الصومال اليوم

مفهوم الفائض.. هيئة المساحة الدينية

من الأعراض الجانبية الإيجابية لفايروس كورونا إتاحة الفرصة لإعادة النظر في فلسفة الفائض، ليس فائض القيمة، وإنما الإفراط غير المفيد، من “التمثيل” النيابي إلى الحشد الجماهيري في مباريات الكرة ودور العبادة والنوافل والفتاوى. وسيغادر الفايروس، إن غادر، دون تسجيل نجاح في الاستغناء عن ضرورات وهمية، فائضة عن الحاجة، وكنا نظن الحياة لا تسقيم إلا بها، فإذا هي كالإطار الخامس، “الاحتياطي/ الإستبن” للسيارة. وفي السبعينات ولثلاثة عقود نشأ جيل لا يتصور مجيء شهر الصيام إلا بصحبة “فوازير رمضان” الإذاعية والتلفزيونية، ثابت ليليّ لا يتأثر بتغيّر صناعه. واختفت الفوازير وظل الصيام صحيحا، كما صحّ رغم منع كورونا لحشود صلاة التراويح بالمساجد والشوارع.

يفرح البسطاء في مصر بتجاور مآذن المساجد وأبراج الكنائس. وفي وسائل التواصل الاجتماعي يتبادلون صورا تتعانق فيها هذه الرموز المتجهة إلى السماء، مصحوبة بتعليقات ساذجة عن التسامح الديني. والتسامح مفهوم استعلائي، شخصي لا يدعمه قانون، ويؤكد تكرّم المتسامح على “الآخر” بحسن الجوار. والبديل العصري، العادل الإنساني، هو التعايش القائم على حقوق المواطنة. وتجاور المآذن والأبراج تحرش معماري، ولا تجد برجا لكنيسة أعلى من أقرب مئذنة، وقبل إتمام بناء كنيسة ينبت أساس مسجد، كأنهم يعتذرون إلى الله الذي جعل الأرض “مسجدا وطهورا”. فائض الحماسة قد يعني قلّة الحيلة، وتراجع فقه الأولويات، ففي الصومال طلبوا متطوعين لبناء فتدافعت الحشود. والمدارس والمستشفيات أولى.

لا نتخيل السكينة والهدوء منذ مئة عام، قبل انتشار مكبرات الصوت المصاحبة لافتتاح المحال في المدن، وانتشارها في الاتجاهات الأربعة بالمآذن، وتوجيهها إلى شرفات البيوت انطلاقا من الزوايا الصغيرة أسفل البنايات. ويكاد ميكروفون الجامع يصير من أركان الدين، ولا بد أن يتواصل البث بآلية أقرب إلى الاعتياد الوظيفي. ولا خطر على أي شيء أكثر من الآلية والاعتياد الوظيفي، بما في ذلك الفتاوى التي تنافس على الاستئثار بها البرلمان المصري والأزهر. كلاهما يطلب الحق في مشروعية الفتوى ومصادرة حق الآخر، فما كان من شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب إلا الاعتصام بالدستور الذي يجعل الأزهر “المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية”.

ربما اقترح عاقل الكف تماما عن الإفتاء، مؤقتا لمدة شهر واحد فقط، لرؤية ماذا يحل بالمسلمين في مصر من كوارث، إذا استغنوا عن خدمات دار الإفتاء وتوابعها ومنافسيها في برامج “دينية” لا تخلو منها فضائيات يكفّر بعضها بعضا سياسيا ودينيا. هل يحتاج دين، أي دين، إلى جيوش للإفتاء؟ أتمنى قيام باحث في علوم الدين أو الاجتماع برصد ما أذيع ونشر من فتاوى، خلال حرب أكتوبر 1973، وكنا في موسم الفتاوى الرمضاني، للربط بين القضايا المصيرية والاكتفاء من الدين بجوهره، “آمنت بالله ثم استقم”. فقد توحي منافذ الفتوى بأن الدين كهنوت، ووجود هذا “الشغل” يغري المتنطعين بافتعال أسئلة يشغلون بإجاباتها فراغهم.

ذكر أحمد لطفي السيد، في مجلة “الرسالة” مايو 1933، أنه كان وكيلا للنيابة بمدينة المنيا، عام 1905 حين قدم الإمام محمد عبده من السودان، فنزل عنده، وحضر لتحيته الوجهاء، وقال له أحد رجال المحكمة الشرعية “إن كثيرا من النصارى يدخلون في الإسلام، فتضاعف بذلك شغلنا. فقال له الإمام: فيمَ تشتغل أيها الشيخ؟ فقال نعلمهم أركان الدين. فقال له: يكفي أن تقول له: صلّ وصمْ وزكّ وحج. فقال: ولا بد أن نعلمه الوضوء. فقال: قل له اغسل وجهك ويديك إلى مرفقيك وامسح رأسك واغسل رجليك. فقال: ذلك لا يكفي ولا بد أن نعلمه حدود الوجه من أين يبتدئ وإلى أين ينتهي. فقال الشيخ بصوته الجهير في شيء من الحدة: سبحان الله يا سي الشيخ! قل له يغسل وجهه! كل إنسان يعرف حدود وجهه من غير حاجة إلى مسّاح!”.

تنتعش “هيئة المساحة الدينية” بإشغال الناس بالفتاوى، ما يفيدهم وما لا يفيد. وتدل التجربة التاريخية على ميل أعضاء نادي “المساحين” إلى التحريم. في نهاية القرن الخامس عشر أفتى رجال الدين لدى السلطان بايزيد الثاني بحرمة المطبعة، فأهدروا بضعة قرون كان يمكن فيها للعالم الإسلامي أن ينهض، ويتصدى لأطماع أوروبا في بلاد المسلمين. وشهدت مصر في القرن التاسع عشر جدلا حول الوضوء من ماء الصنبور. وامتلك مفتي الحنفية جسارة الإجازة، فتم تعميم “الحنفية”، وسجلت للأحناف قدرتهم على التحرر من سلطة التقليد. وصدق على رجال المذاهب الثلاثة قول الإمام محمد عبده “إن المسلمين لا يتساءلون إلا في ما تظهر فائدته، ليحرموا أنفسهم منه”.

ضاع أغلب تراث الشيخ محمد رفعت، لاعتقاده بحرمة تسجيل التلاوة القرآنية. لم يكن الشيخ فقيها، ولكنه استجاب لفتاوى زمانه. في تلك الفترة نشر تحت عنوان “منع الأسطوانات القرآنية” خبر عن حظر دخول أسطوانات القرآن الكريم، “بناء على طلب وزارة الداخلية وبناء على إفتاء مشيخة الأزهر بعدم جواز ملء القرآن الكريم في أسطوانات الفونوغراف. يجب على فروع الجمارك منع إدخال أسطوانات القرآن الكريم للقطر (المصري) وأن يقوم أصحابها بإعادة تصديرها”. كما ضاع تراث القارئات، بسبب فتوى “صوت المرأة عورة”. وفي كتاب محمود السعدني “ألحان السماء” نماذج لقارئات منهن الشيخة منيرة عبده، وكان أجرها خمسة جنيهات، نصف ما كان يناله الشيخ رفعت.

التشدد لم يضيّع فقط جانبا من التراث الصوتي للقرآن، بل أنهى عهد بعض القارئات بالتلاوة. كانت الشيخة سكينة حسن أول قارئة تسجل تلاوة القرآن بصوتها في أسطوانات، في بداية القرن العشرين، ولها في موقع يوتيوب تلاوات من تراث شركة “أوديون” الألمانية، وانتقلت إلى الغناء، لأن “صوت المرأة عورة”، وفقا لفتوى قائمة يتمسك بها دواعش مهمتهم أن يصبر الناس على أذى الاستبداد العسكري، خوفا من جرائم الاستبداد الديني. أحدهم اسمه وجدي غنيم، استوطن تركيا بعد الدوحة، وغرّد يوم الخميس 24 سبتمبر 2020 داعيا المسلمين إلى النزول في الغد، فهذا واجب ديني، “في سبيل إقامة دولة الخلافة انزل وكسر وخرب مباح شرعا”.

في 24 سبتمبر أيضا، بشّر عماد عبدالغفور، مؤسس أحد الأحزاب السلفية وكان مساعدا للرئيس الإخواني محمد مرسي لملف التواصل المجتمعي، “بكرة في جمعة الغضب بإذن الله لو ربنا كرمنا ودخلنا التحرير مش هنسيب جزء سليم في المتحف المصري ويتبعه إن شاء الله المتحف المصري الكبير وأي حاجة هو عملها هنعرف نخربها هنخربها بإذن الله”. أمنية عبدالغفور ليست مجرد تغريدة تضاف إلى هلوسات وجدي غنيم وكوابيسه، كوابيسنا. وإنما هي فتوى يتلقفها حشد مستلب الوعي، ويحاول تنفيذها، اعتقادا بأن ما يصيب “المجاهد” من قتل أو اعتقال “في ميزان حسناتك” كما أفتى الغنيم. فهل تذكّرك تغريدة عبدالغفور بشيء؟ ارجع إلى 16 يونيو 2013.

في ذلك اليوم رفض أهالي الأقصر دخول المحافظ الجديد عادل أسعد الخياط المنتمي إلى “الجماعة الإسلامية”. للجماعة سجل إرهابي، ومن إنجازاتها غزوة معبد حتشبسوت، مساء 17 نوفمبر 1997، وقتل 58 سائحا وأربعة مصريين. واحتجت سويسرا (36 قتيلا) واليابان (10 قتلى) على تعيين المحافظ الذي سألته الإعلامية ريم ماجد عن تصريحات منسوبة إليه، يصف فيها الآثار بأنها “أصنام وحرام”، وإذا لم تهدم فيجب تغطيتها؟ فأجاب “لم يصدر لي أي تصريح بشأن هذه الأصنام إطلاقا”. فسألته “هل قلت: أصنام؟”. استدرك “هذا تراث وتاريخ إنساني يجب الحفاظ عليه”. ومازلنا شهودا على فيلم طويل بائس، يفيض بجهالات وفتاوى وحماسة فارغة. ولا عاصم لنا إلا الوعي.

*روائي مصري

Exit mobile version