باستراتيجيات وتكتيكات جديدة، يتمدد الإرهاب في غرب أفريقيا خلال السنوات الخمس الأخيرة عبر “منافذ المناطق الهشة”، ومن ثم توسيع دائرة وجوده وتنفيذ عمليات إرهابية لإثبات واستعراض نفوذه.
كان أحدثها إحباط جيش النيجر مدعوما بقوات “برخان” الفرنسية هجوما لتنظيم داعش الإرهابي في منطقة ميامي بالقرب من الحدود المالية، وسبقته عمليات عديدة قتل فيها العشرات، فيما كان يناير/كانون الأول 2020، الأكثر دموية بالنسبة لجيشي النيجر ومالي على وجه الخصوص؛ حيث قُتل في التاسع من هذا الشهر 89 جنديا من النيجر قرب الحدود المالية على يد عناصر التنظيم الإرهابي.
والمناطق بين النيجر ومالي وتشاد وصولا إلى ليبيا تستخدمها التنظيمات الإرهابية لتهريب المسلحين والسلاح والمخدرات والوقود والمهاجرين، وهي مناطق “قلق” أمني دائم لهذه الدول.
وتصاعد الإرهاب في بوركينا فاسو ومالي وغرب النيجر بشكل أسرع من أي منطقة أخرى في أفريقيا، بزيادة 140 بالمئة منذ عام 2020، وأسفر هذا عن مقتل 8 آلاف شخص، ونزوح 2.5 مليون، ووفقا لتقرير مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية، ومقره واشنطن، فيما وصل عدد ضحايا هجمات تنظيم داعش وحده، خلال 2022، إلى حوالي ألف قتيل.
وخلال الأشهر العشرة الأخيرة، ارتكبت جماعات مسلحة بينها تنظيم “داعش” الإرهابي بمنطقة الصحراء الكبرى، وتحالف “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، عدة مجازر راح ضحيتها عشرات الجنود في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ناهيك عن جنود فرنسيين وعناصر من القبعات الزرقاء الأممية.
ومع تزايد الهجمات الإرهابية في منطقة “الحدود الثلاثة”، كثفت مجموعة دول الساحل الخمس وبدعم محوري لفرنسا من هجماتها على الجماعات الإرهابية في المنطقة، خاصة مطلع 2020.
قبل أن تنسحب مالي من مجموعة دول الساحل والصحراء (تشاد وبوركينا فاسو والنيجر، ومالي، وموريتانيا) بعد خلافات حول الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي قبلها بعام، وتزايد العداء مع فرنسا ودفعها نحو سحب قواتها.
فيما تزايدت المخاوف من أن خروج 2400 جندي فرنسي من مالي، مركز العنف في منطقة الساحل ومعقل تنظيمي القاعدة وداعش، سيؤدي إلى تفاقم العنف ويزعزع استقرار الدول المجاورة ويحفز الهجرة.
“ميناكا” تحت طوق الإرهاب:
وباتت الحدود النيجرية الملتهبة مع مالي تقض مضجع سلطات البلد الأول، في ظل تواتر الهجمات وتفاقم المخاوف من قيام إمارة داعشية جديدة على طول الخط الشمالي الفاصل مع مالي.
مخاوف كبيرة تتصاعد وسط مؤشرات ميدانية تشي بأن المدينة الواقعة شمال شرقي مالي قد تسقط بأيدي داعش، التنظيم الإرهابي الذي كثف من هجماته في محاولة -وفق خبراء- لإقامة “إمارة ميناكا” في شمال مالي.
وفي مقابلة مع إذاعة فرنسا الدولية وقناة فرانس 24، قال رئيس النيجر محمد بازوم إنه “من المحتمل جدا أن تسقط مدينة ميناكا” المالية بأيدي داعش في الصحراء الكبرى.
وحذر من أن مقاتلي التنظيم “قادرون عسكريا على ذلك”، في إشارة ضمنية إلى الهجمات المتواترة والمجازر التي ارتكبها داعش في منطقة تعتبر هدفا استراتيجيا لتأسيس ولايته.
واعتبر بازوم في المقابلة التي جرت على هامش أشغال الدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، أن وجود القوات المسلحة المالية وقوات “فاجنر” في ميناكا “لم يمنع من وقوع هذا التدهور، والتوتر غير المسبوق بين (عرقيات) الفولان والطوارق”.
وأشار إلى احتمال وقوع “مجازر واسعة النطاق” بين العرقيتين، مستبعدا في الآن نفسه أن يهاجم التنظيم مدينة غاو شمالي مالي، “رغم تحقيقه تقدما كبيرا باتجاهها”.
وباحتدام الهجمات على مدينة ميناكا، تخشى النيجر أن يحشرها الإرهاب بين فكي بوكو حرام جنوبا وداعش شمالا، ما يهدد بسيناريو مرعب في ظل ثغرات أمنية يفرضها الوضع المتقلب بالجارة مالي.
ومنذ فبراير/ شباط 2015، تتعرض منطقة ديفا جنوب شرقي النيجر لهجمات من قبل تنظيم بوكو حرام، الذي مدد نشاطه من معقله في شمال شرقي نيجيريا إلى الجارة، وسط مخاوف من اتساع رقعة الهجمات.
استراتيجية الرعب:
وترك تنظيم داعش الإرهابي بصمته في بلدة تلاتايت شمالي مالي، في مذبحة كبرى تخللتها أعمال حرق ونهب وتجويع، في إطار صراع فرض السيطرة والنفوذ على مناطق حدودية مع تنظيم القاعدة وحركات إرهابية محلية.
ووفق مراقبين فإن مذبحة تلاتايت هي صورة لاستراتيجية الرعب التي فجرها وتدرب عليها التنظيم في سوريا والعراق، وينقلها إلى غرب أفريقيا لتحقيق أجندة أطراف خارجية.
ذلك عقب صراع ثلاثي في بلدية تلاتايت على بعد 150 كيلو مترا من غاوا شمالي مالي، بين “داعش الصحراء” (فرع داعش في غرب إفريقيا)، وجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، التابعة لتنظيم القاعدة، وحركة “إنقاذ أزواد” (MSA) المدعومة من الجيش المالي، وكل طرف بهدف السيطرة على المدينة.
صراع دولي:
المنطقة التي ينهشها الإرهاب تشهد تغييرات جيوسياسية واسعة مؤخرا، حيث أضعفت الانقلابات العسكرية في مالي وتشاد وبوركينا فاسو تحالفات فرنسا في مستعمراتها السابقة، وشجعت الإرهابيين الذين يسيطرون على مساحات شاسعة من الصحراء ومناطق الغابات.
فمع إعلان بعض الحكومات راية العصيان في وجه فرنسا، التي ظلت لعقود طويلة تمارس دور الولاية والحماية والدعم لعدد من الأنظمة الكبرى في المنطقة، وذلك لمجرد امتعاضها من الانقلابات العسكرية، وتحفّظها على تكرارها، ظهرت روسيا في المشهد كبديل جاهز.
توارثت منطقة غرب أفريقيا الحضور الفرنسي في المشهد السياسي إجمالاً، وهو امتداد لعقود طويلة من الاحتلال المصحوب بتأثيرات أيديولوجية وسياسية، ورغم استقلال غالب تلك البلدان في الستينيات من القرن الماضي، فإن فرنسا ما زالت تتعامل معها على كونها حضوراً واجباً بامتداد تاريخي وضرورات حاضرة، ولذا تسعى باريس رغم كثرة المعوقات إلى الاستمرار في المشهد الأفريقي.
ولعل ما زاد الأمر تعقيداً إقحام فكرة استعداء الشعوب الأفريقية لفرنسا، تحقيقاً لمصالح بعض الأنظمة الجديدة، وهو ما تجلى في المظاهرات الشعبية، التي عبرت عن فرحتها بسحب فرنسا قواتها العاملة في مكافحة الإرهاب في دولة مالي.
فيما تحظى “فاجنر” التي يعتقد أنها قوات روسية، بقدرٍ كبيرٍ من الترحيب الأفريقي على المستويين الرسمي والشعبي في بعض الدول الإفريقية مثل مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، خاصة في ظل الإخفاق الأوروبي لا سيما الفرنسي في مواجهة التنظيمات الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا، وهو ما ترتب عليه المطالبة بطرد القوات الفرنسية والاستعانة بالدور الروسي لمواجهة الإرهاب.
فضلاً عن التقارب الواضح بين موسكو وبعض النخب العسكرية التي استطاعت الوصول إلى الحكم في منطقة الساحل خلال الأعوام السابقة، ما أثار المخاوف الدولية من تنامٍ ملحوظ للدور الروسي على حساب المصالح الغربية في أفريقيا حيث تمتلك مجموعة “فاجنر” مكاتب في 23 دولة أفريقية، وتنخرط قواتها بشكل أكبر في بعض مناطق الصراعات.
الخيار العسكري لا يكفي:
ووفق محللين فإن دول غرب أفريقيا أخطأت في الاعتماد على خيار العمليات العسكري فقط، مؤكدين أن “هشاشة البنية المجتمعية بالمنطقة وارتفـاع نسبة الفقـر وخروج أجزاء واسعة من منطقة غرب أفريقيا عن سيطرة الحكومات، بسبب التعدد القَبَليٍّ والدينيٍّ، وانتشار الفقر الشديد والصراعات السياسية والاجتماعية، على نحو ساهم في توفير بيئة خصبة لتمدد الإرهاب في دول غرب أفريقيا”.
الأكاديمي والباحث بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف، أحمد أبوالفضل حجازي، قال إن سخونة الأحداث في غرب أفريقيا تفرض نفسها على الأوضاع الأمنية في القارة السمراء؛ حيث تشهد في الآونة الأخيرة تسارعاً في الأحداث بين تنظيم داعش مع جماعة بوكو حرام.
وأضاف حجازي” أن تنظيم داعش ينشط داخل النيجر خاصة أنه يسعى للسيطرة على المثلث الحدودي الاستراتيجي والذي يربط بين تشاد والنيجر ومالي.
ولفت إلى أن النيجر تشهد حوادث إرهابية وهجمات متفرقة من قبل جماعات القاعدة وداعش وبوكو حرام الإرهابية كان معظمها متمثلا في الهجوم على بعض القرى والمساجد والتي ينتشر بها أهل الطرق الصوفية خاصة التيجانية والختمية.
وعن الواقع التشادي، أوضح أن هناك انتشارا للجماعات الإرهابية خاصة جماعة بوكو حرام التي تحاول ترسيخ قدمها داخل تلك الدولة، وذلك نظرًا إلى طبيعة الموقع الجغرافي وامتداد أراضيها على الشريط الساحلي الصحراوي بوسط أفريقيا ودخول السلاح من ليبيا.
وأكد أن الخيار العسكري أثبت أنه ليس الحل الوحيد للقضاء على انتشار التنظيمات الإرهابية، وأن محاربة الإرهاب تستلزم إجراءات احترازية أخرى تدعم الخيار العسكري وتضمن نجاحه بدرجة فاعلة، مشددا على ضرورة محاربة الفكر بالفكر.
كما شدد على ضرورة تفكيك الجماعات الإرهابية من الداخل وتضييق الخناق عليها عن طريق استهداف زعماء القبائل وتوعيتهم ومناشدتهم المساعدة في مقاومة الإرهاب ونبذ العناصر المتطرفة من بينهم، مع توفير الخدمات اللازمة لتلك المناطق والقرى البعيدة وعدم تهميشها لأن التهميش أداة يستغلها الإرهاب.