“أرى أنه من المُعيب أن نقارن بين شخصية إختلفنا أو إتفقنا معها مثل المُفكر الراحل “حسن الترابي” وبين شخص خدمه تملقه وخنوعه وطمعه في الوصول إلى ما وصل إليه، فالفرق كبير بين المرتكز الذي يراه صاحبه أخلاقياً يستحق الموت لأجله وبين الهاوية التي تدفع المرء دفعاً أن يهرول إليها مسرعاً ظناً منه أنه سيشكل فارقاً في ذاكرة شعوب دأبت منذ بدء الخليقة أن لا تتذكر الهاوية بمقدارما تتذكر كمية المتساقطين فيها مع قناعتي الكاملة بحرية الإختيار التي حبانا الله بها كبشر لنا مطلق الحرية بإختيار ما الذي نريد أن نكون عليه لا ما نُجبر على فعله، فلا إجبار في الإستقامة الأخلاقية ولا إجبار في ركّلها وقس على ذلك”.
بتلك الكلمات الموجزة بدأت حديثي حول “واقع النخب الإفريقية” رداً على أحد الحضور الذي حاول تحويل النقاش العلمي إلى الترويج لإحدى الشخصيات تقرباً لمجدٍ يبدو أبعد ما يكون عنه.
عند الحديث عن مستقبل العلاقات الخليجية الإفريقية لابد أن يُدرك القارىء الخليجي حقيقتان: الحقيقة الأولى هو أن واقع تلك العلاقات يتباين وبشكل دقيق بين القيادة السياسية الإفريقية وبين النخب الإفريقية، ففي الوقت الذي ترى فيه القيادة السياسية بأن مستقبل تلك العلاقات بات أكثر وضوحاً ولا ينقصه إلا الإتفاق على المحددات المستقبلية، ترى النخب الإفريقية بأن مستقبل تلك العلاقات مرهون بالتطورات الدولية وتداخل نظرية “الصراع” مع الحرب “بالوكالة”، أما الحقيقة الثانية هي أن واقع النخب الإفريقية التي لم تتلوث بالمال السياسي يختلف تماماً عما يتم تداوله في الصحف الأوروبية فهذه النُخب تواجه وبشراسة سياسة شراء الذمم وإغراء المناصب التي تُمارسها السلطات عليهم وإبعادهم قسراً عن مراكز إتخاذ القرار لا تراه تلك النُخب بكثير من الأهمية لأنهم يُدركون أن أغلب السياسات في بلدانهم تأتي في قوالب مُعلبة من الخارج ولا مجال فيها للنظر وبالتالي ما الذي سيجنونة من إقترابهم من السلطة التي غالباً ما تتخلص من معارضيها السابقين الذي تحولوا إلى مؤيديها الحاليين بعد إستخدامهم وكشفهم أمام الملأ، لذلك ترى بعض النُخب أن العمل في المنظمات والمؤسسات الدولية هو الحل لإصلاح الوطن من الداخل وجائزة الحكم الرشيد للزعامة الافريقية خير دليل على ذلك.
من باب الحرص على إيصال الرؤية الإفريقية للقارىء الخليجي وفي ضوء التجاذب بين القيادة السياسية الإفريقية والنخب الإفريقية برزت رؤية ترى أن الدور الخليجي في الساحة الإفريقية ووفقاً لوجهة نظر “إفريقية” هو دور جديد وبالتالي غير مؤهل للعب دور”مؤثر” على مستقبل القارة الإفريقية وهذا ما يعزز رؤية تلك النخب التي باتت تتبنى قناعة بأن المصالح الخليجية في إفريقيا هي مصالح مُرتبطة بما تتوافق عليه القوى الدولية الفاعلة في إفريقيا وليس بما تقرره دول الخليج مما ينفي عن تلك المصالح صفة “الإستقلالية” وبالتالي لا يمكن أن تؤسس لمرحلة مستقبلية قادمة وهذا ما يدعم مقولة “المصالح المؤقتة” التي سينتهي دورها بإنتهاء الدور المُحدد لها، وباتت تلك الرؤية من أهم العوائق التي تحيط بمستقبل العلاقات الخليجية الإفريقية، مع تأكيد بعض النخب الافريقية بأن الأطراف الخليجية واقفة على طرفي “نقيض” وتفتقر لرؤية مشتركة داعمة لتوحيد الجهود خاصة أن هناك الكثير من الملفات الأمنية والسياسية والإقتصادية والثقافية في إفريقيا لا يمكن للدور الخليجي فيها أن ينجح إلا عبر تكاتف الجهود الجماعية بين دول مجلس التعاون الخليجي.
بناءاً على ذلك أرى أن تعمل دول الخليج العربي على وضع إستراتيجية “متوسطة المدى” يتم فيها إستثمار الملفات التي تتفوق فيها عاصمة خليجية ما على نظيراتها الخليجيات، فعلى سبيل المثال يمكن الإستثمار في الدور البحريني في القارة الإفريقية حيث تتفوق المنامة على شقيقاتها الخليجيات في تطوير القطاع المصرفي في إفريقيا بدليل إنتشار سلسلة مصرف “السلام” في العديد من الدول الإفريقية والذي قدم مفهوم للخدمات المصرفية يعمل على تقاسم المخاطرة بدلاً من الفائدة، كما يمكن المراهنة على الدور “العُماني” التاريخي في القارة الإفريقية والذي لا يزال يُشكّل رقماً في الوجدان الشعبي الإفريقي وهو ما أهّل “مسقط” اليوم للعب دور أكبر في منطقة البحيرات العظمى وشرق القارة وصولاً إلى جنوبها، أما الدور “السعودي” فبعد نجاحه في تجاوز الصورة النمطية إلى صورة أكثر واقعية، تبنت “الرياض” إستراتيجية جديدة في منطقة الساحل والجنوب الإفريقي ساهمت إيجاباً في تغيير النظرة الإفريقية للتوجه السعودي المعاصر في القارة الإفريقية وهذا ما يُفسر ثقة مؤسسات التنمية والطاقة في إفريقيا بالرؤية المستقبلية السعودية لسوق الطاقة الإفريقي، أما الدور “القطري” فبات يطلق عليه في القارة الإفريقية “دور الأفاق الإستراتيجية” والذي برز منذ نجاح “الدوحة” في عقد المصالحة بين حكومة الإنقاذ برئاسة الرئيس السوداني السابق “عمر البشير” والقوى السياسية في دارفورعام 2011، وإستضافة مؤتمر المصالحة الوطنية التشادية عام 2022 مما ساهم في تعزيز ثقة المؤسسات الإفريقية في الدبلوماسية القطرية التي وجدت في تبني إستراتيجية حل النزاعات فرصة لتعزيز دورها في إفريقيا.
يحمل المستقبل القريب الكثير من التحديات التي ستقف حجر عثرة أمام مستقبل العلاقات الخليجية الأفريقية إذا لم يتم تبني رؤية خليجية سياسية وإعلامية موحدة وموجهة للقارة الإفريقية يتم فيها وأد الخلافات والتركيز على متطلبات المرحلة القادمة.
*باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي