يتمتع الصومال بعدد كبير من المقومات التي تجعله من الوجهات الاستثمارية المهمة للمنطقة العربية خاصة وأنه يحظى بمكانة مهمة وباهتمام عربي كبير نظرا لطبيعة العلاقات المتينة التي تربطه بأشقائه العرب وكذلك الروابط المتعددة المبنية على العروبة والإسلام والتي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كما أن الموقع الجغرافي الحيوي على البحر الأحمر يلعب دورا مهما وحساسا بحكم كون الصومال ظهيرا استراتيجيا للجنوب العربي.
ولذلك تبدو الأهمية الشديدة للحفاظ على الوشائج القوية بين مختلف الدول العربية وبين الصومال، ومن هذا المنطلق يحرص الصومال على تنمية علاقته مع أشقائه العرب، بعد فترة غير قصيرة من البعد والجفاء خلال الحروب الأهلية والصراعات الدامية التي عانى الصوماليون ويلاتها طويلا ودفعوا ثمنها غاليا من تضحيات كبيرة. وكثيرا ما طالب المسؤولون الصوماليون بدعم هذه العلاقة من خلال فتح آفاق التعاون ومد جسوره في شتى المجالات وعلى رأسها المجال الاقتصادي، لا سيما مع ما يتمتع به الصومال من ثروات وكنوز تبحث عمن يكتشفها ويستثمرها.
الأسواق الصومالية :
ولقد استبشر الكثيرون بذلك المشهد الدافئ الذي انعكست معه ملامح التكاتف والاحتواء الداعم للصومال بالحضور العربي الطيب لتلك اللحظة التاريخية المهمة للبلاد التي يتولى فيها رئيسها الجديد مقاليد الحكم، وسط تبريكات من كل ممثلي الدول العربية التي حرصت على التواجد ليشهدوا على بداية مرحلة جديدة لشقيقة عربية جديرة بتحقيق حلمها العزيز بالاستقرار والإزدهار.
واقع الأمر أن هذه اللحظة التاريخية كان لابد أن تتبعها خطوات مهمة للتأكيد على استمرار الدعم العربي للصومال وأن الأمر لا يقتصر فقط على هذا التواجد المحمود في مثل هذه المناسبات، وإنما لا بد من حضور عربي من نوع آخر يكون أكثر فاعلية ويتمثل في تكثيف أواصر التعاون والعمل على تذليل الصعوبات التي يمكن أن تعرقل هذا التعاون من خلال إرادة عربية قوية عازمة على المضي قدما في مد يد التعاون بجدية. يضاف إلى ذلك أن هناك اعتبارات أخرى مهمة تستلزم التواجد العربي القوي في الصومال والقيام بدور فعال، وهي أمور تتعلق بسد الذرائع في وجه أطراف دولية أخرى قد تستغل الغياب العربي وتتخذ منه ثغرة لملء الفراغ بذكاء ودهاء سياسي قد تنعكس آثاره السلبية على جوانب أخرى. فهناك أطراف غير عربية تسعى لإقامة مشروعات كبيرة وضخمة لخلق فرص للتواجد بقوة في الأسواق الصومالية بل وفي أوساط المجتمع، من خلال خدماتها وكان يفترض أن يكون العرب هم الأولى والأجدر في القيام بهذه الخطوات خاصة مع المشكلات الكبيرة التي تمر بها البلاد.
أزمات كبيرة:
إن الصومال يمر بأزمات كبيرة طاحنة حيث تكالبت عليه كافة أنواع المشكلات في وقت واحد ما بين أمنية واقتصادية وبيئية بالإضافة إلى الأزمة السياسية المستحكمة قبل النجاح في انتخاب رئيس للدولة يحظى بقبول واسع لدى مختلف الأوساط الصومالية. ولم يكن نداؤه بتقديم الدعم للصومال وإنقاذه من خطر الجفاف والمجاعة إلا إضطرارا تحت وطأة الخطر الذي يتهدد شعبه، والذي أكدته صيحات التحذير من قبل الأمم المتحدة ومؤسساتها والعديد من الدول.
لقد أعربت منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة عن قلقها العميق بشأن الوضع في منطقة الساحل والقرن الأفريقي، وخاصة في الصومال. وجاء على الموقع الرسمي للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أن لجنة مراجعة تصنيف الأمن الغذائي المتكامل أصدرت توقعاتها بأنه في حالة عدم وجود زيادة عاجلة في المساعدات الإنسانية، فمن المتوقع أن تحدث المجاعة في مقاطعتي بور هكابا وبيدوا في جنوب الصومال في هذه السنة بين شهري أكتوبر وديسمبر. كما دعت الولايات المتحدة إلى تحرك جماعي من أجل دعم الصومال في أزمة المجاعة التي من المتوقع أن تصيبها هذا العام، في الوقت الذي تشل فيه أزمة الجفاف المنطقة.
ولاشك أن هذه الأزمات تتطلب موقفا عربيا براجماتيا، وقد كانت هناك مبادرات طيبة لمساعدة الصومال منها الحملة التي بدأتها دولة الإمارات العربية المتحدة وكذلك الحملة التي أعلن عنها الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب الدكتور أسامة رسلان، لإغاثة الصومال، والتي تضمنت توزيع سلاسل غذائية، وتوفير مياه صالحة للشرب بمخيم بيلديق للنازحين في منطقة غرسبالي في ضواحي مقديشو، وداخل مخيمات النازحين في مدينة بيدوا جنوب غربي الصومال؛ لتقليل آثار وتداعيات المجاعة التي تهدد حياة أكثر من 7 ملايين شخص بالصومال. وكذلك حملات الإغاثة الإنسانية لدول عربية أخرى منها المملكة العربية السعودية، وقطر وغيرهما، إلا أن هذه المبادرات ليست كافية وحدها. وعلى الرغم من تلبية العرب للنداء بالتصريحات الإيجابية التي تعكس دعمهم للصومال، إلا أن الوضع يتطلب تحركات شاملة أخرى أكثر فاعلية وتفاعلا مع ما يمر به الشعب الصومالي من مخاطر تهدد حياته. كما أن الأمر يجب ألا يتوقف عند تقديم المساعدات العاجلة وقت الحاجة والإغاثة لأنها عبارة عن مسكنات مؤقتة بينما يتطلب الوضع حلولا جذرية من خلال خطط للاستثمار في إطار هدف أكبر مبني على تحقيق التكامل الإقتصادي وتبادل الخبرات والمصالح.
الاقتصاد الصومالي:
لو كانت هناك أساسيات قوية للاقتصاد الصومالي من خلال تنويع مجالاته وتوسيع دائرة شركائه وامتدادها لعدد أكبر من الدول من خلال تنشيط الاستثمارات القائمة على الصناعة والتجارة، ما كانت الأزمة بهذه الشراسة التي تهدد حياة الصوماليين في الوقت الحالي. ولا شك أن ضخ استثمارات عربية لزيادة عدد المشروعات الكبرى خاصة ذات البعد القومي والاجتماعي الحيوي، كان من الممكن أن يسهم كثيرا في امتصاص آثار الصدمات الاقتصادية العالمية خاصة ما بعد وباء كورونا وتوابع الحرب الروسية على أوكرانيا. كما كان من الممكن أن تساعد هذه الاستثمارات على توفير العملات الصعبة والموارد المطلوبة للحصول على الغذاء من الخارج وتقليل مخاطر المجاعات التي تهدد الأرواح وتقتل الأطفال بشكل مأساوي يوميا.
ومع ذلك هناك مؤشرات طيبة وإيجابية تبدو مشجعة على أرض الواقع في الصومال، حيث يبذل المسؤولون الصوماليون جهودا كبيرة من أجل التطوير وتجاوز الأزمات الخانقة والتي تكالبت على البلاد دفعة واحدة. وقد شهدت العاصمة مقديشو مؤخرا مؤتمرا تشاوريا بين قادة البلد الإفريقي في إطار مساعي الرئيس حسن شيخ محمود لتجاوز خلافات سياسية والتفرغ لمواجهة ما يتهدد البلاد من مخاطر الجفاف والإرهاب. كما قام بزيارة إلى كينيا للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الكيني الجديد وليام روتو وأجرى معه بعد المناسبة لقاء بحث العلاقات الثنائية بين البلدين والتعاون في قضايا الأمن والتجارة وتسهيل الهجرة ومتابعة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين الدولتين ثم توجه بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
آمال ومشاريع واعدة:
كما توجد مشروعات صومالية جديدة تحيي الآمال في إمكانية تحسين الصورة وتطوير الأوضاع القائمة نحو الأفضل بمزيد من الجهود. ومن هذه المشروعات ميناء “غرعد” كطريق تجاري جديد يربط منطقة جنوب شرق إثيوبيا والصومال، وخاصة ولاية بونتلاند التي يقع الميناء فيها، وهو المشروع الذي يتوقع افتتاحه قريبا، كجزء من خطة استثمارية تتجاوز 55 مليون دولار بما يسهم في دعم الصادرات الصومالية الشهيرة ومنها الأسماك والمواشي والمواد الزراعية والمعادن وغيرها. ونتأمل أن تزداد هذه النوعية من المشروعات الكبرى ذات الأثر الإقتصادي المهم والواسع، كما يجب استثمار هذه المشروعات بشكل جيد لتحقيق الجدوى الإقتصادية من إقامتها بما يسهم في رفع مستوى عائداتها على الشعب الصومالي ومستوى معيشته.
هذا وقد بدت بشائر جديدة لدعم التعاون العربي مع الصومال وذلك في أعقاب تولي الرئيس شيخ محمود الحكم، حيث كشفت زياراته الخارجية عن اتفاقيات متنوعة مع عدة دول عربية، منها مصر والتي أبرمت اتفاقا مع الصومال في مجال الزراعة والثروة الحيوانية حيث تم الإعلان عن قيام وزارة الموارد المائية والري المصرية بتنظيم عدد من الدورات التدريبية لمتخصصين صوماليين، في مجال سدود حصاد مياه الامطار ونظم الإنذار. كما تشهد العلاقة التجارية بين البلدين حالة من التقدم والتطور، انعكست في ارتفاع قيمة الصادرات المصرية إلى الصومال لتصل إلى نحو 66.3 مليون دولار خلال عام 2021 مقابل 60.1 مليون دولار خلال عام 2020 بارتفاع نحو 10.2%، بينما بلغت الواردات المصرية من الصومال نحو 1.3 مليون دولار خلال عام 2021. وتعد مصر بالنسبة للصومال شريكا استراتيجيا في مواجهة أعمال القرصنة قبالة السواحل الصومالية، خاصة وأن مصر تنتمي إلى مجموعة الاتصال الدولية المعنية بمكافحة القرصنة في ذلك النطاق الجغرافي، إلى جانب ترأسها مجموعة العمل الرابعة المنبثقة عن “مجموعة الاتصال الدولية”، لدعم الجهود الدبلوماسية لمواجهة وتصدي ظاهرة القرصنة.
الصومال والخليج:
كما تربط الصومال ودول الخليج علاقات طيبة، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة والتي كانت الوجهة الأولى للرئيس شيخ محمود حينما بدأ جولاته الخارجية عقب توليه حكم البلاد، بما يعكس ويؤكد خصوصية علاقة الصومال والإمارات وتأثير ذلك على طبيعة التعاون في مختلف المجالات منها الإقتصادي والإنساني والطبي. وقد بحث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس حسن شيخ محمود، العلاقات الأخوية بين البلدين وفرص تعزيز التعاون المشترك بينهما في مختلف المجالات خاصةً جهود التنمية والسلام في الصومال. ويترقب الصوماليون مزيدا من جهود التعاون المثمرة مع الشقيقة الامارات ومزيد من الاستثمارات في المشروعات الكبرى ذات الأثر البعيد.
وتشهد العلاقات الصومالية مع المملكة العربية السعودية تعاونا طيبا، خصوصا مع وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية في كيفية تطوير التجارة الزراعية والحيوانية بين البلدين الشقيقين، وتنفيذ اتفاقيات تتعلق بتطوير الطب البيطري والاعتماد على وثائق الطب الرسمية الصادرة من وزارة الثروة الحيوانية والغابات والمراعي الصومالية. وتعد الصادرات الصومالية من المواشي من أهم صادرات الصومال للمملكة ودول الخليج العربي لا سيما في موسم الحج، خاصة بعد صدور الأمر الملكي لوزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية لرفع الحظر عن استيراد المواشي الصومالية إلى المملكة، وهي الخطوة الإيجابية التي تمت بعد إقرار وزراء خارجية الدول العربية في قمة القاهرة تعزيز التجارة مع الصومال واعتماد صادرات المواشي من الصومال الى الأسواق العربية.
وكذلك تشهد العلاقات الصومالية القطرية أوجها للتعاون وإن كانت تتركز في الجانب الإنساني حيث يقوم الهلال الأحمر القطري بتنفيذ إجمالي 18 مشروعا إنسانيا في الصومال خلال العام الجاري ، بميزانية إجمالية تتجاوز 19 مليون ريال، وهي تتنوع ما بين توفير الرعاية الصحية، وخدمات المياه والإصحاح، وتحقيق الأمن الغذائي، والتمكين الاقتصادي للأسر الفقيرة، ودعم النشاط الزراعي، وتسيير القوافل الطبية. يضاف إلى ذلك مشروعات مهمة مع دول عربية أخرى منها الكويت وسلطنة عمان.
الأمن القومي:
كما يأتي التعاون العربي في المجال الأمني والقضائي من الأمور المهمة باعتبار أن الأمن الصومالي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي ، وقد دعى الصومال بالفعل لتعزيز التعاون بين الدول العربية في هذين المجالين لمجابهة التطرف والإرهاب بتطوير المؤسسات القضائية وتحسين جودتها. ومن الضروري أن يستجيب المجتمع العربي لهذه المطالب ويدعم لغة التواصل والتعاون فيها حتى يتسنى تهيئة البيئة الصومالية لاستقبال تدفقات الاستثمارات عليها دون أية مخاوف أمنية، وبما يتيح الفرصة للصوماليين أنفسهم أن يعملوا ويتفرغوا للإنتاج دون تهديدات تمثل ضغوطا عليهم وتعوقهم عن المسيرة النهضوية، ولا يمكن أن تتحقق المشروعات وينهض الإقتصاد دون كفالة الاستقرار الذي يقوم بشكل أساسي على كفالة الأمن والأمان.
لا شك أن هذه المشروعات سواء التي تمت أو التي تتم حاليا ومستقبلا تمثل نقاطا مضيئة على طريق التعاون العربي، ولكنها ليست كافية وتتطلب الأوضاع الحالية مزيدا من التعاون وتوسيع دائرة المشروعات العربية وتخصيص جزء من تلك الاستثمارات التي توجهها دول عربية للخارج، للشعب الصومالي الذي يستحق بجدارة مد جسور التعاون وفتح آفاقه على مصراعيه وتمكينه من جني الثمار بعد سنوات طويلة من المعاناة…فهل تستطيع الدول العربية أن تفعلها؟!
هذا ما نتمناه..