” قال: ومن عادة مُتملّك مقديشو أن يقف أرباب دولته تحت قصره فإذا تكاملوا فُتحت طاقة بأعلى القصر فيقع أهل الدولة على الأرض يقبّلونها فإذا قاموا وجدوا الملك قد أشرف عليهم من تلك الطاق، فيأمر وينهى ويصرف أمور دولته فلما كان في بعض الأيام وقفوا على العادة للخدمة فلما فتحت الطاق قبلوا الأرض على عادتهم وقاموا فإذا القرد قد جلس على مرتبة الملك وأشرف عليهم وهي بأجمعها تمشي من خلفه بتؤدة وترتيب. قال: فيرون أن تسلّط القرد عقوبة من الله تعالى لهم” انتهى.
وهذا النص يخالف وصف مقديشو ومشيخاتها المختلفة من قبل المؤرخين والرحالة الذين كانوا قبل الفترة التي يتحدث عنها المقريزي أو التي بعده، وخاصة ما نقل إلينا الرحالة ابن بطوطة، أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي (ت 779ه) الذي نزل مقديشو ضيفاً على السلطان ، والتقى ببلاطه وحاشيته وأعوانه، كما التقى أعيان دولته من قضاة وعلماء ومستشارين.
والقاضي محمد إسحاق محمد لم تكن له علاقة بمدينة مقديشو، وقد تحرك من أرخبيل لامو قاصداً إلى الأماكن المقدسة لأداء فريضة الحج، وخلال تتبعنا لرحلات الحج في شرق أفریقیا خاصة كینیا، والصومال، ویوغندا التي كانت تنطلق من لامو وممباسا وكلوة لم نجد بأنّ مقديشو كانت تقع عبر طريق الحج لمسلمي شرق إفريقيا، وإنّما كان حجاج جزيرة لامو يبحرون نحو ممباسا ليأخذوا من هناك بواخر كبيرة تناسب لمثل هذه الرحلة الطويلة، أو ينتظروا بجزيرتهم حتى يكونوا مع الرحلة. هذا إذا كانت الرحلة بحرية، أما إذا كانت برية فكان الحجاج يمرون عبر الأراضي الأوغاندية ومن ثم السودان.
ومن المعلوم أنّ المقريزي كانت لديه معرفة بمدينة مقديشو قبل جزيرة لامو ، وقد أشار إليها في كتابه ( درر العقود الفريدة ) المذكور آنفاً مرتين غير ما تقدم من قبل:
فالأول عند ترجمة السيد علي بن يوسف بن عمر بن أبي بكر بن أبور، الملك المُؤيَّد ابن الملك المُظفّر ابن الملك المنصور” وأشار إلى أنّه كان صاحب مقدشو.
والثاني عند ترجمة السيد محمد بن أبي بكر بن ناصر بن أحمد العبدريّ الشيبيّ، وهو جمال الدين، شيخ بني شيبة، وقال: ” وَلٍيَ المشيخة بعد محمد بن يوسف في جمادي الأولى سنة تسع وأربعين ، وتوفي في سنة سبع وسبعين وسبع مئة، وهو في عشر السبعين، وكان مقداماً ذا مروءة وهمة عالية. سمع الحديث ودخل مصر مقدشو، وغيرها ” انتهى.
وربما أراد المقريزي ” دخل مصر ومقديشو وغيرهما ” أو دخل مصر مقدشو” بمعنى بلاد مقديشو .
وهنا اختصر المقريزي ترجمة السيد محمد بن أبي بكر بن ناصر بن أحمد العبدريّ الشيبيّ ، ويظهر فيها عدم وضوح أخباره، غير أنّ الفاسي، تقي الدين محمد بن أحمد الحسني المكي(ت 832هـ ): ذكره في كتابه ” القعد الثمين في تاريخ البلد الأمين ” تفاصيل أ كثر مما أورده المقريزي، مثل: أنّه من مواليد مقديشو، وأنّه وصل إليها مرات عديدة ، وكانت له عائلة مقيمة هناك، وقال : ” مولده – فيما بلغني – ببلاد مقدشو، وكان يتردد إليها، وولد له فيها بعض أولاده ..”. انتهى.
والسيد محمد بن أبي بكر الشيبي كان ضمن قائمين على أمر الكعبة المشرفة والحجابة، وحامل مفتاحها، بحكم كفاءته الدينية ونسبه إلى بيت بني شيبة. وفي ذلك يقول الفاسي: ” محمد بن أبي بكر بن ناصر بن أحمد العبدري الشيبي المكي ، يلقب بالجمال، شيخ الحجبة ، وفاتح الكعبة..” وغير ذلك.
وقد اهتم المقريزي بالتاريخ منذ ريعانة شبابه وكان شغوفاً بجمع المعلومات التاريخية وأحوال البلدان وال
شعوب الإسلامية، وقد برزت هذه السمة عند ما كان في الحجاز حيث كان يحرص على جمع المعلومات من الحجاج الذين التقاهم، وهذا الأمر يظهر عند كتاباته التاريخية، بحيث يذكر مصادر أخباره صراحة، علماً بأنّه وجد فرصة لكتابة مؤلفاته التاريخية قرابة ثلاثين سنة بعد اعتزاله عن الوظائف، وانشغل بالتأليف، وقد تنوعت مؤلفاته ما بين كتب تاريخية، وبلدانية، وخطط، وغيرها. والجدير بالذكر أنّ المقريزي اتبع منهجاً معيناً في كتابة التاريخ ، ولم يقتصر منهجه على منهج الوصف والمشاهدة فحسب، وإنما اشتمل أيضاً على المقابلة والاستفسار والملاحظة، الأمر الذي يعطي مادته التاريخية أهمية وثائقية، ومنهجية في خدمة التاريخ الإسلامي، كما ذكر ذلك بعض الباحثين.
ونتيجة لاحتكاك المقريزي بالعلماء والحجاج عن طريق الحج أو الذين زاروا مصر للدراسة في الأزهر الشريف، استطاع أن ينقل عنهم معلومات تاريخية حول بلدانهم، فقد كان يحرص على أن يلتقي بإخوانه من بلاد شتى ولا سيما من بلاد الحبشة ، حيث لاحظ أن المعلومات عنها شحيحة منذ أن كتب بعض منها ابن فضل الله العمري ، وكان يعتمد على الروايات الشفوية. والقاري يحسّ بأنّ المقريزي استطاع أن يسند تلك الأخبار ويعزوها إلى أصحابها. ولا غرابة في ذلك، فلدى المقريزي أسلوب يعتمد على طريقة السند حيث يعتمد على السماع بالأذن والإسناد للرواة. وكما ذكرنا من قبل فإنّ المقريزي اعتمد في كتاباته عن المنطقة الحبشية على الروايات الشفوية التي كان يسمعها من الحجاج القادمين من هذه المناطق، بالإضافة إلى كونه اعتمد على كتابات الرحالة السابقين أمثال ابن فضل الله العمري صاحب كتاب ( المسالك والممالك )، وكذلك القلقشندي في كتابه ( صبح الأعشى في صناعة الإنشا ) ، وغير ذلك.
ولم يخف ذلك المقريزي بل ذكره في مقدمة كتابه (الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام ) حيث قال: ” فهذه جملة من أخبار الطائفة القائمة بالملة الإسلامية ببلاد الحبشة المجاهدين في سبيل الله من كفر به وصد عن سبيله تلقيتها بمكة – شرفها الله تعالى – أيام مجاورتي بها في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة من العارفين بأخبارهم، والله التوفيق إلى سواء الطريق بمنه وكرمه “.
والمقريزي عند ما التقى بالسيد محمد بن إسحاق بن محمد ، قاضي مدينة لامو في مكة كان يستمع منه أخبار لامو، وليست أخبار مقديشو ، إذ لم يزرها القاضي ، بل إنّ القاضي كان يتحدث عن بلده وأحوال الناس فيها.
ومهما كان الأمر فقد نقل السخاوي من شيخه المقريزي هذه الأخبار ولكنه اكتفى بتعليق بسيط في آخرها، وقال فيه: ” وعندي توقف في صحة هذا على هذا الوجه فالله أعلم” ، وكذا فعل ابن تغري بردي ، معلقاً على الأخبار عند ما قام بالتشكيك على صحة هذا الخبر حيث قال: ” ولهذه المدينة وأهلها مع القردة حكايات عجيبة “.
وبغض النظر عن تعليق هذين العالمين الجليلين الذين شكَّكا في الأخبار التي نقلها المقريزي عن القاضي محمد إلا أنّه يظهر أيضاً أنّ الرجلين لم يتنبها إلى ما حصل من الخلط بين لامو ومقديشو، وإنّما اهتما بصحة الخبر أو عدمه حتى ألقيا عليه ظلالاً من الشك. ونرى أنّ قصة القرود التي نقلها العلامة المقريزي ليس فيها غرابة ، وقد حدَثت وتحدث بين فينة وأخرى ليس في منطقة إفريقيا الشرقية فحسب ، وإنّما في أماكن أخرى في العالم، باستثناء عبارة ” … فإذا القرد قد جلس على مرتبة الملك وأشرف عليهم “
فمن هو القاضي محمد بن إسحاق بن محمد اللامي؟
ولد محمد بن إسحاق بن محمد سنة سبع وثمانين وسبع مئة ، وهو من أهل لامو وقاضيها، فلما وصل إلى الأراضي المقدسة كان يجالس العلماء، وخاصة عند ما كان في مكة المكرمة. ومن بين العلماء والفقهاء الذين التقى بهم في مكة العلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزي – صاحب المصنفات العديدة وذلك عندما قدم إليها حاجاًّ في أواخر سنة تسع وثلاثين وثماني مئة. وكان القاضي محمد بن إسحاق عالماً ماهراً في الشريعة ، حتى أقرّ المقريزي بأنّ القاضي لديه معرفة بالفقه مع تزكيته قائلاً : ” قَدِمَ مكة حاجاًّ وأنا بها في أُخْرَيات سنة تسع وثلاثين وثماني مئة، فبلوتُ منه معرفة بالفقه على مذهب الإمام الشافعي وبالفرائض بحيث يحلّ كتاب ( الحاوي ) مع عبادة ونسك”.