هناك تكتلات للبشر في هذه الكرة الأرضية تحت أسماء كثيرة: منها القبيلة، ومنها القومية، ومنها العِرقية، ومنها الدينية، والذي يعنينا من تلك التكتلات في هذا المقال هي القبيلة في الصومال، لأن الصوماليين كلهم قومية واحدة، تتفرع منها قبائل شتى ترجع كلها إلى أصل واحد لدليل التاريخ، واللغة، والأرض، والصورة، واللون.
لماذا نتحدث عن القبيلة في الصومال:
نتحدث عنها لما للقبيلة من تأثير على الساحة الصومالية أكثر من أيِّ شيء آخر للأسباب التالية:
- إن القبيلة في الصومال تُزاحِم الإسلامَ في الولاء والبراء، فولاء معظم الصوماليين للقبيلة أكثر من ولائهم للإسلام، وهذا معروف تظهر حقيقتُه وقت الحرب، فيقف القبيلي مع الفاسق من قبيلته في وجه المؤمن من القبيلة الأخرى.
- إن دماء كثيرة أُزهقت بسبب القبيلة، فكل الحروب بين الصوماليين من قديم الزمان وحديثه كان سببها القبيلة إلا أن القبلية وصلت ذروتها بعد سقوط الحكومة المركزية التي أُسقِطتْ بثورات قبلية.
- في الآونة الأخيرة تمَّ شرعنةُ القبيلة عن طريق تقسيم الشعب الصومال إلى قبائل كبرى وصغرى، ومن ثَمَّ تقاسم السلطات على أساسها، وترتَّب على ذلك أن كل مسئول في الحكومات الحالية لا يمثل الشعبَ في منصبه في الحكومة بل يمثل قبيلته فقط لأنها هي التي اختارته من بين أبنائها، وأوصلته إلى ذلك المنصب في الحكومة، فهو مدين بالفضل فيه لقبيلته، وخوفاً أن تستبدله بغيره في المرات اللاحقة يَحرِص كل الحرص أن يكون وفياً لها بالمحاباة على حساب الآخرين، لهذا إذا ترأس شخصٌ ما في وزارة من الوزارة، فسرعان ما تتحول وزارتُه إلى قبيلته، وكأنها ملك لها، ومن ثَمَّ تكون منافع الوزارة حَكراً على أفراد قبيلته.
- إن المسلسل الذي يجري تنفيذه الآن في تقسيم البلاد إلى دويلات، أساسُه الأول والأخير هو القبيلة، وإن زعم الزاعمون غير ذلك.
- استشرى أمرُ القبيلة في المجتمع الصومالي حتى وصلت تأثيراتها إلى بعض الجماعات الإسلامية التي كان من المفترض أن تكون أداةً فعَّالة في معالجة أمراض القبلية في المجتمع، وبدلاً من ذلك، فقد أصيب بعض الجماعات الإسلامية بمرض القبيلة، فما زالت تعاني منه إلى أن صار سبباً لتفككها، نسأل الله السلامة منه.
الخلاصة: إن وجود الشعب الصومالي مهدد من القبلية، فهي بالنسبة له سوسٌ ينخُر في عظامه، ويهدد وجوده كأمة ذات رسالة، وطن، وحضارة وتاريخ، كل هذه الأمور مجتمعة استدعتنا إلى أن نخصص مقالاً مطوَّلا للحديث عنها، لأن السكوت عن مشكلة بهذا الحجم هي كبيرة في حق الأمة، بل يُعتبر ذلك نوعاً من المساهمة فيه لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
الشعب الصومالي في زمان الاحتلال:
من المعلوم أن الشعب الصومالي وقع كله في الاحتلال الغربي من شماله إلى جنوبيه، ومن غربيه إلى شرقيه من قبل الدول الأوربية، وعلى وجه التحديد ـ إيطاليا، وإنجلتريا، وفرنسا ـ كل في جزء من البلاد إلا أن الذي خفَّف من وطأة الاحتلال في ذلك الوقت أن معظم الشعب كان يعيش في البادية، فكان يعتمد على نفسه بعد الله في تدبير شؤونه، فيأكل مما يزرع، ويشرب من مياه الأنهار، أوالآبار، فأعطت هذه الميزة للشعب الصومالي فرصة للابتعاد عن الاحتكاك بالمحتل قدر الإمكان، فلم يكن للمحتل تأثير قوي في المجتمع الصومالي في ذلك الوقت إلا في قلة كانت تعيش مع المحتل في المدن الكبرى.
وكانت القبائل الصومالية تدير شؤونها بالأعراف القبلية التي كانت تمثل القوانين التي تحَكُم الجميعَ، وكانت هي المرجع الذي يُحتكم إليها في الدماء والأموال، والحرب والسلم، وأما الشريعة الإسلامية فهي محصورة في الشعائر التعبدية كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وفي الأحوال الشخصية من نحو النكاح، والطلاق والعدة، وعلى ذلك كانت الأمور تسير.
وحينما نال الشعب الصومالي استقلاله عام (1960م) اصطحب القبيلةَ معه إلى الدولة، فازداد بذلك نفوذُ القبيلة عما كانت عليه قبلُ، فبعد الاستقلال ارتبط كل شيء من شؤون الدولة بالقبيلة، إذ كانت كل قبيلة تحاول أن تُخضع ما يجري في البلد لمصلحتها، ظناً منها أن المصالح العامة يحق فيها لكل أحد أن يأخذ منها ما ووسعه جهده بحق أوبباطل، لهذا كان النظام القائم في البلد في بداية الاستقلال، ظاهرُه الدولة، وحقيقته تجمُّعٌ قبلي متدافع، فاستشرى الفسادُ في عروق الدولة من رأسها إلى أخمص قدميها، وبذلك ازداد أمر القبيلة قوة عما كان عليه أيام الاحتلال.
ولما قُتل الرئيس عبد الرشيد شرمأرك عام (1969) حصل بموته فراغ في السلطة، إذ لم يستطع البرلمان القائم آنذاك أن يتوصَّل إلى توافق على رئيس جديد يَخلُف الرئيس المقتول بسبب تدافع القبائل الكبرى، كل منها تريد منصب الرئاسة لنفسها، فاستغلَّ الجيش ذلك الفراغ، بل رأى فرصة لتسلم السلطة، فأعلن الانقلاب على الدولة التي كانت من دون رأس مستفيداً من تضجُّر الشعب من استمرار اختلاف البرلمان، وعدم قدرته على حل خلافاته، وظن الشعبُ يومها أن ذلك الانقلاب يضع حداً للفوضى التي كانت تعاني منها الدوائر الحكومية، وفعلاً حصل بعد الانقلاب انفراج، وتحسُّن كبير في كثير من المجالات، وصارت الدولة مكتملة الأركان، مهابة الجانب مما وضع حداً من المهاترات السياسبة التي كانت بين القبائل الكبرى.
وفي نهاية السنة الثانية من عُمر الحكومة العسكرية، وبالتحديد (21/ أكتوبر عام (1970) أعلن النظام العسكري على الملأ بتطبيق مبدأ الاشتراكية العلمية كأسلوب حياة في البلد عقيدةً وسلوكاً دون إعطاء أيِّ اعتبار لطبيعة الشعب الصومال، وعقيدته الإسلامية، وكان ذلك أحدَ تخبُّطات ذلك النظام العسكري المعتمد على القوة في تنفيذ برامجه دون استشارة أحدٍ من خارج المؤسسة العسكرية غير مبال من تبعات ذلك، فاصطدم النظام العسكري مع الشعب كنتيجة حتمية لأنه حاربه في أخص خصوصياته، وهو الإسلام، حيث اعتبره (أي الإسلام) النظامُ تخلفاً ورجعية، وكان في غنى عن تلك المغامرات لوأحسن التصرف إلا أنه بدلاً من الإصغاء لمطالب الشعب أخذته العزةُ بالإثم، فاستمر في ارتكاب حماقاته في حق الشعب وعقيدته، ففتح السجون لكل من يعارضه، ولم يقف عند هذا الحد بل أعدم مجموعة من العلماء الأجلاء ليجعلهم عبرة للآخرين، واعتَمد على الدكتاتورية كأسلوب لتنفيذ سياساته التي لا تتناسب مع طبيعة الشعب البدوي الذي يرى أن الحرية جزءٌ لا يتجزأ من حياته.
ثم أعقب ذلك بخطوة أخرى تتمثل في محاربة القبيلة فيما زعم النظام لا للتفادي عن أضرارها بل لقصد تجريد الشعب من كل مُقوِّماته، فاعتبر مجرد ذكر القبيلة بين الناس ناهيك عن الانتساب إليها جريمة يعاقب عليها القانون، ولم ينس الشعب الصومالي تلك المسرحية الهزلية في ذلك اليوم الذي أقيمت احتفالية عظيمة دُعي إليها كل أركان النظام والوجهاء من طوائف الشعب لحضور مأتم عظيم أقيم لمناسبة دفن القبيلة، وكان ذلك يوماً مشهوداً ظن البسطاء من عامة الشعب أن ذلك هو نهاية القبيلة في الصومال.
وبدأ الشعب الصومالي يراقب الوضع عن كثب ليتأكد من جدية النظام في موضوع القبيلة، ولكن سرعان ما تكشَّف له أن ذلك مجرد ضِحكة على الذقون، وأن النظام نفسه متمسك بها حتى النُّخاع، وتبين للجميع أن قصده من ذلك أن يُفرِّق شمل القبائل لئلا تتشكل منها تكتلات لمعارضته في الحكم.
وعندها أدرك الشعب الصومالي اللعبة القذرة من النظام في إضعاف معارضيه مستخدماً سلاح القبلية، فاضطر الشعب هو الآخر إلى استخدام القبيلة نفسها في تجميع قوته على نفس طريقة النظام، ومن ذلك نشأت معارضة النظام من قبل القبائل الكبرى، فأول جبهة مسلحة حملت السلاح في وجه النظام جبهة (كُلمِسْ) من قبيلة (مجيرتين) بقيادة كولونيل عبد الله يوسف، ثم تلتها جبهة قبيلة إسحاق في الشمال الغربي، ثم جبهة (usc) من قبيلة هوية، فتمكنت هذه الجبهات القبلية مجتمعة في نهاية المطاف من إسقاط الحكومة المركزية (1991م).
وبعد سقوط النظام العسكري في البلاد بحث الشعبُ الصومالي عن القبيلة في المكان الذي دفنها النظام السابق فيه، فوجدها قد كبُرت في القبر، فعلموا أن ذلك النظام كان يغذيها سراً، فاحتضنتها القبائلُ من جديد كاحتضان الوالد ولده الذي ضل منه منذ سنوات، فرفع الكلُّ شعار القبيلة لتكون هي المظلة الوحيدة لتجميع قوته، فاشتد التعصب القبلي، وبلغ أشدَّه أكثر من أي وقت مضى، فحصلت مواجهاتٌ مسلَّحة بين القبائل الكبرى، فكل قبيلة تريد أن تكون هي القائدة للبلاد في هذه المرحلة، فاستعصى على الجميع تشكيل حكومة مركزية، وعندها أعلنت بعض القبائل الانفصال عن بقية البلاد، وهناك قبائل أخرى تريد أن تحذو حذوها، ولهذا فالبلاد مهيأة للتفكك على أساس قبلي.
هل للقبيلة محاسن؟:
وقبل الحديث عن الآثار السلبية المترتبة على النظام القبلي يحسُن بنا أن نتساءل، فنقول: هل للقبيلة محاسنُ لئلا نظلم القبيلة لتصرفات بعضٍ من أفرادها في وقت من الأوقات، فالإجابة عن هذا السؤال بكل تجرد لعدم الإجحاف في حقها نقول: نعم، هناك محاسن كثيرة في القبيلة إن تمَّ توجيهها إلى الوجهة الصحيحة التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية، ومنها على سبيل المثال:
1ـ حفظ الأنساب من الضياع لأن القبيلة يجتمع أفرادُها في جد من الجدود، فتُعرف به، ولولا ذلك لضاعت الأنساب، وفي سنن الترمذي ومسند أحمد مرفوعاً (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامَكم).صححه الحاكم والألباني.
2ـ إن الشريعة أوجبت على الجميع صلةَ الرحم، وقد أكد القرآن الكريم على أهميتها في قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً).
فصلة الرحم لها مكانة عظيمة في شرع الله، وقد تعهد الله لها أن يصل من وصلها، وأن يقطع من قطعها كما في الحديث القدسي، وفي الوحي المنزل (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).ولا يمكن لأحد أن يصل رحمه إلا إذا كان عارفاً نسبه من جهة أبيه وأمه حتى يميز من خلال ذلك بين القريب والبعيد، ومن ثَمَّ يتمكن من وَصْلها، ثم القيام بما يجب لها شرعاً.
3ـ التعارف بين أفراد المجتمع من خلال القبيلة، وهو أمر مهم في الحياة الاجتماعية، وقد بيَّن الله أهمية ذلك بقوله: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
4ـ المؤازرة على الحق من قبل أفرادها إذا أُحسِن استغلالها، ونعلم أن سعد بن معاذ حرَّم على نفسه أن يكلم أحداً من أفراد قبيلته حتى يُسلموا رجالاً ونساء، فامتثلوا لأمره، فأسلموا عن بكرة أبيهم. ولأهمية دور قادة القبائل كان النبي r يُكرِّم الوجهاء من القبائل، بل كان النبي r يأمر أن يكون الرجل مع قبيلته في مقاتلة الأعداء.
5ـ إن الإنسان لا بد له من سند يأوي إليه، ويحتمي به من الظلم، فهذا نبي الله محمد r قد كان عمُه أبو طالب سداّ منيعاً طوال حياته، وقد أحسَّ بالفراغ بعد موته. وهؤلاء بنو هاشم وبنو المطلب دخلوا مع النبي r في الشعب حين الحصار عليه، وقبله نبي الله شعيب عليه السلام قد سَلِم من أذى قومه بسبب حماية عشيرته له كما صرَّح بذلك المكذبون له في قولهم فيما حكى الله عنهم: (ولو لا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز).
وفي الأخير تتشرف القبيلة بأحد أبنائها إن برز في مجال من المجالات الخيرية، فيحبونه والمجال الذي برز فيه، فيفتخرون به قال تعالى: ( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) وإنما كان القرآن شرفاً لقومه مع أن رسالته عامة لجميع الناس لأن الرسول منهم، فقبائل العرب تشرفت برسول الله r حين أختاره الله من بينهم، وفي ذلك يقول الشاعر:
وكم أبٍ عَلا بابنٍ ذُرى شرف … كما علا برسول الله عدنانُ
الآثار السيئة التي تتركها القبيلة في المجتمع إن أسيء استغلالها:
1ـ المباعدة بين أفراد المجتمع، فكل قبيلة ترى أنها أشرف من غيرها، ومن لوازم ذلك أن تحتقر القبائل الأخرى، وتنظر إليها بنظرة دونية، فالصراع في هذا قائمٌ على أشده بين القبائل في الصومال، وتلك في ميزان الشرع كبيرة من كبار الذنوب، ففي صحيح البخاري من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النبي: «خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ» وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ، قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ». فتحقير الغير لأجل عنصره منهي عنه بصريح القرآن في قول الله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن).
وفي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة أنَّ رسولَ الله r قال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقّوَام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، أو لَيَكُونُنَّ أَهّوَنَ على الله من الجِعْلان الذي يُدَهِدِهُ الخراءَ بأنفه، إن الله تعالى قد أذَهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هُوَ مؤمِن تقي، أو فاجِر شقي، الناس كلُّهم بنو آدَمَ، وآدمُ خُلِقَ من تراب». حسنه الترمذي. وصححه الألباني.
2ـ الصراع الوجودي الذي لا نهاية له لأن المستعلي على الآخرين يريد أن يُثبت للآخرين أنه أشرف منهم، والآخرون لا يُسلِّمون له بذلك، لأن ترفُّعه عليهم لا يستند إلى أي مستند شرعي، ولا عقلي.فهو معهم في صراع دائم.
3ـ ضياع هوية الأمة بفقدان القاسم المشترك، ففي الوقت الذي تتحدث فيه الأمم عن كيانها كأمة يتحدث القبيلي عن قبيلته فقط، ولا يرى للبلد الذي ينتمي إليه أي قيمة عنده لأن ذلك يسوي بينه وبين الوضعاء في نظره من أبناء القبائل الأخرى.
4ـ الوقوف مع القبيلة حقاً وباطلاً، والدفاع عنها على القاعدة الجاهلية (انصر أخاك ظالما أو مظلما)([1]). حكى ابن هشام صاحب السيرة أن مسيلمة لما كلَّم رسولَ الله r حين أتاه في وفد من بني حنيفة، واختَلف مع النبي r في الخلافة عنه، وقف قومُ مسيلمة معه مع علمهم بكذبهم، فقالوا في ذلك: (كذَّابُ ربيعةَ خيرٌ عندنا من صادق مضر).وتلك قاعدة جاهلية أعلنها دريد بن الصمة على الملأ فقال: (وما أنا إلا من غزيةَ إن غوتْ .. غويتُ وإن تَرشُد غزيةُ أَرْشُدِ).
5ـ تُستخدم القبيلة في مجال الحماية كالقتال، والنصرة، والدفاع فقط، ولكن في المجالات الاجتماعية كالمرض، والفقر، واليتم يكاد دور القبيلة يكون معدوماً، وهي الأولى بصرف العناية إليها.
علاج أمراض القبيلة:
وقبل الخوض في البحث عن علاج لأمراض القبيلة في الصومال علينا أن نبحث عن الطرق المجرَّبة التي عُولجت من قِبَل مَن تقدمها فوجدنا أن أنفع الطرق وأولاها لعلاج مرض القبيلة هي طريقة رسول الله r، فهو المسدد بالوحي الإلهي، فنقول، ونحن واثقون من أنفسنا:
1ـ هناك طريقة معلومة المعالم، رسمها الرسول r لنا في علاج أمراض القبلية، فقد بُعث رسول الله r في قوم، دينهم القبيلة، يموت أحدُهم من أجلها، ويحيى من أجلها يتمسك الواحد منهم بعادات آبائه وأجداده حتى الموت، فكانت القبيلة في نظرهم بمثابة الدين، ولهذا كانوا يعارضون بها دعوة الرسول بحجة أن عندهم ديناً ورثوه عن آبائهم. (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون). إلا أن الرسول بما حباه الله من الحِكمة في دعوة الناس استطاع بتوفيق الله أن يُحوِّل ذلك الجيل في مدة يسيرة من القبلية البغيضة إلى ربانيين يقاتل الابنُ أباه، والأبُ ابنَه على أساس العقيدة عن طريق ربط ولاء الناس فيما بينهم بالعقيدة الإسلامية، فالمصلح في المجتمع إذا منعهم مألوفا فلا بد من أن يمنحهم محبوباً.
وقد امتنَّ الله على نبينه r بذلك في قوله ـ جل في علاه ـ :(وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم) حتى وصل بهم الأمر إلى أن يحب المرء المسلم أخاه الذي كان يكرهه بالأمس القريب على أساس القبيلة أكثر من حبه لنفسه، فيقدمه على نفسه في كل شيء من حظوظ الدنيا، (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وقد ذكَّر النبي r أصحابه بذلك حين بدرت من بعضهم بادرة جنحت بهم نحو العصبية بقوله r: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم).
2ـ إيجاد النظام القائم على العدل بحيث يبقى الإنسان فيه آمنا على نفسه وأسرته وماله، فلا يحتاج حينئذ إلى القبيلة لحمايته من الظلم، بل يذهب إلى الحكم الشرعي الذي يُنصفه من الظلم، فلا يجد حاجة تدفعه نحو القبيلة، ولهذا لما انتشر عدل الإسلام في الخلافة الإسلامية المتعاقبة خفَّ دور القبيلة، فلم يعد لها ما كان لها من بريق فيما مضى لأن الناس وجدوا بديلاً حقيقياً عنها يستدفئون به، ويلجئون إليه في كل الملمات، فلم تعد للقبيلة مكانةٌ في نفوس أتباع الملة المحمدية.
3ـ السعي على تثقيف الشعب وتعليمه، فإذا سكنَ الشعبُ المدنَ وتعلم وتثقفَ، وتحضَّر قلَّت عنده داعية القبيلة، ولهذا فالعرب كما هو مسطور في مصطلح الحديث كانت تنتسب إلى القبيلة، ولما سكنوا المدن انتسبوا إليها، فيقال: فلان البصري، أو البغدادي، أوالسجستاني بدلاً من الانتساب إلى القبائل، بل عندنا اليوم شعوب مسلمة كاندنوسيا، ومصر، وتركيا، و بلاد المغرب العربي كتونس والجزائر والمغرب لا يعرفون القبيلة بل الترابط بينهم حسب المناطق.
كذلك نجد الأمم المتحضرة لا تعرف للقبيلة معنى كالدول الغربية والشرقية، لأن اعتماد المتحضر على نفسه أكثر من اعتماده على غيره بخلاف البدويِّ، فإن حياته جزءٌ لا يتجزأ من حياة عشيرته، فلا يتحرك بمفرده بل ضمن مجموعة أفراد القبيلة. فلا يعتمد على نفسه في تحمل مسؤولياته.
القبيلة في ميزان الله يوم القيامة:
ليست القبيلة في ميزان الله يوم القيامة بشيء قال تعالى: ( فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون). وفي صحيح مسلم (من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه).وفي الصحيحين من حديث أبي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا – اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاس بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا».
فنحن لا ننكر أن الإنسان يرتبط بالقبيلة منذ نشأته الأولى، ويتربى في حضنها، ويتحرك في محيطها، ولكن عليه أن يعبر منها إلى المنهج الرباني، حتى لا يلقى الله بعقيدة جاهلية ففي صحيح مسلم من حديث جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ».(3/ 1478).
إن الإنسان في يوم القيامة يفر من كل أحد، والكافر يود أن يَفدي نفسه من العذاب بأقرب الناس إليه وبالناس أجمعين لينجو هو من عذاب الله، وفي ذلك يقول تعالى: (ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم . يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم يُنجيه). فشيء لا ينفعك في آخرتك لا فائدة من الاشتغال به في الدنيا.
ولكن إذا كان بين أفراد الأسرة التي هي نواة للقبيلة تعاون على البر والتقوى، فإنهم ينتفعون بذلك الرابط الأسري، فإذا دخل الوالد وولده الجنة، فحصل أحدهما على الدرجات العليا، والآخر على الأدنى منها يُرفع الأدنى منهما إلى مكان الأعلى، وفي ذلك يقول: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء).
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه.
الهوامش:
([1] ) لكن الشارع الحكيم غير مضمون هذه القاعدة بما يتفق مع الشرع بأن تردعه عن الظلم إن كان ظالما.