تفتح تصفية قادة من تنظيم القاعدة المتشدد في دول آسيوية الباب بمصراعيه أمام نقل ثقل هذا التنظيم إلى منطقة الساحل الأفريقي التي وجدت فيها الجماعات الموالية للقاعدة حاضنة شعبية واهتزازا أمنيا يسمحان لها بمزيد من التغلغل ورفع قادتها من حظوظهم في خلافة أيمن الظواهري في قيادة القاعدة.
حدث تحول في موازين القوى والفاعلية في التنظيمات التابعة للقاعدة قد يسرّع في نقل القيادة إلى معقل التنظيم الجديد في ساحل أفريقيا، وتمركز ثقل التنظيم في الأفرع النشطة هناك، والتي تزايدت تحركاتها وعملياتها في الآونة الأخيرة، بما ينذر بتغير في الواقع الجيوستراتيجي للقاعدة.
وقُتل ذراع أيمن الظواهري اليُمنى ومسؤول ملف الإعلام بالقاعدة ومدير قناة السحاب المتخصصة في نشر بيانات ومرئيات القيادة المركزية، حسام عبدالرؤوف المكنى بأبي محسن المصري، في منطقة قريبة من غزني جنوب شرق أفغانستان، بالتزامن مع مقتل مساعد آخر للظواهري مقيم بإيران وهو عبدالله أحمد عبدالله المكنى بأبي محمد المصري، مع ابنته مريم وهي أرملة حمزة بن لادن، وكلاهما كان مرشحًا لخلافة أيمن الظواهري.
وتجري تصفية بعض القادة المنتمين للقاعدة من صفوف مختلفة في المنطقة العربية وفي أفغانستان وإيران، ما يضعف نشاط وحضور أفرع التنظيم هناك، وتزداد في المقابل قوة أفرع التنظيم في أفريقيا، حيث تحتفظ بقوتها كاملة دون تعثر أو فقدان للقوة البشرية والتسليحية، وتحقق مكاسب سياسية لافتة، خاصة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي الفرع القاعدي في منطقة الساحل الأفريقي.
عززت تلك التطورات موقف إياد أغ غالي زعيم نصرة الإسلام والمسلمين فرع القاعدة في الساحل الأفريقي، كقائد محتمل للقاعدة بعد تردد أنباء بشأن غموض مصير الظواهري نفسه، في ظل تدهور حالته الصحية وسقوط مرشحين لخلافته الواحد بعد الآخر.
ولم تتوقف أدوار إياد غالي عند حدود تقوية شوكة القاعدة في أفريقيا من خلال الحروب والمواجهات العسكرية التي قادها، فضلًا عن دوره في الترويج لفكر القاعدة ومزجه بالعصبية الإثنية والقبلية المحلية، إنما تعداه لتحقيق حضور سياسي عكسته طبيعة المكاسب التي أحرزها، وآخرها نجاحه في عقد صفقة تبادل سجناء، حرر بموجبها مئة وثمانين من أعضاء تنظيمه في مقابل إطلاق سراح أربعة رهائن غربيين مختطفين لدى جماعة نصرة الإسلام.
وأكد احتفاء أنصار القاعدة بهذه الصفقة وجود أرضية مهيأة لزعامة إياد غالي ولو بصورة رمزية بدون مبايعة رسمية داخل تنظيم القاعدة، وفي نفس الوقت أحرجت هذه الحفاوة قادة أفرع القاعدة في المنطقة العربية، خاصة أبومحمد الجولاني، الذي يفعل العكس تمامًا حيث يغتال ويعتقل قادة تنظيم حراس الدين المحسوب على القاعدة المركزية.
دلالات رمزية مهمة
عرض أنصار تنظيم القاعدة صورًا لأعداد من المُطلق سراحهم وتضم أبو الدرداء الموريتاني، كما نشروا صورًا لإياد غالي وهو يحيي هؤلاء ويقيم لهم الولائم، ما جعل جماعته التي تتمدد في عمق بعض الدول الأفريقية يُنظر إليها كأقوى جماعة جهادية في المنطقة.
أدى مقتل قادة للقاعدة من المتواجدين في آسيا والشرق الأوسط إلى انكشاف القادة التقليديين المعتنقين لأدبيات التنظيم التقليدية المتعلقة بقتال العدو البعيد والجهاد العالمي، ما وضع الرهان على قادة الأفرع في أفريقيا لاستعادة الهيبة في ظل تمتعهم بالقوة والحضور اللافت داخل المجتمعات المحلية، فضلًا عن النفوذ الكبير الذي تتمتع به أفرع القاعدة في أفريقيا، بالمقارنة بمثيلاتها في آسيا.
على الرغم من أهمية القياديين اللذين تمت تصفيتهما مؤخرًا في هيكل قيادة التنظيم، إلا أن دافع قتلهما ليس متعلقًا بقيمة ما يقومان به من أدوار لا تعدو الإشراف على الإصدارات السمعية والمرئية التي يصدرها أيمن الظواهري والتحريض على تنفيذ عمليات لا تُنفذ ضد أهداف غربية، إنما لأنهما بجانب القيادي المقيم في إيران سيف العدل، واسمه الحقيقي محمد صلاح الدين زيدان، هم كانوا من المرشحين المحتملين لخلافة الظواهري في قيادة القاعدة.
قادة القاعدة المستهدفين بالتصفية الجسدية هم الأثر الوحيد المتبقي من برنامج حمزة بن لادن، الذي كان مؤملًا له ضخ الدماء في عروق القاعدة التقليدي وبعثه بعد أن شهد مرحلة كمون وتراجع خلال قيادة الظواهري.
وبدأت سلسلة التصفية بحمزة ولم تتوقف عنده، لأن الهدف منها هو محو آثار المدرسة التي تبنى منهجها بن لادن الابن، والمتعلقة بمحاولات إحياء منهج تعامل بن لادن الأب مع الغرب والثأر لمقتله عبر شن هجمات في عمق مجتمعاتهم، وبعض الدول العربية على نسق “الذئاب المنفردة”.
وانطوت عمليات استهداف قيادات الصف الثاني والثالث بتنظيم القاعدة على مخطط استباقي مدروس ضمن جهود الولايات المتحدة في مكافحة نشاط القاعدة، يتأسس على الحيلولة دون ظهور قيادة جديدة نشطة قادرة على إحياء إرث بن لادن الأب وإعادة تموضع التنظيم في قلب مسار الجهاد العالمي.
حرمان القاعدة من كبار قادته المخضرمين، بدءًا بأسامة بن لادن وليس انتهاءً بحسام عبدالرؤوف وعبدالله أحمد عبدالله، لا يؤدي فحسب إلى تراجع دور التنظيم وانخفاض منسوب مقدرته على شن هجمات حول العالم، بعد أن انحصر جهده في إعادة بناء صفوفه بعيدًا عن أعين الدرون الأميركية، إنما صب في مصلحة قيادات أفرع القاعدة في أفريقيا الذين زادت فرص هيمنتهم على مقاليد التنظيم مستقبلا، لتمتعهم بالمنعة والتحصين الحركي والتنظيمي والبشري الجيد، وتماسك الأفرع التي يديرونها ولعبها أدوارًا مهمة في مشهد الأحداث السياسية الداخلية ما أكسبها نفوذًا متزايدًا.
تخفيف الضغوط الأمنية
مقتل العديد من قيادات التنظيم المركزي المؤثرين والمرشحين لخلافة الظواهري قد يخفف الضغوط التي مورست في السابق على القادة الجدد لأفرع القاعدة في المنطقة العربية من أصحاب التوجه المحلي، ويتمتعون بمرونة وبراغماتية جعلتهم في مأمن من استهداف الأجهزة الأمنية الأميركية والغربية.
فقد هؤلاء فرص لعب أدوار على مستوى المنافسة في إدارة شؤون القاعدة المركزية نتيجة تحولهم إلى تمكين فروع القاعدة في المجتمعات والمكونات المحلية بدون روابط مع قيادة مركزية أو نشاطات تعتنق الجهاد العالمي مع الحرص على فك الارتباط التنظيمي مع القاعدة الأم في سياق نسخة جديدة تكف يدها عن الصراع مع الغرب والولايات المتحدة.
من يحظى بفرص معتبرة لإعادة لملمة شتات القاعدة مجددًا مع عدم التخلي كلية عن الصورة النمطية للقاعدة، هم قادة الأفرع الأفريقية خاصة في منطقة الساحل، وهي الأفرع التي حققت التوازن الصعب طوال عامي 2019 و2020 بين الإبقاء على صلات فكرية وحركية مع التنظيم المركزي وعدم الإعلان عن الانفصال عنه، بجانب احتفاظها بقوتها كاملة ومواصلة تنفيذ عمليات عسكرية نوعية في العديد من البلدان الأفريقية التي تنتشر وتتمركز بها، وتحقيق مكاسب سياسية رمزية، ما منح قادة تلك الأفرع الأفضلية في مضمار التنافس على القيادة المركزية.
يتمتع التنظيم الذي يقوده إياد غالي في الساحل الأفريقي بإسناد قوي من جماعات أخرى لا تزال فاعلة وناشطة كحركة الشباب الصومالية التي تنفذ عمليات وتهيمن على مناطق في كل من الصومال وكينيا.
جمع هذا القيادي بين متناقضات لا تتوفر بقادة الأفرع التي يخرج منها عادة قادة القاعدة الجدد وزعيم التنظيم المحتمل، فهو محتفظ بقوة تنظيمه الميدانية ولا يتوانى عن تنفيذ عمليات مؤثرة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
بجانب عدم تخليه عن بيعة الظواهري وأدبيات القاعدة التقليدية المتعلقة بقتال العدو البعيد، لا يزال الرجل قادرا على ترجمة تلك الشعارات إلى واقع على الأرض، من خلال الترويج لتصديه للغزوات الغربية والفرنسية ولمحاولات الدول الغربية وفي مقدمتها فرنسا الهيمنة على مقدرات مالي وقرارها السياسي، وفق الرواية التي يحرص قادة القاعدة هناك على نشرها في الأوساط الشعبية المحلية وتنظيم القاعدة ومريديه في العالم.
لم يتميز قادة الأفرع الجدد في الشرق الأوسط، مثل الجولاني عن إياد غالي وقادة القاعدة في أفريقيا من جهة المقدرة على اتباع سبل مرنة والتحول للمحلية وكسب السكان المحليين، بل تفوق في هذا الصدد القادة في أفريقيا نتيجة عدم منح الأولوية لفرض تفسيرات متشددة للشريعة والمقدرة الفعلية على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المناطق التي يهيمنون عليها.
إعادة تموضع القيادة
يسطع نجم قادة القاعدة في أفريقيا ويبرز اسم إياد غالي، كرهان يمتلك القدرة على احتواء التمزق الفكري والحركي ولملمة شتات التنظيم، في ظل فشل وعجز القيادة العامة للتنظيم المركزي في إعادة موضعة الجماعات الأخرى الموالية لها عن طريق تقريبها إلى المركز، والفشل في إقناع الكثير من الأتباع المفترضين الذين يعتنقون فكر القاعدة في تنفيذ عمليات تحت مظلة التنظيم الأم وفي ظل حالة التشتت الحركية والفكرية بين قادة تقليديين يتبنون الجهاد العالمي عاجزين عن حماية أنفسهم، وآخرين حريصين على الانفصال عن القاعدة المركزية ومتهمين بالخيانة والخذلان.
بعد أن سيطر الجهاديون من شمال أفريقيا، خاصة في ليبيا وتونس والجزائر، على الساحة الجهادية وعلى تنظيم القاعدة في أفريقيا والمنطقة العربية لفترات طويلة، تبدلت الأوضاع بعد مقتل قائد القاعدة في المغرب الإسلامي عبدالملك دروكدال في يونيو الماضي، حيث انتقل مركز الثقل إلى موقع قريب جغرافيًا، وهو منطقة الساحل الأفريقي.
ضعف جماعة دروكدال التي لا تزال من دون قائد بعد مرور قرابة خمسة أشهر على قتله، وهو ما لم يحدث من قبل خلال ثلاثين عامًا من العمل في شمال أفريقيا، يمنح السلطات في الجزائر ودول الشمال الأفريقي الفرص في القضاء على فروع القاعدة في دولهم.
ضاعف تراجع وانحسار نشاط القاعدة في بعض الدول العربية فرص تعزيز نفوذ إياد غالي وتنظيمه المنتشر في الصحراء الكبرى.
وتتضاءل فرص استعادة فرع القاعدة في جزيرة العرب لسطوته القديمة عندما كان يُنظر إليه كأقوى أفرع القاعدة الأم والأقرب إلى المركز، بالنظر إلى ما يعانيه من قصور عملياتي نتيجة تعقيدات الصراع باليمن، فضلًا عن أزمة القيادة والانشقاقات الكبرى داخل التنظيم منذ مقتل زعيمه السابق قاسم الريمي وغموض مصير قائده الحالي خالد باطرفي.
نجم قادة القاعدة في أفريقيا سطع ومعه يبرز اسم إياد غالي، كرهان يمتلك القدرة على لملمة شتات التنظيم في ظل فشل قيادته العامة والمركزية وعجزها عن إعادة تموضع الجماعات الأخرى الموالية لها.
واجهت الجماعات الموالية للقاعدة في الشرق الأوسط تحديات جسيمة، ونتج عن تراجع قدراتها العملياتية تحويل موازين القوى بعيدًا عن الجماعات المتمركزة هناك، فيما حافظ فرع القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي، ممثلاً بجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، على وتيرة نشاطه في أكثر من بلد أفريقي تعاني حكومته ضعفًا وتفككًا وتعجز أجهزتها الأمنية عن السيطرة على مناطق واسعة من دولها ذات المساحات الشاسعة.
وتتجه الأنظار إلى جماعات الهامش التي صارت الآن بمثابة المركز، وسط الصراع المحتدم على قيادة تنظيم القاعدة، ومن يخلف الظواهري، لأن هناك بالفعل اعتراضات على الأسماء المرشحة لتزعم التنظيم، ولا تلقى قبولاً عند أتباع التنظيم قبل استهدافها من قبل أجهزة المخابرات الغربية.
وترتفع أسهم إياد غالي، وغيره من قادة القاعدة بأفريقيا، كقادة مرشحين لقيادة القاعدة في المرحلة المقبلة، مع تطلع أتباع التنظيم إلى ظهور قيادة جديدة قادرة على إعادة تموضع الجماعات الأخرى الموالية للتنظيم الأم عن طريق تقريبها إلى المركز، وإلى صعود قائد جديد متحمس قادر على إنقاذ أدبيات التنظيم التقليدية وحمايتها بما يملكه من قوة مادية، عوضًا عن أيمن الظواهري الذي وُصف بالأمير المسردب نظرًا لكمونه وعجزه وانعزاله عن الواقع والأحداث.
*كاتب مصري