يكشف جنوح رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للحرب بإقليم تيغراي في مواجهة ما يصفه بالتمرد الانفصالي هناك، قصور مقاربته الإصلاحية في أبعادها الاجتماعية رغم بعض النجاحات الاقتصادية. ورغم حصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام العام الماضي إلا أنه فشل في منع اندلاع اضطرابات عرقية، ما أحبط آمال المجتمع الدولي في تجنب المزيد من الأزمات في محيط إقليمي مضطرب أصلا.
بدأ من تفاءلوا بصعود آبي أحمد إلى رئاسة الحكومة الإثيوبية منذ عامين ونصف العام يراجعون مواقفهم المؤيدة له كرجل للأمن والاستقرار في المنطقة، حيث تسببت سياساته في عودة شبح الحرب الأهلية في بلاده، بعد أن أمر الجيش بالتدخل عسكريا في إقليم تيغراي، الذي أعلن رفضه للكثير من تصرفات رئيس الحكومة المركزية.
تكمن المفارقة في أن رئيس الوزراء الإثيوبي حصل منذ نحو عام على جائزة نوبل للسلام تأييدا وتشجيعا على التحركات التي قام بها حيال الجارة إريتريا، وطي واحدة من الصفحات القاتمة في منطقة حيوية، عقب التوقيع على اتفاق سلام مع قيادتها بعيد وصوله إلى السلطة عبر وساطة سعودية إماراتية، ما يمثل دعما لخطواته الإصلاحية.
وطرح التعامل بخشونة مع التطورات المتسارعة إشكالية تتعلق بسمعة القائد الخارجية ومسؤوليته السياسية في الداخل، حيث فضّل آبي أحمد الثانية على الأولى، وكشف تعامله مع أزمة تيغراي أنه غير مكترث بما فرضته عليه جائزة نوبل للسلام من قيود معنوية، وأنه على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى لقمع ما يعتبره تمردا على السلطة.
لكن جهات معارضة، في مقدمتها جوهر محمد، رفيق درب آبي أحمد الذي انفصل عنه مبكرا وتحول إلى جبهة المعارضة، أكدت أن رئيس وزراء إثيوبيا لم يكن إصلاحيا حقيقيا، ولجأ إلى رداء السلام لتسويق نفسه لدى جهات دولية بهذه الصفة.
لم يتقدم السلام مع إريتريا بصورة عملية، أو تتخذ أديس أبابا خطوات تعكس الرغبة في تطويره، وحنث آبي أحمد برغبته في تصفير أزمات بلاده في المنطقة، وانخرط في المزيد من مشكلات الصومال، ومد بصره للهيمنة على موانئ في البلد المنكوب.
زادت الخلافات مع الخرطوم بعد أن كانت من أهم العواصم لقلب وعقل أديس أبابا، وأسهم الدور السلمي الذي لعبته في تقريب المسافات بين قوى سودانية، عقب الإطاحة بنظام عمر البشير، في تعزيز أحقية آبي أحمد بجائز نوبل، ومكانته كزعيم واعد.
لعنة نوبل
منحته جائزة نوبل المزيد من الصلف بدل الثقة، وضاعف من تحركاته لتقويض الأزمات وعدم توفير السلام في المحيط الإقليمي، مع أن حيثيات الجائزة اعتمدت على خطوته الكبيرة نحو إريتريا، لكن يبدو أنه فهمها (الجائزة) على محمل آخر، حيث اعتبرها شيكا على بياض يخوّل له بيع وشراء البضاعة التي يريدها.
لجأ إلى التصعيد بدلا من السلام، وافتعل مشكلات من الممكن حلها سياسيا، معتقدا أن زيادة الخصوم في الخارج يضمن له وحدة الجبهة الداخلية التي تتسم بالرخاوة السياسية والعسكرية والاجتماعية، وفقا لقاعدة متداولة تقول “إذا أردت أن توحد شعبا فأوجد له عدوا (أعداء) خارجيا”.
فتح الرجل كوة للمناوشات مع السودان في جدار الحدود المسكوت عن أزماتها المتقطعة، ووقعت اشتباكات غير معهودة بين قوات إثيوبية وأخرى سودانية، بعضها جاء عفويا جراء تحرك الرعاة على الجانبين، وبعضها كان مقصودا للضغط على الخرطوم لعدم تغيير موقفها من سد النهضة، وتظل على ثباتها في تأييده بلا تحفظات.
ضاعف آبي أحمد من تعنته بما وصل إلى حد الغطرسة مع مصر بشأن توقيع اتفاق ملزم يضمن حقوق جميع الأطراف، وعدم الجور على مصالح أحدها، وأمعن في الخلاف معها، والتلويح بخطاب التصعيد على حساب السلام.
أفشل وساطة الولايات المتحدة والبنك الدولي، وعلى وشك إعلان فشل وساطة الاتحاد الأفريقي بعد أسابيع طويلة من المفاوضات، ولم يعبأ بتقليص جزء من المساعدات الاقتصادية الأميركية أو التلويح بممارسة ضغوط دولية عليه، وتعمد الإنجرار إلى الصلف مع القاهرة وتجاهل الليونة التي حافظ عليها خطاب مصر السياسي.
استغل آبي أحمد الثقة التي منحت له من جهات إقليمية ودولية عدة لضبط إيقاع منطقة قلقة من العالم، ولم يدرك خطورة التمادي في خرقها، وما يفضي إليه رفع الغطاء السياسي الذي وفّر له جاذبية نادرة وحوّله إلى أيقونة للسلام، وساعده في تخفيف عبء المشكلات الواقعة عليه في الداخل.
بين الداخل والخارج
حصر أزماته في مشروع سد النهضة لدغدغة مشاعر الإثيوبيين والخروج بهم من النفق الاقتصادي المظلم، ووجد نافذة مصر لتوجيه الأنظار إليها للتغطية على أزماته في الداخل، إلى أن جاءت لحظة مكاشفة لم ينقذه فيها خطابه العدائي تجاه مصر، التي تمكنت من الحصول على تعاطف جهات عديدة، بدأت تحمّل إثيوبيا مسؤولية عدم حل أزمة سد النهضة، الأمر الذي لم يردعه للتنازل.
خلط رئيس وزراء إثيوبيا بين أزماته في الداخل والخارج، وتصور خطأ أن التصعيد في الثانية يقلل من درجة الحرارة في الأولى، وكانت النتيجة أن الرجل يواجه سخونة على المستويين، أخفق في معالجة مشكلاته المحلية، وأخفق في ترطيب العلاقات الإقليمية، وزادت على ذلك شكوك جهات دولية في تفضيله لآلة الحرب على آلة السلام.
كشفت التصرفات الأخيرة، أن آبي أحمد يميل لضرب عرض الحائط بكل الوعود التي أعلنها منذ وصوله إلى رئاسة الحكومة بشأن الإصلاحات المطلوبة في بلد يملك ميراثا اجتماعيا متشابكا ومعقدا، وأقدم على ممارسات تؤكد أنه يريد الهيمنة على السلطة، مستغلا فكرة التداخل بين المسميات والتوصيفات.
راجت عبارات من قبيل، الشاب الطموح والمصلح الاجتماعي، الحرس القديم والديمقراطية، رجل الأمن والاستقرار، المسلم المسيحي، السياسي العسكري، وساعدته هذه المفردات في إيجاد صورة ذهنية إيجابية، عندما حل تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية الحاكمة في ديسمبر الماضي، وشكل حزب “الازدهار”، وأزاح غالبية خصومه الحاليين والمحتملين في الحكم والمعارضة.
جاءت مشكلة آبي أحمد الرئيسية من عدم تقديره الدقيق لطبيعة المشكلات التي يموج بها بلد في حجم إثيوبيا، يتكون من فسيفساء سياسية واجتماعية وعسكرية غاية في الحساسية، وتعامل مع ذلك بطريقة إقصائية فوقية، وليست حوارية تفاهمية، وتغافل عن إمكانية أن يؤدي انفلات مارد الفسيفساء إلى إنهاء الحد الأدنى من الأمن والاستقرار في شرق أفريقيا برمتها.
تصرف مثل دكتاتور ولم يقدّر جيدا أن صعوده بني على رغبة قوى كبرى في جلب السلام وتوفير الاستقرار، حيث خلف هايلي ماريام ديسالين في الحكومة بعد أن شهدت البلاد في عهده تظاهرات كادت تعصف بها.
أعاد إنتاج تصرفات من سبقوه في وضع مقاليد السلطة ومفاتيحها السياسية والعسكرية في حوزته، وفقد البريق الذي أحيط به منذ صعوده، وأزيحت عنه الهالة التي رافقته منذ حصوله على نوبل، ولم تتوقف التظاهرات في الشارع، ما يهدد وحدة أقاليم الدولة.
مثل خروج إقليم تيغراي عن طوعه وإجراء انتخابات، ضربة قاصمة لظهر آبي أحمد، ففي الداخل بدا كرئيس حكومة غير قادر على القبض على دفة الأمور، وغير ديمقراطي بالمرة لأنه فوت موعد إجراء الانتخابات العامة في أغسطس الماضي، وقرر تجميدها لأجل غير مسمى، وفي الخارج بدا كزعيم أكثر ميلا للتصعيد.
أدى خروج تيغراي عن طوعه إلى فقدان جانب كبير من الهيبة السياسية، فلجأ إلى الخشونة العسكرية، بما ينذر بالاقتتال الأهلي، وعودة شبح حرب تجاوزتها البلاد منذ سنوات، وبالتالي التأثير سلبا على كل المشروعات التنموية التي اعتقد أنها ورقته الرابحة للإجماع والاندماج الوطني.
تعيد التطورات الراهنة أجواء غامضة سادت إثيوبيا فترات طويلة، وينذر الاحتقان بفوضى ربما يصعب تطويقها، تتجاوز المواجهة بين الحكومة المركزية وإقليم تيغراي، ويمكن أن تتمدد إلى أقاليم أخرى تواجه معاناة متفاوتة، ولم تعد مرتاحة لتصورات آبي أحمد الذي تضخم معنويا، معتقدا أن قوى كبرى لا تزال تؤازره.
بات الرجل قريبا من سيناريو التخلص منه بنعومة، مثل سلفه ديسالين، وما يقلل من هذا الطريق أن التغييرات التي أدخلت على الحزب الحاكم “الازدهار” قلبت توازنات قوى كثيرة، وقضت على جزء معتبر كان يعد رمانة ميزان في المواقف الحرجة.
ولذلك إما أن ينجح آبي أحمد في سحق تمرد تيغراي ويتغلب على جراحه، وهذه مسألة تحيط بها شكوك، لقوة تيغراي وخبرته العسكرية الممتدة وتعاطف أقاليم معه، وإما يتعرض لانتكاسات مختلفة تقضي على مستقبله السياسي، وفي الحالتين انتقل رئيس وزراء إثيوبيا من خانة السلام إلى مربع الحرب.
*كاتب مصري