الصومال اليوم

مصر متضررة من حرب إثيوبيا

يعتقد البعض خطأ أن مصر أكبر المستفيدين من اندلاع حرب أهلية في إثيوبيا تأكل الأخضر واليابس هناك، وألمحوا إلى دور مخابراتي للقاهرة أسهم في اشتعال الموقف في إقليم تيغراي مؤخرا، بما دفع الحكومة المركزية إلى استخدام الآلة العسكرية لمحاولة حسم الموقف لصالحها مبكرا.

فعّل هؤلاء نظرية المؤامرة، ونسجوا في خيالهم تقديرات روّجوا لها في بعض وسائل الإعلام، اعتمدوا فيها على الأزمة الناشبة بين القاهرة وأديس أبابا بسبب سد النهضة.

أخطأ أنصار هذا التصور القاتم مرتين. مرة لأن السد الإثيوبي أصبح واقعا ملموسا، بصرف النظر عن مصير الحكومة الراهنة في إثيوبيا. ومرة ثانية لأن الخلاف أصلا ليس على أهمية السد التنموية، بل على طُرق الملء والتشغيل والحفاظ على مصالح جميع الأطراف عبر التوصل إلى اتفاق ملزم.

أدى التوظيف السياسي للسد من قبل حكومة أديس أبابا، إلى التعنّت الذي أبدته في المفاوضات، والتحايل على الوساطات الإقليمية والدولية، معتقدة أن المشروع كفيل بجمع شمل الشعوب الإثيوبية المفككة، وتجاهل المشكلات الداخلية المتراكمة.

تغافل من روجّوا للمؤامرة الكثير من الحقائق، وأهمها أن إثيوبيا بلد متعدد العرقيات والإثنيات، خاضت معارك بينية متفرقة طوال العقود الماضية، وليست بحاجة إلى من يوقظها أو يؤججها، وكانت ملامح التوتر ظاهرة في أقاليم عدة، وفي مقدمتها تيغراي، الذي أجرى انتخابات من دون موافقة الحكومة المركزية وقرر تحدّيها.

شهدت العاصمة أديس أبابا تظاهرات واحتجاجات قبل تولي آبي أحمد رئاسة الحكومة منذ حوالي عامين ونصف، وبعد توليه، ولم تهدأ الانتقادات الموجهة إليه بسبب تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية، بمعنى أن هناك مقدمات عملية على حدوث انفجار في الداخل، ليس له علاقة من قريب أو من بعيد بسد النهضة أو الأزمة مع القاهرة.

تقود المعارك التي اندلعت في تيغراي إلى احتمال إيقاظ المزيد من النعرات بين أقاليم مختلفة، تتفاوت في مستوى المساهمة في السلطة المركزية، وبينها احتقانات تاريخية، وإذا لم يتم وأد أو احتواء الأزمة مع الإقليم فقد تجد أديس أبابا نفسها أمام بركان من المشكلات التي تتغذى على فسيفساء عرقية لها امتدادات خارج الحدود.

أكدت التقارير الواردة من إثيوبيا خلال اليومين الماضيين فرار الآلاف من المواطنين إلى الأراضي السودانية، وزادت حدة الإشارات إلى تدخل إريتريا، أو عدم استبعاد انخراطها في الحرب الإثيوبية والخروج من النطاق المحلي للأزمة إلى الفضاء الإقليمي، بكل ما ينطوي عليه من تداعيات سلبية على الاستقرار في دول حوض النيل، والهدوء في شرق أفريقيا، وهما يمثلان مجالا حيويا للأمن القومي المصري.

ما يجري في إثيوبيا يتجاوز الخلافات مع مصر حول سد النهضة، لأن الخطاب الذي قام عليه المشروع وما صاحبه من دعاية سياسية واسعة لم يحققا الغرض في التفاف الشعوب الإثيوبية لدعم رئيس الحكومة، وتمكينه من تجاوز أزماته الداخلية.

تقود هذه النتيجة إلى التفكير في إعادة التموضع في المفاوضات مع القاهرة والخرطوم، إذا قدر له الخروج سالما من الأزمة مع تيغراي، لأن ورقة السد أخفقت في تحقيق هدفها داخليا، وفتحت جروحا لأديس أبابا مع قوى إقليمية ودولية.

ترفض الإدارة المصرية التدخل في الأزمات الإقليمية، وتعمل على إطفائها لا إشعالها، وتميل دائما إلى الحلول السلمية، ولم تضبط طوال السنوات الماضية متورطة في توظيف أي من النزاعات في الدول التي بينها خلافات، وعلى العكس تعتقد أن الهدوء والاستقرار حماية أساسية لمصالح الجميع.

يزداد هذا التوجه أهمية حيال إثيوبيا، لأن أي تدهور يحمل معه ارتدادات إقليمية، وقد يتعثر مشروع سد النهضة بعض الشيء أو يتأخر استكماله، حال استمرار أزمة تيغراي، لكن يمكن أن ينتهي بمجرد وجود حكومة توافقية قوية، أو تتمكن الحكومة الحالية من بسط قبضتها، فالرهان على وقف المشروع تماما فاشل.

تخشى القاهرة من استثمار بعض القوى الخارجية للأزمة الإثيوبية والعمل على تكريسها، وإشاعة المزيد من الفوضى في المنطقة، والتي أدت في الصومال إلى دخول متغيرات أثرت على التوازنات التقليدية، ووجدت بعض القوى فرصة في تعميم الانفلات لخدمة مصالحها.

زاد اقتراب دول مثل تركيا وقطر وإيران، بكل ما تحمله من أجندات خفية ومعلنة، مع استمرار الأزمة في الصومال، وتصاعد نفوذ كل منها مع تعاظم دور الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية، وتحول هذا البلد إلى مكان آمن لعناصرها، وهو ما وجدت فيه الدول الثلاث طريقا للاستثمار السياسي والأمني، وخلق واقع يخدم أهدافها.

تخوض مصر حربا ضارية ضد الإرهاب في الداخل، وترى أن نكبتها في روافده الخارجية، من ليبيا إلى السودان، وقد تكون ارتاحت مع سقوط نظام عمر البشير في الخرطوم، الذي كان حاضنة مهمّة للمتشددين والإرهابيين من دول مختلفة، وغير مستعدة لأن يتحول نفوذ هؤلاء إلى إثيوبيا، مع استمرار تفكك الصومال.

تضع حركة الشباب الإسلامية النشطة في الصومال عينيها على ما يجري في إثيوبيا، ولن تعدم الدول التي تدعمها في العثور على وسيلة لمساعدتها على تمدّد نفوذها هناك عبر الحدود المشتركة، حيث يجد هذا المعسكر ملاذا في الصراعات والنزاعات لانتعاش آماله في التوسع، وتشكيل بؤرة في قلب دول حوض النيل التي تتكون من موزاييك ديني خطير.

ضبطت كل من أديس أبابا والخرطوم شحنات أسلحة مختلفة متجهة إلى إثيوبيا وقادمة من تركيا في الآونة الأخيرة، سلكت دروبا ودهاليز من خلال دول مجاورة كي تتمكن من الوصول إلى هدفها، وهو تسليمها إلى متعهدين في الأراضي الإثيوبية. وتمت التغطية على تفاصيل الشحنات المختلفة، ولم توجه اتهامات رسمية إلى أنقرة.

تؤكد هذه النوعية من الأحداث أن انفجار الأوضاع الداخلية في إثيوبيا آخر شيء يمكن أن تبحث عنه مصر للدفاع عن مصالحها، أو حل سد النهضة، وقد تكون تكلفة عمل عسكري محدود أقل وطأة، إذا قورنت بتكاليف تصدّع إثيوبيا على المدى البعيد.

يوفر هذا الطريق لتركيا التي تنتعش سياستها في الصراعات، فرصة للاقتراب من منابع النيل عبر أذرعها من المتطرفين والمرتزقة، وربما تحركهم في هذا الاتجاه، وتطويق مصر من الجنوب، وابتزازها أو مساومتها، وهو مسار أشبه بالكوابيس الذي يصعب على القاهرة أن تستيقظ وتجده ماثلا أمامها.

من نسجوا سيناريو لدور ما للقاهرة في أزمة إثيوبيا فاتهم أن أي انهيار هناك سوف يمثل تهديدا وجوديا لمصر في ظل قدرة تركيا على الاستفادة من الصراعات، ونجاحها في تطوير العلاقة مع العديد من التنظيمات المتطرفة التي تضع بصرها على إثيوبيا، وحاولت اختراقها من جبهة الصومال، غير أن تماسك الدولة وقوتها حالا دونها.

*كاتب مصري

Exit mobile version