الصومال اليوم

خواطر دعوية

رُوي أن الإمام مالك رحمه الله تعالى لما التقي الخليفة العباسي هارون الرشيد أثناء زيارته المدينة النبوية طلب منه أن يأتي إلى مجلسه ليُسمع غلمانه وأولاده كتابه الموطأ، فأجاب الإمام مالك قائلا : ” أعز الله أمير المؤمنين ، إن العلم منكم خرج ، فإن أعززتموه عزّ ، وإن ذللتموه ذلّ ، والعلم يُؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت ، أُخرجوا إلى المسجد ، حتى تسمعوا مع الناس ” البداية والنهاية ١٠/١٧٤.

الرحلة إلى طلب العلم ولقاء العلماء من مآثر ومحامد المسلمين منذ شروق شمس الإسلام على البسيطة إلى يومنا هذا، وإن اختلفت حيويتها ونشاطها من زمان لآخر  ، وكان كبار العلماء وطلبة العلم يتنقلون بين حواضر العلم والفقه والحديث وعلوم اللغة والآلة وتوابعها في كبريات مدن المسلمين ،  من أقصى بلاد ما وراء النهر مثل بخارى وسمرقند ومرو ، مرورا ببغداد وكوفة والبصرى وبلاد الشام ومصر ومكة والمدينة وصنعاء وغير ذلك من المدن العلمية .

الشيئ الوحيد الذي كان يحرك هؤلاء الطلبة ويجعلهم يرحلون عن أوطانهم ويتجشمون بقطع المفارز ويعرضون أنفسهم للمهالك مع شظف العيش وبعد الأهل والأقارب هو الهمة العالية وطلب مرضاة الله تعالى والفوز بالوعد الذي أجراه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ( من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك اللَّهُ به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء ، إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ ) رواه الترمذي بسند صحيح.

لم تعد رحلة طلب العلم كما كانت عليه في قديم الزمان وخاصة في هذه الأزمنة الأخيرة، بسبب تدني الهمم وانصراف الناس إلى الدنيا، وأكثر من ذلك فإن الدولة الحديثة أعرضت عن حاملي العلم الشرعي ولا توفر لهم وظائف ومهن توفر لهم العيش والستر، ولذلك أصبح العلم بعيدا عن اهتمام الناس إلا ما نذر .

وقد أصبحت محاضن العلم ومجالس الفقه فارغة لا يقصد إليها إلا القليل من الناس، بل لو تجشم الداعية مشقة السفر من أجل إلقاء موعظة لا يحضر كلمته إلا قليل من الناس، كيف لو جلس للتدريس والتعليم.

وقد تنبه لهذه المعضلة بأن العلم أصبح غريبا بين أهله وأن الناس لم يعودوا يبحثون عنه تعلما وتفقها بل يجب على العلماء والدعاة أن يدوروا على الناس ويبحثوا عنهم من أجل إبلاغ رسالة الإسلام وتعليمهم ولا ينتظروا حتي يقصد الناس إليهم لأن الزمن قد تغير وتبدل  ، العلامة الجزائري البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى وقال  في رسالته ” وظيفة العلماء ”  : ( إن علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادة من الزهو الكاذب والدعوى الفارغة ، فجرّتهم إلى  آداب خصوصية ، منها أنهم يلزمون بيوتهم أو مساجدهم كما يلزم التاجر متجره ، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلّموهم ، فإذا لم يأتهم أحدٌ تسخطوا على الزمان وعلى الناس ، ويتوكؤون في ذلك بكلمة إن صدقت في زمان فإنها لا تصدق في كل زمان وهي: ( إن العلم يُؤتى ولا يأتي ) . وإنما تصدق هذه الكلمة في علم غير علم الدين، وإنما تصدق بالنسبة إليه في جيل عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أما في زمننا وما قبله بقرون فإن التعليم والإرشاد والتذكير أصبحت باباً‌ من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد ، وإنما يكون في الميادين ، حيث يلتقي العدو بالعدو كفاحاً ، وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد ، وأعتب عليه تقصيره فيه : إن هذه الكلمة قالها مالكٌ للرشيد.

فقلت لـه: إن هذا قياس مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم، أما زمانك هذا فإن هذه الخلة منك ومن مشايخك ومشايخهم أدت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك.

فالشبهات التي ترد على العوام لا تجد من يطردها عن عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقرب إليهم منكم، وأكثر اختلاطاً بهم منكم ، والأقاليم الأفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا إصلاح ، ففي هذا الزمن يجب علي و عليك وعلى أفراد هذا الصنف أن نتجند لدفع العوادي على الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس ، فإنهم لا يأتوننا وقد انصرفوا عنا وليسوا براجعين ، وإذا كان المرابطون في الثغور يقفون أنفسهم لصد الجنود العدوة  المغيرة على الأوطان الإسلامية ، فإن وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا أنفسهم لصد المعاني المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه ، وهي أفتك من الجنود ؛ لأنها خفية المسارب ، غرارة الظواهر ، سهلة المداخل إلى النفوس ، تأتي في صورة الضيف فلا تلبث أن تطرد رب الدار ” .

فقد صدق العلامة الإبراهيمي لأن مقولة ” العلم يُؤتي ولا يأتي ” وإن صدقت في زمن لا تصدق في كل زمان ومكان، لأن كلام البشر مهما عظم شأن قائله فهو قاصر غير كامل، لذا يجب على الدعاة وطلبة العلم ألا يكونوا رهينة لها بل عليهم تطوير أساليبهم الدعوية والسعي إليهاحتى يتمكنوا تبليغ رسالة الإسلام إلى المعمورة كافة.

كان من أمر نبينا صلى الله عليه وسلم في أول البعثة أن يذهب ويطوف في مساكن ومنازل العرب في منى ونواحيها في فترة الحج ليعرض عليهم الإسلام، ولم يكتف على ذلك بل ذهب إلى الطائف للدعوة، وأرسل بعض صحابته إلى المدينة واليمن وغير ذلك من حواضر العرب في ذلك الزمان، ثم واصلت الصحابة مسيرته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فتفرقت في البلاد من أجل الدعوة والتعليم.

إذا فالزمن قد تغير، والهمم لم تعد كما كانت من قبل، والجهل وصل إلى مستوى لا مثيل له، والعلم صار غريبا بين أهله، ولم يبق للعلماء والدعاة مقاما يذكر بين دنيا الناس، ولأجل ذلك ينبغي لطلبة العلم والدعاة أن لا ينتظروا حتى يأتي الناس إليهم بل يجب عليهم أن يأخذوا زمام المبادرة ويقتحموا مجالس الناس ومنتدياتهم ويعرضوا عليهم العلم والخير ، فمن لم يستطع ذلك فلا ينسى أن يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي في الدعوة ونشر العلم وتعليم الناس وتثقيفهم لأن تأثيرها لم يعد خافيا .

وفق الله تعالى الجميع بما فيه صلاح ديننا ودنيانا.

د. عبد الباسط شيخ إبراهيم ميلو

يوم الخميس ٢٦/٣/١٤٤٢ه

١٢/١١/٢٠٢٠م

Exit mobile version